"نقطة بيضا" لـ كايروكي.. الغناء كما يتكلّم الناس

"نقطة بيضا" لـ كايروكي.. الغناء كما يتكلّم الناس

27 يوليو 2017
(الفرقة)
+ الخط -

يمكننا القول إن ألبوم "نقطة بيضا"، لفرقة "كايروكي" المصرية، هو نقطة بيضاء فعلًا في تاريخ الفرقة (تأسّست عام 2003)، على مستوى إنتاج الموسيقى ذاتها على الأقل. الفرقة التي ثبتت على اختياراتها الموسيقية في خط واضح للنقد الاجتماعي والسياسي، بغض النظر عن جودة المنتج الكلامي؛ نجحت في تكوين جمهورها عبر سنين وأحداث طويلة، وإنتاج غزير وملابسات اجتماعية عنيفة حرصت على مواكبتها بالموسيقى، ونجحت في أن تكون حرة الإنتاج من خلال تكوينها لشركة تملكها بما يتيح لها التحكم الكامل في العناصر الفنية، بعيدًا عن الإعلانات والأغاني محددة المواصفات المطلوبة لها.

على مستوى الألبوم، فبالرغم من عادية خطوط لحنية كثيرة للآلات كل على حدة، خاصة السولوهات -العزف المنفرد- إلا أن البساطة كانت العامل المتكرر والمسيطر من الناحية الأخرى على الانسياب اللحني والهارموني عبر الألبوم. جاء الإنتاج الموسيقي متميزًا في جودته من حيث التسجيل وأصوات الآلات والميكساج-المزج والصوت النهائي، في حين أنها التجربة الأولى لعمرو جلال كمنتج فني مساعد لألبوم كامل ضمن مشروع يخص فرقة لا تخصه فقد أثبتت التجربة أنها ناجحة بالفعل. هذا الاحتفاء بالألبوم لا يرجع إلى كون المجهود خارق موسيقيًا، لكن إلى كونه غير مألوف على الأذن لمستمع عربي وموسيقى مصرية مصنوعة في مصر من حيث الجودة.

الكلمات، بالرغم من عدم إحكامها وسذاجة التعبيرات أحيانًا -وهذا لا علاقة له بتعبيرات لغة الشارع التي من الطبيعي استخدامها في الأغاني كما نستخدمها يوميًا- إلا أنها وضحت إحراز مغني الفرقة، أمير عيد، تقدّمًا طفيفًا في طريقة كتابته للكلمات، إلا أنه لم يستمر على طول الألبوم، كما حدث أيضًا في أدائه الغنائي من حيث تقطيع الكلام بتفعيلاته على الجمل اللحنية، أو من حيث أن يغني كما يتكلم الناس يوميًا، من ناحية النطق لا الصوت.

أمير عيد



أفلتت من هذا أغنية "الكيف"، برغم أنها غريبة على اللون الغنائي الذي اتخذه أمير، المعروف بأنه يقدّم نفسه بروح مرحة ومتواضعة دائمًا على السوشيال ميديا: "صوتي وحش ومبعرفش أغني"، لكنه في الوقت نفسه يُصنَّف كمغني روك لطبيعة أغاني الفرقة.

يبدأ العَمل مع أغنية "نقطة بيضا". برغم عدم وضوح المفتاح الزمني للأغنية على طول الخط، خصوصًا مع الجمل الكلامية المتصلة والجمل اللحنية السايكيديليك التي لا يتضح فيها أين تبدأ وتنتهي الجملة بطبيعة الحال، عدا ثيمة الأغنية في الخلفية التي يحافظ عليها الغيتار الأول. يدرك المستمع هذا بعدم سهولة تقطيع الجمل بتساوٍ يمكّنه من حفظها. مع هذا؛ فالأغنية قطعة فنية جميلة، بسيطة ومكتملة، وميزتها الكلمات السلسة عن الصراع الداخلي بين شخوص الفرد الواحد. وموسيقيًا، يُلاحَظ أنّ خطوط الهارموني الصوتي المتعددة صُنعت بعناية جديدة، ولا نبالغ حين نقول إنها أتم أعمال الألبوم موسيقيًا.

