السيلفي .. أخيرًا تحقّق حلم الفراعنة (5 - 8)

السيلفي .. أخيرًا تحقّق حلم الفراعنة (5 - 8)

22 يونيو 2017
(في المتحف المصري، القاهرة، تصوير: ثيو ألوفس)
+ الخط -

كاميرا السيلفي ليست مجرّد مرحلة من مراحل التطوّر التقني في مجال التصوير والتوثيق، بل هي أيضًا مرحلة من مراحل التطوّر التقني في تاريخ المرآة؛ ويبدو ارتباط السيلفي واضحًا بالمرآة من خلال التعريف المعتمد في معجم أوكسفورد الذي ذكرناه سابقًا، ومن خلال الصور التي حاول المؤرخون نسبها للسيلفي قبل اختراع التقنية، فجميعها تشترك بعنصرين معًا، هما الكاميرا والمرآة.

حتى أن تاريخ عصا السيلفي الذي يسبق تاريخ كاميرا السيلفي بعقود، ويعود بالتحديد لعام 1983 حين قام المخترع الياباني، هيروشي أويدا، بتركيب عصا تثبت عليها الكاميرا في المنتصف ومزودة بتقنية فيزيائية بسيطة ليتمكّن المصوّر من الضغط على زر التصوير وتثبت مرآة صغيرة بنهاية العصا، تمكن المصوّر من تحديد الكادر؛ وعلى الرغم من عدم انتشار عصا السيلفي قبل تقنية كاميرا السيلفي بشكل واسع، إلا أن ما يبدو مثيرًا بالأمر أن اقتران الكاميرا بالمرآة سبق الإنجاز التقني.

ربّما لا يعتقد كثيرون أن المرآة من الممكن أن تكون عنصرًا مرتبطًا بالإبداع، ويحدّدون دورها بشكل وظيفي، يجعل من المرآة تبدو أبعد ما يكون عن الرؤية الفنية؛ ولكن تاريخ المرآة يثبت ارتباطها اللصيق بالإبداع الفني. وتاريخ المرآة يعود إلى المصريين القدماء، فهم أوّل من اهتم بها، وكانوا يصنعونها من المعادن كالقصدير، ومن المثير أيضًا أن المصريين أنفسهم اكتشفوا التحنيط؛ فالمرآة مرتبطة إلى حدٍ ما بالأمل بالبقاء والخلود؛ والخلود المقصود هنا، هو الخلود الجسدي وليس الروحي، فالتحنيط وجد لحفظ الجسد من التآكل والاندثار، وكذلك المرآة كانت تحاول تثبيت صورة الجسد بتفاصيلها إلى حدٍ ما، فالإنسان عندما رأى انعكاس وجهه مهتزًا مع رقرقة مياه النهر، أحس بالحاجة إلى أن يكون هذا الانعكاس دائمًا إلى حدٍ ما، لا يجرفه تدفق المياه أو تمحوه سرعة الرياح.

ومنذ البداية ارتبط استخدام المرآة بالمرأة، واستخدمت النساء المرآة، في الحضارة الفرعونية، للتزين والتبرّج؛ إلا أن المرآة بقيت حكرًا على القصور والطبقات الارستقراطية حتى عصر التنوير.

في القرنين السادس عشر والسابع عشر كان لانتشار المرايا الزجاجية، التي لا تزال تستخدم حتى أيامنا هذه في كل منزل، تأثير يشبه السحر، واعتبر أعجوبة العصر مثله مثل انتشار آلة التصوير الفوتوغرافي؛ ولم يقتصر تأثير انتشار المرآة على الحياة الاجتماعية والشخصية وحسب، وإنما كان لانتشار المرآة أثر على الأدب والفنون عبر العصور.

وبحسب ممفورد فإن ازدهار فن السيرة الذاتية يعود للزمن الذي انتشرت به المرايا الزجاجية، وفي البلاد الأوروبية التي انتشرت بها معامل صناعة المرايا الزجاجية كإيطاليا وهولندا، حيث قام بعض الفنانين برسم وجوههم في مجموعة من اللوحات، حتى أن دافنشي أعطى أهمية كبرى للمرآة ولدورها في الفن، حيث قال: "المرآة هي دليل نافع، لابد أن يهتدي به الفنان في عمله الإبداعي".

