جاك شاهين.. مشهد عربي في فيلم أميركي طويل

جاك شاهين.. مشهد عربي في فيلم أميركي طويل

18 يوليو 2017
+ الخط -

منذ أواخر القرن الثامن عشر، وقع كثير من الأدباء والفنانين الغربيين في فخ الاستشراق؛ فلجأ بعضهم إلى "التلوين الخيالي" كما سمّاه كولريدج، لوصف العرب وحياتهم، متأثرين بصورة الشرق التي رسمها أسلافهم قبلهم، ورسّختها حكوماتهم عبر مذهب سياسي ينزع إلى العنصريّة.

لم تؤثر هذه النظرة الاستشراقيّة المتراكمة على الفكر الغربي فحسب، بل إنها طاولت بعض من أبناء الشرق أيضًا؛ فاتخذوا مواقف نقديّة ساذجة، تفتقر للفهم الحقيقي، تجاه أوطانهم. يسلط الاستشراق الضوء على جانب واحد من جوانب الشرق، معتبرًا إياه حقيقته الوحيدة، المناقضة لحقيقة الغرب وجوهره. وبهذا، يشكّل الشرق صورة مضادة للغرب يكتسب الأخير وجوده "الديمقراطي" عبر التناقض معها.

ورثت الولايات المتحدة نظرتها المشوهة عن الشرق من الفرنسيين والبريطانيين، الأمر الذي دفع نقاد منها، أصولهم عربية، إلى دراسة هذه الظاهرة السلبية عبر مخاطبة الأميركيين بلغتهم واتباع منهجهم العلمي الحديث في التحليل؛ فبعد أن درس إدوارد سعيد الأدبيات الاستشراقيّة، ووضع كتابه "الاستشراق" في عام 1978، اهتم جاك شاهين (1935 - 2017) الذي غادر عالمنا منذ أيام عديدة فقط (9/7/2017)، بدراسة صورة العرب النمطيّة في السينما الأميركية، وهو أمر لم يسبقه إليه أحد من قبل.


نشأته وأعماله
نَشَأ جاك شاهين، لبناني الأصل، في مدينة كليرتون الواقعة داخل ولاية بنسلفانيا الأميركية. عُرفت هذه المدينة بتنوعها السكّاني الكبير؛ فكانت مزيجًا من البيض، والأميركيين ذوي الأصول الأفريقيّة، والآسيويين، وغيرهم من المهاجرين الأوروبيين أيضًا، إذ كان شاهين يخرج من بيته كل صباح ليلعب كرة القدم مع أطفال أتوا من بلدان مختلفة.

هذا الاختلاط مع الآخرين، زرع في نفس الكاتب حبًا للآخر، واستعدادًا تامًا لفهم اختلافه عنه. بعد اجتيازه لمرحلة الثانوية، حاز الكاتب على درجة البكالوريوس في اختصاص المسرح من معهد كارنيغي للتكنولوجيا. ونال درجة الماجستير من جامعة ولاية بنسلفانيا. ثم حصل على شهادة الدكتوراه في تخصص الاتصال الجماهيري من جامعة ميسوري في كولومبيا.

عمل شاهين، لعقود عدّة، كأستاذ للإعلام في جامعة جنوب إلينوي، وقدّم كثيرًا من المحاضرات السينمائية في مختلف أنحاء العالم، إضافة إلى إعطائه نصائح لعدد كبير من المخرجين والممثلين الهوليوديين، كالاستشارة الدراميّة التي قدمها للممثل جورج كلوني أثناء تصوير فيلمي " Three Kingsعام 1999، وSyriana عام 2005. لكن أهم أعماله كانت تتمثل في كتبه المكتوبة باللغة الإنكليزية، ومنها: كتاب "The TV Arab" الذي صدر في عام 1984. وكتاب "Reel Bad Arabs"عام 2001 الذي كان مادة أساسية لفيلم وثائقي ظهر في عام 2006.


العرب كاريكاتور ذو بعد واحد
انتقد شاهين الصور النمطية التي قدمتها السينما الهوليودية عن العرب، إذ يظهر الرجال فيها كإرهابيين عنيفين، أو شيوخ أثرياء لا يقدرون قيمة المال الذي يملكونه، ولا يفكرون إلا في الطعام والجنس. أمّا النساء، فبرزن في البداية كمحظيات وراقصات شرقيات شغوفات. ثم تحولن إلى نساء خاضعات، بملاءات سوداء غالبًا.

