السويس.. دخلاء يعزفون السمسمية

السويس.. دخلاء يعزفون السمسمية

24 اغسطس 2017
+ الخط -

كنّا صغارًا، صغارًا جدًا. كأسماك رائجة في شتاء السويس تدعى "البربوني". أسماك صغيرة لونها أحمر، لا تأكل سوى القشريات. لهذا هي حمراء، قشرها أحمر، لحمها القليل مغطى بصبغة لذيذة حمراء؛ أسماك سريعة الحركة، تؤكل كلّها للين شوكها، محبوبة من الجميع. هكذا كنّا؛ أطفالًا صغارًا لا يتوقفون عن الحركة، تلوِّح على وجوههم شمس قويّة تطلّ من جهة الخليج الضيّق وتسقط وراء الجبل الداكن.

وهم البحر
كنا أطفالًا ينتظرون نهاية الأسبوع ليهرولوا إلى شاطئ الخليج. خليج صغير يستريح إلى سفح جبل من صخور نارية؛ خليج تستريح فيه السفن الضخمة قبل أن تحبو ببطء في ممرّ قناة السويس الضيّق. خليج ليس فيه أي فرصة للسباحة، تتراكم الصخور على شاطئه، تنحسر عنه المياه، فنُشمِّر سراويلنا ونتلمّس الرمال المشبعة بالمياه والملح، نلتقط القواقع والمحار. ونمشي خمسين مترًا، مائة، مائتين، حتى نتلمّس بأقدامنا مياه الخليج الدافئة، الهادئة.

كنا صغارًا، نتوق لنهاية الأسبوع حتى نزور البحر، هكذا كان الأمر، أن نزور البحر. كان البحر بعيدًا عنّا في خيالنا، رغم أنه قريب (خمس عشرة دقيقة حتى نصل إليه). كان البحر قريبًا في الزمن. قريبًا كمشهد لا كاستخدام. لا سباحة في الخليج. منسوب مياهه أقل من أن يكون للسباحة. والسفن الضخمة قريبة، نخاف منها. ممنوع أن نسبح. هذا كورنيش للتمشية ممنوع أن تنزل إلى المياه، ممنوع أن تلتقط المحار. فنتسلل في الصباح قبل المدرسة، وفي الليل خلال عطلات الصيف، نتسلّل لنمارس مشاغبة مع البحر، مع وهم البحر، فتعلو موجاته قليلًا، وكأنها ترد مشاغباتنا، بمشاغبة تترك أثر الملح على سراويلنا حين يجف الماء، فيفتضح كذبنا حين تسأل الأمّهات: لم تأخرتم؟ يفتضح كذبنا بعدما أوهمنا أمهاتنا بأننا لن نذهب إلى البحر.

وكم من مرة اقشعر فيها جسد الطفل كلما جلس على صخور الخليج، وهو يرى الشمس تطعن الأفق وتسيل دمه، ثم تهرب وراء الجبل. كم من مرة سقطت الدماء في مياه الخليج. وكم من مرّة أفاق الطفل من براءة الطعنة على أثر الرائحة القادمة من شعلات مصانع تكرير البترول التي تنتصب بين الخليج وسفح الجبل، وكأنها تحرق الجبل، وكأنها تخرج ألسنتها المشتعلة للطفل، ضاحكة: لأفسد المكان، لأمزِّق لغة الوصل مع المكان. فيتوقّف الخليج عن مشاغبات موجه، يتوقف الجبل عن التراقص بين ظل وضوء، ويحلّ الظلام، ممتدًا في الأفق، لا يقطعه سوى الضوء الكريه لألسنة الشعلات المتمايلة وكأنها تمارس رقصة عصبية طوال الليل.

وما الذي كان أسوأ من أن تصرخ الشعلات في وجوهنا لتطردنا من البحر؟ ما الذي كان أسوأ من إفساد عمدٍ لمشهد وحيد في مدينة صغيرة إلى حد أنها لا تحتاج إلى أكثر من شارع رئيس وحيد لتراها من أوّلها إلى آخرها؟ ما الذي كان أسوأ من هذا سوى أن تنطفئ هذه الشعلات، فتتلبّد السماء بغمامات سوداء، وتهرول رائحة البترول الكريهة ممسكة بكل جنبات الهواء، فنهرب ليس فقط من البحر، بل من المكان كلّه، من الشوارع، من المدينة، ونختبئ في البيوت، نختبئ ونغلق النوافذ والأبواب طوال الليل، فنختنق حرًا لو كان الوقت صيفًا. ونكره المكان، نكره المدينة والبحر والجبل والضيق.

ولو انطفأت الشعلات في ليل شتوي، تتشبّث الرائحة بالهواء لوقت أطول، فتمتلئ صدورنا بها في ذهابنا إلى المدرسة صباح اليوم التالي، فنكره المدرسة كرهًا آخر إلى جوار الكره الأوّل الحاضر في كل طفل ولد بجوار البحر ناحية مدرسته. وهكذا، في البرد أو الحرّ، لا يغادر الاختناق المكان حتى يعيدوا الحياة إلى اللهب، وتتفتّت الغمامات السوداء. ليكن شرًا أقلّ من شرٌّ إذن. ليكن لهبًا يطاردنا في مواجهة البحر، أهون من انطفاء لهب يطاردنا في كل المدينة.


