بائع الورد في المعادي.. كأنّه يضع المتفجّرات

بائع الورد في المعادي.. كأنّه يضع المتفجّرات

30 اغسطس 2017
(Murray Close)
+ الخط -

إن كنت ممن سيحالفهم الحظ وتذهب إلى منطقة المعادي في مصر، وتحديدًا آخر شارع 9 وتقاطعه مع الشارع التالي؛ سترى كشك ورد على الناصية، صاحبه رجل في حدود الأربعين. أسمر، نحيل، شعره خفيف، والصلع بدأ يزحف إلى رأسه من المنتصف تقريبًا.

مررت أمام الكُشك منذ حوالي سنتين تقريبًا، ورغم أنه مجرّد مرور عابر لم يستغرق أكثر من دقيقة لكني مازلت أتذكّر شكل رصّة الورد وتناسقها الذي يحمل بين طياته ذوقًا رفيعًا.

عندما قادتني الصدفة إلى هناك أواخر العام الماضي، صممت هذه المرّة أن أدخل. قمت بتحيّة الرجل فبادلني إياها بـ ود حقيقي، وشدّ على يدي بشكل أدهشني كأنه يعرفني، سألته : "إحنا اتقابلنا قبل كده؟". رد: "ماتشرفتش؛ بس فاكرك وفاكر الآنسة اللي كانت معاك". تعجّبت وقلت له بسرعة وملامحي تكتسي بالجديّة: "الله، دا أنت مركز قوي"، أكمل كأنه لم يسمعني: "جيتوا وسألتوا على السعر ومشيتوا وماشترتوش". قلت: "وقلبك أسود كمان". ضحك وشاور على كرسي بلاستيك مستدير موضوع جانبًا.

جلست وقلت له على طلبي، أحضر حزمة ورود من داخل أسطوانة بلاستيكية بيضاء طويلة وهزّها قليلًا حتى يُزيح قطرات المياه العالقة بها، ووضعها على المنضدة باهتمام وحساسية كأنه يضع متفجّرات. أمسك الكاتر - أداة حادة تشبه السكينة - وبدأ يقطع بالطول وبسرعة احترافية شوكًا على عود وردة حمراء. كان يتحدّث وهو يعمل وكلّما ينتهي من وردة يمسك التي تليها ويكمل وهكذا.

دارت عجلة الكلام، وعرفت منه أن اسمه أبو أحمد، يعيش منذ 15 عامًا داخل كشك الورد. يعيش داخله معيشة كاملة ولا يتعامل معه أنه مكان "أكل عيش" فقط، أكله وشربه ونومه في الكُشك. ماذا عن الحمام والاستحمام؟ يقضي ذلك في غرفة أحد أصدقائه يعمل بوابًا في عمارة.

تخيّل فكرة أن تختصر عالمك كلّه في مساحة لا تتجاوز تسعة أمتار مربّعة. تكلّمنا في كل شيء. الحقيقة أن أبو أحمد رجل كتوم ولا يقول إلّا ما يريد أن يقوله؛ لذلك فشلت كل محاولاتي لأعرف لماذا لم يتزوّج حتى الآن، وإن لم يكن هناك زواج فما قصّة لقبه "أبو أحمد ". الجملة الوحيدة التي خرجت بها منه عن حالته عندما قال: "عِشرة الورد مش زي أي عِشرة؛ حد يطول يصطبح بالجمال كل يوم". قلت له : "أنا جاي أشتري منك النهاردة بالصدفة والله، وكويس إن ده حصل عشان ماتزعلش من المرّة البلوشي اللى فاتت".

سحب يده بحسم وأوقف ما كان يفعله كأنه يهدّد وقال: "لأ يفتح الله؛ لو مش عايزه هو مش كمان مش عايزك"، رديت: "يا عم خلاص بهزر"، سألني: "تشرب شاي؟". قبل أن يسمع جوابي وضع البراد على السخّان الكهربائي، وأكملنا حديثنا. عرفت منه أن فلسفته في الدنيا هي أنه لا حاجة له بالتعامل مع الناس إطلاقًا؛ لأن الناس من وجهة نظره مثل الورد والدنيا مثل كُشك الورد الخاص به تمامًا.

