الفلسطيني سينمائيًا.. حياة تسر الصديق أو ممات يغيظ العِدا(4)

الفلسطيني سينمائيًا.. حياة تسر الصديق أو ممات يغيظ العِدا(4)

06 يونيو 2017
(من ا"لزمن الباقي" لـ إيليا سليمان)
+ الخط -

بعد استسلام المقاومين في مدينة الناصرة، يدخل شاب بلا سلاح إلى باحة المعتقل منشدًا قصيدة "الشهيد" التي نظمها الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود في عام 1939، مخاطبًا ضابط الاحتلال القابع أعلى البناية:

ونفسُ الشريف لها غايتان، ورود المنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لا عشتُ إن لم أكن، مخوف الجناب حرام الحمى
إذا قلتُ أصغى لي العالمون، ودوّى مقالي بين الورى
سأحمل روحي على راحتي، وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق، وإمّا مماتٌ يغيظ العدا

ومن مسدسه أطلق رصاصة الخلاص على رأسه مودعًا حياة الهوان.

قبله شاهدنا كيف أن أفراد الجيش العربي، سارعوا إلى التجرد من ملابسهم العسكرية وانطلقوا هاربين، ليستلمها المحتلون ويتخفون من خلالها للدخول إلى الناصرة دون مقاومة. ابتهجت سيدة بمقدم الجيش العربي لباسًا والصهيوني أجسادًا، وأقبلت عليهم تزغرد وترش الملح قبل أن تواجه بطلقة غادرة أردتها شهيدة.

في فيلم "الزمن الباقي"، يستعيد إيليا سليمان جزءًا من ذاكرة النكبة متنقلاً عبر أكثر من ستين سنة من التيه والشتات الفلسطيني والعربي. لم يكن الأمر، كما صرح المخرج، رغبة في التقوقع في الهوية بل في التجربة الإنسانية. فالتاريخ، في نظره، برهن على أن العمل الفني الذي يستهلك الحدث التاريخي يضمحل تدريجيا ويموت. في الفيلم ظهر ايليا وكأنه حنظلة السينما الفلسطينية صامتا يراقب الأحداث والأشخاص بعينين جاحظتين وُفّق كثيرا في نقلها إلى شاشة السينما بكثير من الكاريكاتورية والعمق على حد سواء.

زعيم التنظيم الجهادي: نجاح هذه العملية جعل منك شهيدا كبيرًا.
جعفر: شكرا.
زعيم التنظيم الجهادي: من الرائع مشاهدة شهيد يأكل بهذا النهم. ليس أمرا معتادا.
جعفر: شكرا.
زعيم التنظيم الجهادي: لكن هناك تفصيل بسيط محرج..
جعفر: ما هو؟
زعيم التنظيم الجهادي: فكر قليلا. ألا تجد في كلامي شيئا صادما؟
جعفر: لا، لا شيء.
زعيم التنظيم الجهادي: كيف يكون الشهيد في العادة؟
جعفر: ملتحي؟
زعيم التنظيم الجهادي: نعم، في الغالب. غير ذلك؟
جعفر: يجب أن أرخي لحيتي. هذا ما تقصده؟
زعيم التنظيم الجهادي: (ضاحكا وهو ينظر إلى صور الشهداء على حائط صالون بيته الفاخر): إنك مثلهم. أليس كذلك؟
جعفر: نعم أنا مثلهم.
زعيم التنظيم الجهادي: ليس هناك من اختلاف؟
جعفر: الخنزير؟
زعيم التنظيم الجهادي: (يقف غاضبا) لا بد أن تكون رمزا للناس يثير حماستهم. منذ مدة وأنا أنظر إليك وأنت تأكل ولا أحس بأي حماس. لكن عندما يكون لدينا إيمان يمكننا حل الإشكال. (وهو يأخذ بيده بندقية كلاشينكوف) لا بد أن تكون في مستوى شهداء القضية وألا تتسبب في أزمة هوية ورمزية لدى الشباب. أنا متأكد أنك تود إصلاح غلطتك (وهو يمد إليه البندقية ويشرح له كيفية الانتحار).