زيف موسيقى السمسمية
وعينا المدينة بسيطة، كانت بسيطة منذ الطفولة، أبسط حتى من بيتنا الصغير. شارع عريض يمتد من بدايتها الآتية من طريق السفر إلى القاهرة، ويصل إلى نهايتها التي تبدأ عندها القناة. وعلى جانبي الشارع، بدت المدينة كضفتي نهر من الإسفلت. وعلى ضفة النهر الغربية كان بيت صغير، دون شرفات واسعة، فقط نوافذ صغيرة تطل على الصخب الأكبر في مدينة تظنّ حين تدخل بداياتها أنها مهجورة منذ أمدٍ.

وكم من مرّة تسلّلنا لنعبر الطريق النهر، وكم من مرّة عوقبنا. الطريق خطر، الطريق تهرول سياراته عمياء. تراقبنا الأمّهات من النوافذ المواربة، تصرخ فينا حين ترانا نجري، نقطع الطريق، ونضحك بصوت عال، نحن هناك، في الضفة الأخرى، حيث الهواء أخف، حيث الظل أنعم. أو هكذا كنّا نظن.

شارع واحد يتحرك فيه الجميع ذهابًا وإيابًا. جميعنا نذهب بداية النهار إلى هناك، إلى النصف القريب من القناة، حيث تتكتل مدارسنا، ومن ثم نعود عصرًا مكدّسين في سيارات الأجرة، وحين انتزِعت الطفولة منا مع بدايات الصبا، حين تخطينا العاشرة من العمر بصعوبة، أمكننا أن نركب السيارات واقفين على عتبة بابها المفتوح، ممسكين بشبكة سقفها. ويا لها من متعة ألا يجذبك رجل عجوز من يدك ليدخلك إلى جسد المكيروباص المزدحم بالأنفاس والعرق لأنك لا تزال صغيرًا. يا لها من متعة ألا تكون صغيرًا، أن يمكنك تتبّع الزحام، وتفكّر: كيف يتحرّك الجميع هنا في اتجاه واحد؟ كيف يتحرّك الأغلب في نسق واحد جيئة وذهابًا؟ ياله من مضجر هذا التطابق. يا له من ضيق أن تكون حركة المكان كلّه على هذا الحال.

وحين كبرنا، حين خرجنا لأوّل مرّة من أسر ضيق المدينة وطريقها، حين أخذنا الطريق إلى القاهرة في أوّل زيارة مع تخطّي العاشرة، بدت مدينتنا كلها وكأنها كفٌّ يمتد متصلًا بطريق أشبه بذراع ينتمي في الأصل لجسد العاصمة المكدّسة المزدحمة الملوثة الصاخبة. كأن مدينتنا تصغير لكل هذه الصفات، على قدر صغر المكان. ليست فقط هذه الصفات، بل في كل تفاصيل المكان تقريبًا. وباستثناء النهم إلى السمك، غزارته، وألوانه، كانت المدينة، في ملابس أهلها، موسيقاها، أصواتها، أشبه بمحاولة سيئة للتشبّه بقاهرة قريبة بعيدة.

وحين كنا نجد في التلفزيون مشاهد من مدينتنا، كنا نشعر أنها مدينة غير التي نعيش فيها. مدينة يلبس أهلها كما يلبس الصيادون، يغنّون أغاني فلكلور شعبي ويعزفون على السمسمية، ويرقصون بطريقة لم نرها من قبل في شوارعنا، ولا حياتنا إلا حين يفتتح المحافظ منشأة جديدة.

كرهنا السمسمية إذن، كرهنا أن يلبسنا أحدهم غصبًا ما يريده. كنا أطفالًا، نسخر من عازفي السمسمية في المناسبات الرسمية. دخلاء هؤلاء العازفون، دخلاء لا يفهموننا ولا نفهمهم. بقايا من وقت مضى منذ أمد كاف لأن يُطمس ويُمحى ويُنسى. كانت المدينة مشغولة بلحظتها، تمارس بعنف أكبر سماع ما كان رائجًا في العاصمة، كل ما هو شعبي في العاصمة كان يتسلّل بطريقة ما إلى جسد المكان المالح. فيصبح لاذعًا على نحو أكبر. رغم ذلك، لم يكن في إمكاننا أن نكون القاهرة، ولكن لم يكن في وسع المكان أن يكون كما يصوَّره في التلفزيون.

لأهرب إذن. لأهرب بِكرهٍ من المكان، من الطفولة والصبا، من الضيق. لأهرب بِكرهٍ إلى الفضاء المزدحم الملوث في جسد العاصمة؛ ولأنتقم إذن بعنف من النيل الكسول، وإيقاع مدينته الكبيرة حدّ التيه، الخانقة روحها حدّ الانقباض.

المساهمون