أمسك عود وردة بيضاء ورفعها أمام وجهه وقال وهو ينظفها: "الورد زي الناس بس الفرق إن الورد الوحش بتاعه باين؛ شوكه باين، والناس شوكهم مستخبي"، طلبت منه أجرّب، رحب بالفكرة، أمسكت الكاتر وبدأت أقلّده وهو يتابع براد الشاي الذي بدأ في الغليان. أثناء قيامي بمهمّتي قلت: "بس أنت بتعامل الورد بحب كأنه عيّل من عيالك"، رد وهو يصبّ الشاي مستديرًا بظهره: "آه". سألت: "بس أنت بتبيعه ومش بيفضلوا معاك". سألني بتهكّم: "وأنت اللي كانوا معاك أول عمنأول - ( يقصد من قبل ) - راحوا فين؟ وجه بعدهم ولا لأ؟". أجبت: " يوووه راحوا و جه غيرهم وراحوا و جه غيرهم مليون مرّة".

أكمل على كلامي: "وهيفضلوا ليوم الدين كده؛ أنا لما ببيع الورد ببسط غيري". قلت : "بس ماعدش فيه حدّ كويس يا أبو أحمد ". سألني: "يعني نعيش من غير ناس؟". أجبت بسرعة: "ياريت والله". قال: "مانقدرش نعيش من غير ورد؛ ومفيش ورد من غير شوك"، كنت قد انتهيت حالًا من تنظيف أوّل وردة، فأخذها مني ووضعها مع أربعة ورود كان انتهى منها في غلاف سلوفان شفاف، وأنا أمسكت وردة جديدة وهممت بالاشتغال عليها. أحضر كوب الشاي الخاص بي ووضعه أمامي. أثناء عملي دخلت شوكة لم أنتبه لها في إصبعي فألقيتها وصرخت رغمًا عني بصوت عالٍ من شدّة الألم.

تناولها من على الأرض وظننت أنه سيكمل هو العمل بها لكنني فوجئت به يناولها لي مرّة أخرى فتمنّعت وقلت له: "لا يا عم شغلانتكم صعبة". أصرّ قائلًا: "كمّل كمّل؛ بديت حاجة يبقى كمّلها". قلت بحذر: "هتشك تاني"، رد بسرعة: "ما أنت فهمت وخدت بالك، ولو اتشكيت تاني تبقى آآآآ ". صمت قليلًا وسألني: "بدون زعل؟".. رديت: "آه طبعًا". قال: "تبقى لا مؤاخذة حمار" . تركته يكمل هو واكتفيت أنا بمساعدة بسيطة له متحجّجًا بشرب كوب الشاي.

أكملنا حديثنا وأثناء قيامة بقطع شوك آخر وردة؛ دخل شيء ما في يده فرمى الكاتر وصرخ. كان واضحًا أن شوكة أصابته هو أيضًا. بصراحة لم أتمالك نفسي من الضحك وأنا أنظر إليه؛ فانفجر هو أيضًا ضاحكًا وقال: "ما هو أنا برضه حمار وما بتعلمش".

إجمالًا، كانت جلستي مع أبو أحمد جميلة ومليئة بالتفاصيل التي لن أنساها. بعد أن انتهى قام بجمع كل أعواد الورد الجاهزة وربطهم سويًا بما يشبه الأستك قائلًا وهو يعمل: "لما بنخلّص البوكيه وقبل ما نقفل عليه السلوفان لازم نربط الورد مع بعضه بـ وتد؛ ماينفعش يخش جوا السلوفان بدون ربطة تشدّهم وتمسكهم ببعض، فاهمني؟". أجبت: "أيوه". واصل : "لو هتخش السنة الجديدة وأنت معندكش سند تبقى داخلها عريان". ناولني البوكيه وأعطيته النقود. دسست أنفي ووجهي كلّه داخل البوكيه واستنشقت عبيره كأني لن أستنشق هواء بعد ذلك. دامت رائحة الورد فى أنفي حتى الآن، واحتفظت بالبوكيه وأنا متأكد أن ورده لن يذبل.

المساهمون