هناك حيث لا نرتدي الساعات

هناك حيث لا نرتدي الساعات

21 يوليو 2017
سيروان بران
+ الخط -


1
في البدء مسّتنا يد الخراب فاحترقت جلودنا

سقط الجلد وجفّف الهواء الدم

كانت خيوط الضمّاد مكسوة بالتراب

وكان التراب يفوح بالحزن والخيبة

ثم مستنا يد الخراب فسقط لحم أذرعنا

طقطقت العظام في مهب العاصفة

شكّلَ الهبوب فمًا وقال: جئتكم بالموت

فلم تجد هياكلنا شعرًا على الأطراف ليقشعر

ولم نرفض قدومه

ثم مسّتنا يد الخراب فتراكمنا تلالًا صغيرة

كنا شاهدات أنفسنا وكنا قبورًا

ولم نكلّف خزينة الأرض رخامًا أو معاول

اصطفت الكومات وتجوّل الخراب ماسكًا يد الموت

ولم يعرف إلى أين ستمضي به خطوته القادمة


2
في الليل يطفئ المسعفون صافرات سياراتهم

يعلو الدخان بصمت، ولا يصرخ الأحياء من تحت الحجارة

الأيادي المدرّبة على انتشال الجثث لا تتعرّق

وعلى مسافة من الركام يقف أمين مخزن الفجائع يدوّن الأرقام بلا أسماء

في الصبح تجمع خيمة واحدة عزاء من مات ليلًا

نهار واحد يكفي ليشرب الناجون شايًا داكنًا

ويتبادلون حكايات الحروب الماضية

تستبدل الريح الغبار على سطوح الخرائب

وتمرّ عبر ثقوب الجدران المحنية والنائمة

تمرُّ على جثة منسية في قبرها العملاق

تخبرها: لا بأس يا إنسان لن أتركك وحدك


3
تفقد العيون شهيتها

مكنسة الخراب تسبق العين إلى التاريخ

والعين باردة تهجر التصاوير على الجدران

لا دفء يحمله الحجر العتيق ولا ذكرى

إبصار الفراغ لا يفزعه امتداد الأفق على الحجارة

حمل الزوال كل شيء وراح، فأي زائل نبكي؟

ينمو الفعل (كان) على ألسنة كثيرة ويبقى ناقصًا

ينمو لبضعة أيّام ويشيخ بالتكرار

لم يعد الصغار ينتظرون حكاية الجدة قبل النوم

بعد أن وطئت أقدامهم دم الإنسان والتاريخ لن يصغي الصغار

الهول أعظم من قبر نبي وآلهة من الحجر وثرثرة عتيقة


4
يسأل الجندي صاحبه:

_كم تبقى من الرحلة؟

_أظنّها انتهت

_كل شيء يبدو كما كان.. لماذا؟

_الصمت والصخب بعد الحرب صاحبان


5
يقف الخراب بيننا

يداه طويلتان وتبرق عيناه بالشرر

ينفث النار على الرماد فلا يحترق

يُرسل الزلازل على الركام فيبقى رمادًا

ويصرخ في حشد القبور فيصفعه صداه

ثمة طفل يُخرج رأسه متلصّصا

يُفتح باب، ويَكتبُ عاشق في طرف بعيد عن خطوبته

تمرّ الحياة قرب وحش الخراب فلا يخيفها، تدور حول تغوّله:

لقد أحصى الفواجع هؤلاء بالأصابع، نفدت الأصابع

خطّوها كما يخطّ السجناء أيّام أسرهم على الجدران، فامتلأت

ولم تجد الفجيعة بعد ذلك نفسها

هذا حدك الأقصى

ولم يبق في حقيبة ظهرك نصلٌ لتطعنهم

قست الجلود ومضى الجميع إلى سبيلي

أنا ممتدة إلى حيث يأخذهم هواهم

وأنت أعطيت ما أعطيت

لا جدوى منك الآن، لقد هزمك يأسهم


ماذا سنكتب في الرسالة التالية
في قعر دلو الكلام تترسّب الفخاخ، ينمو الشوك في العتمة، لا ينفذ الضوء من وحل هذه السكتات الطوال، ولا تمرّ اللحظة أو تُرى إن قدُمتْ. ماذا سنكتب في الرسالة التالية؟

تتمدّد الحيرة على هذا السكون، اللحن يذوي، والنظرات لا تقوى على الوقوف أكثر، لم يحن وقت النوم بعد، وهذه اليقظة لم تعد تروي دقائقنا، لو أننا متنا لتنفسها هواء الغيم، ورأينا صورة أخرى نطالعها وتدهشنا، نسمّيها كما الوليد، ونروي الفضاء بصدى حكاية عنها، لكن المكان هو المكان، والزمان يلوي عنق دربه عنا ويجري، هل نُسينا؟ أم أنه حكم على جريمة في أمس بعيد، نعيش جزاءها الآن ولا نذكرها.

في كون موازٍ لم يتقشّر طلاء السقف فيه، ولا يشع بالضوء الرمادي الذي يمرّ في الهواء رصاصًا، ويترسّب في الدم سمًّا وفي العين غشاوة. في كون ينزل شعري على قميص أبيض، وتُطبق الريحُ قماشَ فستانك الفضفاض على قوامك، يداعبك العشب ويرقص دخان سجائرنا بشهوانية ليثيرنا، هناك حيث لا نرتدي الساعات ولا نحمل في جيوبنا الهواتف، إذ يمتد أفق الأرض على هوى الخطوات، ونركض، لا غاية نرجو ولا سبب يلاحقنا.

لكن المكان هو المكان، أغلق عينيَّ وتحدقين ببلاهتي، أرى خروفًا أسود، وماءً أخضر، وبلطة حمراء، أصرخ: لقد نفدت الدهشة في كيس الحياة. الحروب باردة، والأدب ممل، والعري مطلي بالشحوب. في خرائب الشعر لا مسامير نعلق بها الصور والخيالات، منخورة جدران اللغة، شحيحة بئرها، وتترسّب في قعرها الفخاخ.

ها أنا أدور في حلقة تأكل نفسها، يدفعني صمتكِ إلى المركز، الرسالة تنتهي بهاوية، والهاوية تقود إلى عتمة ينمو بها الشوك.. أبقى هنا، وأنا إن نجوت سأعود بحكاية من عتمة الأعماق.

المساهمون