رسالة إلى الخارج: نحن بخير هنا، قسمًا بالله

رسالة إلى الخارج: نحن بخير هنا، قسمًا بالله

03 يوليو 2017
(تصوير: عامر المهيباني)
+ الخط -

سمعنا أنكم لستم بخير؟ أنكم لا تتفقون جيدًا معاً في الخارج؟ هل أنتم متعبون؟

نحن اندمجنا جيدًا في الداخل الجديد، اعتدنا انتظار الفرج.  بينما عليكم تحمل مراكز التوظيف، تلعنون "الجوب سينتر" كل الوقت بدلًا من لعن انقطاع الغاز والكهرباء وتقنين الماء والغلاء وقلة الحيلة والراتب.

تدرسون طوال الليل لتستيقظوا باكرًا إلى مدارس تلقنكم مع اللغة الجديدة آدابًا جديدة، كضرورة الابتسام مثلًا. هل يعلمون أننا -نحن العابسين-تعلمنا منذ طلائع الابتدائية أن الضحك من "قلة الأدب"، وفي الشبيبة تعلمنا أن في الابتسام استخفاف بالقضية، فاستبدلناه بالصراخ والركض في باحة المدرسة وأروقتها وانتزاع ألواح مقاعد الدراسة من مكانها وحفر أسمائنا وأسماء أحبتنا على الجدران جنبًا إلى جنب مع الشتائم البذيئة.

أولادنا سيتعلمون الابتسام في مدارسهم الأوروبية إذًا؛ حيث في باحات اللعب يوجد حقًا ألعاب، بل وبعض الورود أيضًا. سيتعلمون أن يجلسوا صبيانًا إلى جانب البنات، وأن الإجازة تعني نزهة نحو البحيرة حيث لا يخاف البط من صغار البشر، سيلعبون مع بعضهم ويتعلمون ألا يقتلوا صغار القطط.

نحن بخير هنا، ونعلم أن الحنين يقتلكم، لا بأس؛ فاللهفة للخروج تقتلنا نحن كذلك، الخروج قليلًا ولو من واقعنا فقط، وليس بالضرورة من جغرافيا المكان، هذا كل ما في الأمر. لكننا أحياء بشكل جيد جدًا: قلب (عدد واحد) ورئتان، وكبد وربما يدان وقدمان. في أغلب الأحيان هذا هو التعداد الصحيح.

الأشجار بخير في الحقيقة. رغم بكائي على الأشجار في رسائل سابقة. لكنها واقفة، أما المحروق منها فنحاول أن نزرع بدلًا عنه، بجد خالص وخفية عن مكاتب التشجير التي تطردنا بحجة أن "لا غراس لدينا اليوم؛ عودوا غدًا". وخفيةً عن حراس الغابات الذين اتفقوا مسبقًا مع لصوص الأراضي على مساعدتهم في الاستيلاء على الأراضي المحروقة مقابل حطب يكفي الشتاء وقسائم بنزين تباع في السوق السوداء بثمن يكفي مؤونة المكدوس لعام كامل. هناك حملات تشجير كثيرة. ونعود بعد التشجير نراقب شجراتنا: من منها استطاع التشبث بالأرض ومن لم يستطع.. وهكذا.

والطبيعة بخير، ثعالب الغوطة الشرقية التي أقمنا عزاءها -مثلا-وبالمكر المعروف عن الثعالب، هي بخير، تدعي الموت على مفترقات الدروب الترابية وتحت الشمس حتى إن انتهت الحرب قامت، نحتال جميعًا على الموت، كل بطريقته.

المال متوفر أيضًا، وليس فقط بيد تجار السلاح والحرب ومهربي البضاعة البشرية ورجال العصابات (التي تتحدث عنها المسلسلات السورية مطولًا في المواسم الرمضانية)، بل أيضًا لدى أصحاب الأموال والمستثمرين، وبعكس القصص البوليسية التي يحب العامة -مثلنا- تخيلها عن أولئك المستثمرين؛ لا مرافقة لديهم ولا يؤمنون بالسلاح، ويحبون السفر والفن ويديرون شركات إنتاج ومشاريع سياحية وكبيرة، وفنادق يدشن بعضها وزراء، أو مسؤولون أقل شأنًا مع كاميرا وصحافة محلية.

