فارغو.. الحقيقة لا تعني أحدًا

فارغو.. الحقيقة لا تعني أحدًا

20 يوليو 2017
+ الخط -

"هذه القصة حقيقية، وقعت مجرياتها في ولاية مينيسوتا عام 1987، بطلبٍ من الناجين تمّ تغيير الأسماء واحترامًا للموتى رويت البقية كما حدثت بالضبط"؛ تظهر هذه الجملة في افتتاحية فيلم الجريمة والكوميديا السوداء (فارغو-Fargo) الذي منح الأخوين جويل وإيثان كووين أوسكارًا لأفضل نص وجائزة "مهرجان كان" لأفضل إخراج عام 1996، ومع شارة النهاية للفيلم كان غريبًا وجود إحدى الكليشيهات المعتادة التي تقرّ بأن جميع الشخصيات والأحداث مختلقة. رغم هذا الإقرار الصريح وصدور عدّة تصريحات للأخوين كووين تفنّد الجملة الافتتاحية كوسيلة لتقديم قصّة مختلفة كان الجمهور لينفر منها لولا وهمه بأن ما يراه مستوحىً من قصّة حقيقية، انتشرت في التسعينات قصص وأساطير عن أشخاص ذهبوا في رحلة بحثٍ عن حقيبة النقود التي بقي مصيرها مجهولًا تحت ثلوج مدينة فارغو في داكوتا الشمالية حيث تركها الفيلم السينمائي.

بعد ذلك بعام حصلت أوّل محاولة للعمل على إطلاق مسلسل يتوسّع في القصّة، لكن الحلقة الأولى التي أخرجتها الممثلة كاثي بيتس تم رفضها من الشبكات وألغي العمل، غير أنّ المسلسل المستوحى من الفيلم الذي بدأ عرضه عام 2014، حقق النجاح المرجو وقدّم رؤيةً فنيةً لما يصطلح عليه اليوم اسم ( تجاوز الحقيقة- Post-Truth)، أنتج العمل شبكة FX بمشاركة الأخوين كووين بوصفهما منتجين تنفيذيين وأوكلت مهمة كتابة السلسلة الأنطولوجية المبنية على الفيلم للروائي نوح هاولي.

حافظ هاولي، على افتراض واقعية القصّة وكثّف جرعات العنف والكوميديا ليكون عدد الجثث في الموسم الأول 40 ويزيد في الثاني عن 60، علمًا أن كل موسم مؤلف من 10 حلقات فقط، رسم هاولي لكلّ موسم قصة مختلفة بشخصيات جديدة في فترات زمنية متباعدة، دون أن يقترب من مادة الفيلم الأصلية إلا في حبكة تفرعية بسيطة من الموسم الأوّل كتحيةٍ لمحبي الفيلم صاغ بها مآل حقيبة النقود الضائعة. وعلى ذلك فإن الموسم الأول غطى حقبة زمنية عام 2006، وتبعه الثاني عائدًا للسبعينات بينما قدّم الموسم الثالث الذي اختتم عرض حلقاته العشر مؤخرًا، رؤية لنهاية عام 2010، وتتقاطع المواسم الثلاثة مع بعضها في ظهور بعض الشخصيات بمراحل عمرية مختلفة كونها جميعًا تجري في واقع متخيّل للمكان نفسه.


الحتمية واللاجدوى
لا يخفي العمل أفكاره ولا يسعى لتجميلها بل يضعها بفجاجة لا تخلو من السخرية أمام الجمهور؛ وفي أحيان أخرى أفرد شخصية لا تشارك في الأحداث بل تكتفي بقراءة كتبٍ لمفكرين أمثال نيتشه وألبير كامو، ويضع العمل ثقله على الخيارات البسيطة للشخصيات فهذه الخيارات التي لا تبدو ذات أهمية تنطوي على تغيير هائل في حيواتهم وتسارع وصول كلٍّ منهم لقدره المحتوم وسط أزماتهم الأخلاقية، وتسير القصّة الواحدة على عدة مستويات قبل أن تتحطم الفوارق فيما بينها عند نهاية كل موسم ليظهر أن كل ما يحصل ليس ذا قيمةٍ فالنهاية وشيكة للجميع ولن يغيّرها سلوكٌ لحظي أو موقف أخلاقي.

يتنقل العمل عبر مساحاته المتجمّدة بأداء رصين من كادره المتغيّر وفق مدرسة إخراجية تضج بالألوان بحيث توافق كل مرحلة زمنية، دون تكرار في أسلوب السرد فلكل موسم ثيمته والقصّة التي يرويها بإسقاطاتها المختلفة، ولا بدّ من ذكر أن الروائي الشهير ستيفين كينغ قال عن Fargo أنه أفضل ما عرض على التلفاز في آخر ثلاثة أعوام قبيل نهاية موسمه الثاني.