أكملت أغنية "هدنة"، التي كتبها أمير عيد على قالب الراب الذي أصبح يتكرر كثيرًا مع أغانٍ يؤلّفها، الثيمة الأساسية للألبوم في تناوله لصراع الفرد واغترابه عن مجتمعه، في كلمات كاشفة وربما صادمة. أما موسيقيًا فالأغنية ليست بثقل الأغنية الأولى ولكن الجودة ما زالت واحدة.

يستمر اللون القاتم للألبوم من خلال "كنت فاكر"؛ فالكلمات، رغم صدقها، غير محكمة الكتابة، واللحن متوقع رغم انسيابيته. يبدو فقد الأم موضوعًا مكملًا لثيمة الفقد المسيطرة على الألبوم: فقد النفس والأحلام والأمومة والحب.

تعود الجودة من جديد موسيقيًا وكلاميًا في "اضحك"، برغم أن محتواها عكس ثيمة الألبوم عمومًا، ربما بغرض تخفيف سوداويته، لكنها تخالف العمل تمامًا من حيث دعوتها لـ "التفاؤل"، على الرغم من غموض المغزى الحقيقي للأغنية وتيهه بين النصيحة بالأفراط في الحياة، وبين اللامبلاة: "اعشق كأن الهوى طيب وكله أمان، وفارق كأن اللقا معرفش يوم سكّتك". كما كانت صولوهات الغيتار غير مضيفة، رغم أنه كان ممكنًا أن تشكّل مساحة مهمة محتملة للإضافة، ومن جديد، يُحسب لها تألّق الهارموني الصوتي.

بدَت أغنية "ليلى" خارج إطار الألبوم أيضًا. لعلها أغنية هاوس تناسب الرقص في النوادي.  لكن الكلمات ضعيفة للغاية ومفككة. موسيقيًا، امتازت الجمل التي يؤديها الترومبيت والأكورديون ببساطتها، إلّا أن لاعبيهما هما ذاتهما لاعبا الغيتار والكيبورد بالأساس. لكن مستوى آدائهما على الترومبيت والأكورديون بدا متواضعًا، وعوّض ذلك الهندسة الصوتية وجودتها.

مع أغنية "السكة شمال"، عادت التجربة الشعبية من جديد. للغرابة، نجحت فرقة الروك بصنع أغنيات شعبية المحتوى وأصلية ومطابقة لمواصفاتها المعروفة، خصوصًا عبر استخدام آلاتها. الكلمات خفيفة ولاذعة، حاولت أن تكون بلغة الشارع، وجاء بعضها حشوًا مثل: "اللي صابغ راسه واللي عامله حنه.. موتور خربان من غير منافله"؛ حيث النصفان الثانيان من كل عبارة كانا ملئًا للوزن لا أكثر.

كان سطر الكورس الغنائي النسائي مميزًا، وكذلك الإيقاع الراقص المقسوم؛ حقّق مزجًا جيدًا بين الطبلة والباص غيتار صاحب الخطوط اللافتة. واستُخدم كل من والكيبورد والسينثايزرز والترومبيت في حرفية خلقت صوتًا شعبيًا بأقل تلامس ممكن مع الصوت الشعبي المعاصر المبتذل.

تستمر التجربة الشعبية عبر استضافة المغنين الذين يجيدون الغناء المصري الشعبي، لكن هذه المرة في شكل دويتو مع طارق الشيخ في أغنية "الكيف". والحقيقة أن المنتج كان موفقًا للغاية من حيث دمج الفرقة مع طارق، وحتى من حيث نشاز الكيبورد البسيط المتعمد على الأغلب لمحاكاة الأداء الشعبي والجسر الموسيقي الذي حدث بعد الدقيقة الثالثة من الأغنية ليصاحب ارتجال طارق، والذي يلمّح للمستمع بالمنطقة التي فكّرت الفرقة في إمكانية نقل الأغنية لها. ومن التوفيق وحسن اختيار الإنتاج الموسيقي أن الأغنية ثبتت على هذا الشكل.