البارات ومقاهي النرجيلة على اختلاف نكهاتها للشباب والصبايا مع زوايا قليلة مخصصة للعائلات... كلها بخير وبأسعار تناسب الشارع المحلي. مستثمروها شباب صغار بطموحت كبيرة، الحرب بطريقة مدهشة تصنع سوقها النظيفة كما لها سوق قذرة: سوق للمشاريع الصغيرة المتعلقة بالسعادات اليومية –منافذ خارج الخوف- فأصبحنا نتمسك بها أكثر وبانفعال أكبر، أن نمارسها قبل الموت المرتقب الذي تتحدث عنه الجرائد وآخر شائعات البيت الأبيض.

وحتى المشروبات الكحولية لا تكلف أكثر بكثير من العصائر، فمع الفودكا الوطنية وبعض الصبغات الغذائية وربع ليمونة حامضة لن تعرف تمامًا ما تشرب، وستكفيك كأس ونيف لتحلق مع السحاب ليومٍ وليلة. المطاعم لم تتوقف أبدًا ومازلنا –نحن البشر الصامدين- في بحثٍ دائمٍ وجديّ عن أفضل مطعم فول وفتة.. أجل.

في المنزل، وإن خذلنا محل الأجبان والألبان المجاور، نشمر عن سواعدنا ونرتدي أفضل أحذيتنا وندور الأحياء المجاورة حتى باب سريجة نبحث عن الأفضل، ونتذوق منتجاتها لنتأكد قبل أن نشتري، ونشتري.

سياحتنا مزدهرة؛ نسوح في الشوارع صباحًا مساءً، وفي وقت الإفطار رجالاً ونساءً، محجبات وسافرات، مجلببات ومنقبات، غير مبالين ببقع العرق تحت آباطنا، نثرثر في الحمرا والحميدية والشعلان وشارع جرمانا الطويل ومحلات الدويلعة الضيقة نبحث عن ثياب العيد.

حتى حقوق الإنسان ازدهرت عندنا؛ حيث تقوم جمعيات ومنظمات كثيرة بالدعاية والترويج لهذه الحقوق مع دورات مجانية عن القانون الدولي والإنساني ومؤتمرات الأمم المتحدة، وكلها بشهادات حضور مرسومة بالخط الكوفي أو الرقعة. ومعها دورات خياطة للنساء النازحات أو اللواتي فقدن أزواجهن في الحرب. لدينا أيضًا ورشات عمل من أجل\ضد العنف ضد النساء والأطفال -طبعًا لا أحد حتى الآن يعترف بالعنف ضد الرجال، لكن لا بأس بالدارج الآن كخطوة أولى– النساء هنا في أفضل حال، أقسم بالله. كشفت الحرب عن صلابتنا أمام هزائم الرجال. زادتنا حنوًا وعقلانية على المساكين.

رجالنا في الحرب المساكين عندما يخسرون وعندما يربحون. نساؤنا نزلن سوق العمل وصرن خبيرات خياطة وحبكة وأجبان وألبان ونزع شعر تقليدي ومتطور بالشمع والعسل والسكر، خبيرات بأسواق الخضار وأسعار الدولار واليورو ومكاتب تحويل الأموال ومكاتب تأجير البيوت شبه المفروشة، وأماكن بيع جرار الغاز غير المعطوبة، وطرق فكها وتركيبها بالسرعة القصوى قبل أن تتأثر طنجرة المحشي العظيمة فوق الغاز (استبدلنا لحم الخروف بلحمة الصويا المحلية بسعر يورو ونصف للعلبة التي تكفي طنجرتين كبيرتين محشي ، أجل).