يستمر الحوار السوريالي بين الرجلين قبل أن يفر جعفر هاربًا يجري في شوارع غزة تحت تصفيقات وتحايا المواطنين المتهافتين عليه لتوقيع .... أتوغرافات. والمشهد من فيلم "خنزير غزة" وهو إنتاج فرنسي بلجيكي ألماني مشترك للمخرج سيلفان أستيبال في عام 2011.
وفي فيلم (عمر) يودع زعيم تنظيم مسلح آخر الشابين خالد وسعيد المكلفين بتنفيذ عملية داخل الكيان الصهيوني.

الزعيم: إن شاء الله بعد ما توصلوا الجنة احنا راح نتكفل بكل التدابير. راح نحيي ذكراكم زي الأبطال. بتوصوا على أي شيء؟
خالد: أنا كنت بدي حياة عائلتي تكون أحسن إذا أصابنا أذى. وبدي كمان صورتي وصورة سعيد تتعلق بالبلد.
الزعيم: تاج راسنا خالد. أهلكم أهلنا بعيوننا بنحطهم.
وفي فيلم (خنزير غزة) يودع أحد الشباب جعفر المقبل على تنفيذ عملية بمستوطنة صهيونية.
الشاب: أنت محظوظ. بمجرد ارتقائك إلى أعلى ستجد كثيرا النساء في انتظارك.
جعفر: كم؟ 35؟
الشاب: لا، أكثر.
جعفر: 40؟
الشاب: أكثر
جعفر 50؟
الشاب: أكثر.

هكذا يراد للمقاومة أن تقدم، وهكذا قُدمت في فيلم "خنزير غزة". لكن عُمَر، وهو بطل الفيلم الذي حمل اسمه عنوانا، قلب المعادلة وهو يطلق النار على ضابط المخابرات الإسرائيلي، الذي جنده للعمل مخبرا للاحتلال، في حركة غير متوقعة كما كانت بالضبط عملية القدس التي نفذها شاب من نفس عمره، في الثالث من أكتوبر 2015، مطلقا شرارة "ثورة" فلسطينية لم يكن أحد ينتظرها. كان ذاك ابن البيرة الذي هُجرت عائلته من يافا: مهند حلبي.

عمر: (موجها كلامه لرجل المخابرات الاسرائيلي الذي كان يدربه على استعمال السلاح): رامي، تعرف كيف تتصيد القرود في افريقيا؟
رامي: احك...

وكانت الحركة غير المتوقعة التي ستكون أنهت حياة رامي على أمل أن تساهم في إعفاء كثير من شباب فلسطين من السقوط في براثن العمالة وخيانة الوطن. قد لا تكون "ثورة السكاكين" وما تلاها من أشكال نضالية أخرى كالدهس نهاية للاحتلال الإسرائيلي. لكنها أظهرت أن هناك شبابا فلسطينيا مؤمنا بقضيته العادلة ولا يطرح السؤال:" فكرك بنعمل إشي صح؟" كما فعل سعيد وهو يخاطب خالدا في السينما.

داخل البلكونة، تجلس والدة (إيليا سليمان) الطاعنة في السن، وفي الأفق نرى ألعابا نارية في السماء. إيليا يراقب المشهد في وقت تجري فيه العاملة الفلبينية لتطلب من الوالدة الاستمتاع بالمشهد في فرحة طفولية. لم تعرف المسكينة أن الاحتفال هناك يعني للأم نكبة وفقدان وطن. تشيح الأم بنظرها في اتجاه غرف البيت/الوطن. يتحول المشهد إلى صورة كارت بوسطال جميلة للأم ترتشف قهوتها وعلى خلفيتها ألعاب نارية رائعة دون أن يحرك فيها الأمر ساكنا.
هي واحدة من الصور التي أراد الاحتلال ولا يزال ترويجها.

لكن يا ترى كم يتبقى من الزمن حتى نشهد تلاميذ مدارس الناصرة يأخذون أماكنهم في المنصة المعدة للاحتفال، وينطلقون بالغناء:
فدائي، فدائي، فدائي
يا أرضي يا أرض الجدود
بعصف الرياح ونار السلاح
وإصرار شعبي لخوض الكفاح
فلسطين داري فلسطين ناري
فلسطين ثاري وأرض الصمود
فدائي فدائي فدائي ...

المساهمون