هكذا وضع المسلسل معايير خاصّة به يتفوّق عليها في كل موسم؛ بدءًا بإظهار غزو فضائي حصل في السبعينات وصولًا لإدخال الأنيميشن في الموسم الثالث، وإن كان الموسم الأخير لم يعط تركيزًا كبيرًا لمحور الجريمة بقدر اهتمامه بمعنى الحقيقة ومعنى القصة، ونستدل على هذا من قلّة عدد القتلى مقارنة بما سبقه؛ فآثر أن يبدأ كل حلقة بكذبة تترافق مع عبارات توثيقية للحدث كأن يكون في معتقلات ألمانيا الشرقية أو حديثًا عن تزييف وصول الإنسان إلى القمر. كما أغرق شخصياته بقصصها المرجعية كأسلوب لتبرير أفعالها ووضعها في سياقٍ معين دون أن يتشكّل للمشاهد اهتمام بمدى وثوقية القصّة بيد أنه يعرف ما ستقدم الشخصية على فعله؛ وهذا أسمى تبيان لمصطلح "تجاوز الحقيقة" الذي صنّفته أوكسفورد كـ كلمة العام 2016.


الحقيقة لا تعني أحدًا
بدأ استعمال مصطلح Post-Truth بُعيد حرب الخليج الثانية، ويفضي تعريفه إلى أن الحقائق والظروف الموضوعية تصبح أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام الذي يتّبع المشاعر والمعتقدات الشخصية؛ بكلماتٍ أخرى أي اجتزاء الحقيقة والتوصّل إلى الاستنتاج الذي يلائم أهواء المتحدّث، وكثر استخدام المصطلح مع وصول ترامب إلى سدة البيت الأبيض وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

يرزح الموسم الثالث من العمل تحت هذا الوصف، ويدفع شخصياته نحو أقصى استطاعتهم من الاحتمال، فتارةً تلوي شخصية المحقّقة الحقائق للوصول إلى استنتاج متطرّف يطابق في حقيقة الأمر ما حصل، لكنها تصطدم بعد هذا بصدفة تطابق استنتاجها لتبتعد عمّا جرى فترفض ربطه بما توصلّت له، وهذا ينسف أن ما توصلت إليه المحققة - التي تمثّل الخير - كان نتيجة استنتاجات لا تبدو منطقية للآخرين إنّما هو ناتج عن معتقداتها وما تراه حقيقيًا، وهكذا لا تختلف عن الشخصية الشريرة التي تعتمد ذات الأسلوب في الوصول لمبتغاها، هذا الاختبار الحقيقي للمشاهد والشخصيات ينهي الموسم بمواجهة الشخصيتين وافتراض كل منهما لما سيحصل دون أن نختبر النهاية على الشاشة.

الحقائق الدينية لها نصيب من عبثية المسلسل، فتمحور الموسم الأول حول الضربات العشر المذكورة في سفر الخروج؛ مثل تحوّل الماء إلى دم وبلاء الجراد، كما لا يغيب الرقم 613 عن أي حلقة من المسلسل في إشارة للآية "لا تدخلنا في التجربة، وأنقذنا من الشرير" متى 6:13. وعكس الموسم الثالث صراع قابيل وهابيل في طرحه لصراع أخوين توأم أدى دورهما إيّان ماكغريغور باقتدار.

يمتلئ المسلسل باستعارات فنية على رأسها أفلام الأخوين كووين؛ في مشاهد تعيد للذهن أعمالهما السينمائية السابقة واستخدام مقطوعات موسيقية سبق استعمالها في هذه الأعمال، كما لا يخلو أي موسم من مشاركة ممثلين عملوا سابقًا معهما وأشهرهم دايفيد ثيوليس الوجه السينمائي المميّز الذي غيّر شخصيته المكتوبة لتكون من جنسية بريطانية؛ أهم أعماله فيلم Naked من إخراج مايك لي، الذي حاز عليه جائزة أفضل ممثل في "مهرجان كان".


هل من مزيد؟
يمتلك نوح هاولي في رصيده أربع روايات يستعد لتحويل آخرها "قبل السقوط" لعمل سينمائي، ونال كثيرًا من الثناء على مسلسله الجديLegion ، الذي يستلهم عالم X-Men ويطرح مدرسة جديدة تختلف عن أعمال الكوميك الاعتيادية بأسلوبه المميز، لكن هذا النجاح الذي ضمن تجديد Legion لموسم جديد، أضر بمستقبل Fargo، وبحسب هاولي أنه لم يسبق له العمل على القصة نفسها أكثر من مرة، فلذلك يبدو الموسم الثاني تحديًا له، كما أن استعداده لعمله السينمائي الأوّل يستهلك معظم وقته لهذه الأسباب وعدم وجود فكرة خلّاقة حاليًا لموسم جديد من فارغو، يبدو أننا لن نرى مزيدًا من هذا المسلسل الذي عرّف الجمهور على نوح هاولي فلقبّته الغارديان أنه "ستانلي كوبريك الجديد". يذكر أن المسلسل حاز خمس جوائز "إيمي"، وينتظر أن يدخل المنافسة بموسمه الثالث شهر سبتمبر/أيلول القادم.

المساهمون