ومن دون أدنى تدخل دولي تحققت المساواة، كلنا تساوينا في مواقع العالم الافتراضي: تعرّف الجميع على الجميع، وتواصل الداخل مع الخارج بأمال الخروج أو العودة، مع كل أصناف العلاقات: حب، علاقات عابرة ودعارة. كلنا نساءً ورجالًا ومثليين وبالتحديد المثليين –قلبي معهم- أخيرًا أضحى لهم صوت وحضور وأماكن وأمزجة بفضل هستيريا الخوف من الموت والسفر والعزلة والعُصابات. جميلٌ أن نكون كلنا هنا بوجوهنا الحقيقية وبلا ادعاء.

الشعراء في كل مكان والكثير من الإعلاميين والإعلاميات. بعضنا كما الضباع أمام فريسة جريحة، نتراكض ونأخذ صورًا للبارات في الأماكن التي أضحت آمنة، وللسياح المحليين -بثياب بحر ملونة من محلات الألبسة المستعملة "البالة"- وهم يفترشون الشواطئ المجانية الثلاثة المتبقية لكل أطياف السوريين وطوائفهم ومناطقهم من إدلب إلى درعا. تتبعها صور الشهداء من هنا وهناك، وأكياس سوداء كبيرة تظهر منها أقدام صغيرة. أطفال وقد حُصدت أعضاؤهم الحيوية بسرعة ومن دون ألم.

صور كثيرة ربما تنشر في جريدة ليراها لاجئ في فرنسا –مثلاً-، داخل مترو أنفاق حديث ونظيف لا رائحة للخراء تتسرب من حماماته ولا بول يبلل أرضه، فيبصق على هذه الحرب التي أودت بما كنا نعتقده أنه حياة. لكننا بخير.

نحترم ونشكر اعتصاماتكم ومسيراتكم ومظاهراتكم المرخصة في شوارع أوروبا والمحمية بعناصر شرطة لن تطلق الرصاص "ضد" و"مع "و "من أجل ". حتى لو لم تنفع بتبديل رأي الحكومات ولا حتى بإحداث ضغط ولو صغير من الشارع الأجنبي ليضغط على حكومته، كما يبدو واضحًا من تصريح الرئيس الفرنسي الأخير وقبله ترامب وهزة رأس من الاتحاد الأوروبي.

بالتأكيد لم تنتج اعتصاماتكم أي أثر، وسمعنا أنكم تخونون بعضكم في الخارج، وترفضون مشاركة بعضكم في الاجتماعات، تتهمون بعضكم بالعمالة بأصوات مرتفعة وصراخ وسباب. لا بأس، سنتعلم لاحقًا كيف نتعارك بصوت خفيض، وكيف نرسم خطة لا تكون ذواتنا فيها هي الهدف.

كما أنكم معذورون فأنتم متعبون، ومخذولون مثلنا، ونعلم كم تأكلكم وحدتكم التي لم يخترها معظمكم هناك. بينما نحن هنا نشكو لبعضنا ونبكي على أكتاف جيراننا ونلعن النظام والمعارضة والأخبار والمتحدثين الرسميين ومكاتب السفريات والمهربين والموت والحياة. أجل أنتم متعبون بوحدتكم هناك، مجبرون على الابتسام أمام الأوجه القوقازية والعيون الزرقاء التي تنتظركم بفارغ الصبر لتندمجوا.

علموا أولادكم أننا كلنا نستحق حياة أفضل هنا وهناك –اتركوا الرماية والسباحة وركوب الخيل، فسيتعلمونها في الجنس على كل حال- علموهم ألا ينسوا اللغة، ألا يخجلوا من بشراتنا الكالحة وأقدامنا المغبرة، أخبروهم أننا لو سمح لنا باللعب في باحات المدرسة والضحك بصوت عال بدلًا من دروس القضية القومية، لكنّا أجمل الآن.

نحن بخير. كونوا بخير.

المساهمون