يدحض شاهين عبر أعماله هذه المفاهيم الشائعة، ويرفض لغتها التعميمية الخاطئة، تمامًا كرفضه للمقولات التي تؤكد كسل السود، قذارة الإسبان، وجشع اليهود: "تهدف هذه الصور القبيحة إلى المباعدة بين البشر، وضخ الكراهية بينهم لأسباب سياسية بحتة". لم تخلق هذه الأنماط الثابتة من الفراغ، إنما هي نتيجة للتكرار المستمر، الواعي والمقصود من قبل الحكومات العنصرية، ففي كتابه "العرب السيئون جدًا" يربط شاهين بين السياسة والترفيه، بين واشنطن وهوليوود. ويحلل صورة الفلسطيني في بعض الأفلام، ليجد أنها صورة مريعة يُراد فيها قلب الوقائع السياسيّة، فيؤكد عبر استعراضه لعدد كبير من الأفلام، أنه منذ فيلم Exodus (1960)، الذي يتحدث عن بدايات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وحتى الآن، تصور الأفلام الهوليودية الفلسطيني على أنه شرير وإرهابي كاره لليهود: "نحن لا نرى أبدًا الفلسطينيين الذين يعانون الاحتلال، أو الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين".

إن نشوب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي انحازت فيه الولايات المتحدة إلى إسرائيل بشكل واضح، كان أحد الأسباب التي دفعت الأميركيين لشيطنة العرب. إضافة إلى حصار النفط العربي في عام 1973 من قبل منتجي النفط في الشرق الأوسط، وصولًا إلى الثورة الإيرانية التي زادت نسبة التوتر بين العرب والأميركيين.

ونتيجة لهذه الظروف السياسية، عبثت السينما الهوليودية بصورة العرب لأكثر من قرن، وروجت لأساطير كاذبة تتعلق بهم، إحداها تتمثل في قدومهم من صحراء بعيدة لشراء أميركا وسحب أموالها وإفقار مواطنيها.

وفي الكتاب ذاته، رصد شاهين ألف فيلم، تحتوي على شخصيات عربية، أنتجتها هوليوود من عام 1896 حتى عام 2000. وكانت النتائج التي وصل لها كارثية، فلم يظهر العرب كشخصيات إيجابية إلا في 12 فيلمًا منها. أّما باقي الشخصيات، فكانت إمّا تجسيد للشر الخالص؛ قطّاع طرق، لصوص، وأناس مرعبين؛ أو مصادر لتوليد الضحك الرخيص عبر التغابي المُفتعل والتهريج. ولعل أكثر الأفلام التي صنعتها هوليوود عنصرية تجاه العرب، هي الأفلام التي أنتجت بتعاون مع وزارة الدفاع الأميركية، إن هذه الأفلام تشكّل فصلًا مهمًا من تاريخ السينما الأميركية، كما لها النصيب الأكبر في ذاكرة الأميركان البصرية. وكل هذه الأفلام تقدّم العرب كأناس وحشيين وقتلة يترصّدون بالأميركان، ما يبرر قتل جيش الولايات المتحدة لهم في نهاية الفيلم.

يؤكد شاهين، عبر دراسة تاريخ الثقافة الشعبية pop culture، أن هذه القوالب النمطية المهينة للعرب لم تُصنع عبر السينما فحسب، فحمّل وسائل الإعلام الأميركية مسؤولية كبيرة عن بث هذه الصور المشوهة، وفي كتابه The TV Arab يحلل لقطات متنوعة من برامج تلفزيونية أميركية بثت بطريقة غير مباشرة مضمونًا عنصريًا. كما هاجم شاهين عددًا من شركات الإنتاج السينمائية والترفيهية، كمجموعة كانون التي أنتجت أكثر الأفلام تشويهًا للعرب، وشركة والت ديزني، التي دفعها شاهين إلى تعديل شارة البداية لفيلم علاء الدين عام 1992 لاحتوائها على عبارات مهينة للعرب.

لم يحمل شاهين لواء الإسلام كما اعتقد البعض، كما أنه لم يكن متعصبًا لموطنه، أو مدافعًا عنه لسبب عاطفي أو قبلي. ولم يكن الخطاب النقدي الذي وجهه للغرب، خطابًا كارهًا أو حقودًا. ولم يحاول عبره إثبات تفوق العرب الفكري أو الأخلاقي على الغرب: "لقد كرّست حياتي لإبراز الطابع الإنساني الموجود لدى العرب والإسلام. كي لا يتم عرضنا بطريقة أفضل أو أسوأ من غيرنا". أراد شاهين قول الحقيقة فحسب، فأعاد بذلك ما لم يكن يراه المتلقي إلى حيّز الرؤية من جديد. ودعاه إلى ملاحظة أدق الإشارات وتحليلها. كل ذلك بدافع جعل الفن وسيلة للإعلاء من قيمة الإنسان. ومحاربة الأنظمة السياسية العنصرية التي تحاول الحط من قدر البشر بشتى الأساليب.

المساهمون