أغنية شعبية أخرى، هي "عم غريب"، قدّمت صوت وائل الفشني بشكل موال كمقدمة، ثم دويتو. وائل ذو صوت قوي يجيد الغناء الشعبي والارتجال منذ قدمه فتحي سلامه في فرقته "شرقيات"؛ إذ نلاحظ إجادته للإيقاعات التي يعد من أفضل عازفيها في مصر. هكذا، يحمل صوت حفيد الشيخ طه الفشني بعض لمحات من صوت الأخير وبعضًا من أداء بهاء سلطان على قرب خامة الصوت. تبدو "عم غريب" على غرار "عم بطاطا" لـ علي الحجار، والمقصود بها التعبير عن المواطن المطحون، لكنها جاءت من منظور مستشرق وكلمات مرتبكة المعنى والتراكيب، وكانت موسيقاها فقيرة أفكارًا وأداءً، ما جعل من الآلات الأساسية للفرقة دخيلة على الموسيقى برغم نجاحها في أغانٍ سابقة، ولم يضف لها شكل الدويتو الكثير.

التجربة الجريئة لصنع نسختين مختلفتي اللحن والتوزيع والقالب الموسيقي من أغنية واحدة ليضمهما ذات الألبوم وبتضارب واسع بين لونين موسيقيين، تجربة تستحق الإشادة، خصوصًا أن النسخة الثانية (نقطة بيضا 2) كانت على نفس الجودة بشكل مختلف تمامًا، كما أنّ ترجمة الكلمات لحنيًا بشكل مختلف لم تؤثر على معناها إلا إيجابًا في النسختين. فقط الموال كان دخيلًا في النهاية رغم وضوحه عكس النسخة الأولى. المؤثرات الصوتية، سواء مقاطع خارجية معالجة أو مصنوعة باستخدام الآلات والهندسة الصوتية، استخدمت كما صنعت بعناية فائقة على طول الألبوم.

بمنتهى الذكاء، أعلنت الفرقة عن ثواني من الأغنية التي منعتها الرقابة ما أدّى إلى تأخر صدور الألبوم بسببها، "ديناصور"، وكل ما فعلته الأجهزة هي أنها جعلت الحصول عليها ممكنًا بوسيلة أخرى فقط لا غير.

أغنية "ديناصور" عبارة عن تعبيرات شبابية متداولة للسخرية السياسية من الوضع الذي تمر فيه البلد، ولو أن فكرة الاستغاثة والشكوى للأجداد متمثلين في "أبو الهول" بدت ساذجة قليلًا، لكن الأغنية خفيفة الدم تشي بمجهود موسيقي حقيقي وجدة الموضوع في تركيبه على موسيقى تكنوهاوس التي تحوي مقطعًا موسيقيا إثنيًا، ربما كان المنع لتعبيرات مثل: "أنا مش هستغرب لو شفت ديناصور أو بطريق عالناصية و بـ يسكور".

الأغنية الأخيرة، التي توجت إنتاج كايروكي منذ أطلقها مصحوبة بكليب مثير للجدل منذ ما يقرب العام ونصف، جاءت بعنوان "آخر أغنية"، ومثلت طفرة في الكتابة بكلمات متماسكة في نفس خط النقد الاجتماعي السياسي، وطفرة في الأداء والإنتاج الموسيقي للفرقة.

خلا تصوير الألبوم من الحركة في معظمه، عدا الكاميرا وتناول الأعضاء لآلات أخرى، أو تغيير المغني لوضعه وقوفًا وجلوسًا أو اندماجًا. لم يكن مفهومًا وجود المايكروفونات طالما هذا ليس بثًا حيًا أو تسجيلًا مباشرًا حتى لو كان الغرض أن تؤدي الفرقة وهي تسمع، كما لم يساعد أن نسمع آلات لم تظهر صورتها أو لاعبوها على خلق الشعور المطلوب بحيوية هذه المشاهد، خصوصًا مع وجود المايكروفونات الذي لم يخدم كثيرًا.

في النهاية، يبقى ألبوم كايروكي، "نقطة بيضا"، الألبوم الأكثر جودة موسيقيًا حتى الآن هذا العام، والألبوم الأول من نوعه كألبوم مصور في الوسط المحلي، وربما العالم العربي، والدليل على المجهود الذي تستثمره فرقة مؤمنة بما تفعله وثابتة على خطواتها ومخلصة للفكرة والموسيقى على حد سواء، وتحاول الحفاظ على استقلاليتها وحريتها في صنع محتواها بالرغم من الظروف المؤسفة التي يعيشها صناع الموسيقى في العالم العربي.

 

المساهمون