ويبدو أثر المرآة واضحًا على الأدب عبر التاريخ من خلال الكم الهائل من الكتب والأعمال الأدبية التي استخدمت كلمة مرآة في عنوانها، وهذا التكرار لوجود المرايا في عناوين المؤلفات الأدبية، ما هو إلا دليل على أن الأدب والفن يسعيان بشكل مستمرّ ليكونا مرآةً للواقع؛ فالفن في العصور الوسطى، ولاسيما في المسرحيات الأخلاقية والدينية، كان يحاكي الخيال والعوالم غير الواقعية، ولكن هذه النزعة بدأت بالتراجع مع بداية العصر الحديث في نهاية القرن الخامس عشر، بسبب الاكتشافات الحديثة وإعلاء دور العلم والفيزياء، وبسبب الفلسفات الإنسانوية، وهنا جاء اختراع المرآة الذي أضفى ملامح جديدة لعلاقة الإنسان بذاته والذي كان له، حسب ممفورد، أثر تاريخي على نمو الشخصية ووعي الإنسان الذاتي؛ الأمر الذي جعل من الفنون تقترب من الواقع، فكانت مسرحيات شكسبير التاريخية، ولوحات دافنشي التي تحتوي على ملامحه الشخصية، كالموناليزا؛ فالنزعة إلى الواقعية تبدو وكأنها سمة الآداب والفنون في العصر الحديث، لتتوافق مع نزعة الفلسفة والعلم في هذا العصر نحو الموضوعية.

وإذا ما كان اختراع المرآة الزجاجية وانتشارها في أوروبا أدّى لظهور فن السيرة الذاتية، وأدّى لبروز النزعة نحو رسم البورتريهات الشخصية، فإن انتشار النزعة الواقعية أدى بدوره لاختراع الكاميرا، حيث قام العالم الإيرلندي، روبرت بويل، بالعمل على الكاميرا البدائية التي نظّر لها ابن الهيثم في كتاب "المناظر"، وبقيت الكاميرا بحالتها البدائية غير قادرة على مجاراة تقنية رسم البورتريهات الواقعية إلى أن ابتكر لويس داغر عام 1820 تقنية التصوير الضوئي، وصدرت في عام 1826 أول صورة ضوئية من قبل العالم الفرنسي نيس، الذي أضاف الحافظة الدوارة للصور.

وبالتالي، من الممكن اعتبار الكاميرا امتدادًا للمرآة، وهي حقيقةً مرحلة جديدة ومتطورة لعلاقة الإنسان مع الصورة، فهي تتيح للإنسان الفرصة لتأمل ذاته وتعطيه فرصة لتثبيت اللحظة لتأملها، ولكنها لحظة جامدة منفصلة عن الإنسان، لا تحمل نفس خواص المرآة، ولكنها كرست علاقة الإنسان بالصورة، فالصورة سواء كانت صورة الإنسان نفسه أو صورة غيره، تخلق علاقة جدلية قوامها الهوية والاختلاف معًا.

وإذا ما ركزنا أكثر على علاقة الإنسان بالصورة، نلاحظ أن علاقة الإنسان مع الصورة الفوتوغرافية تفتقد لإحدى أهم مزايا علاقة الإنسان بصورته على المرآة، حيث تتيح المرآة للإنسان الفرصة لكي يرى الآخر في الأنا والأنا في الآخر، فيرى هو وصورته، كل منهما بعيني الآخر؛ فالصورة الفوتوغرافية وحتى مقاطع الفيديو تفتقد علاقة المواجهة مع الذات التي تتمتع بها المرآة، والتي وصفها فرنان بقوله: "التمرئي هو حالة مواجهة مع الذات، وهو أفضل طريقة لمعرفتها، حيث يرى الإنسان نفسه وهو يرى نفسه، ليتمكّن الإنسان من خلال المرآة أن يكون شاهدًا ومشهودًا، ويرى نفسه في عيون الآخر".

ولذلك فإن التطّور التقني أدّى لدمج الآلتين معًا، الكاميرا والمرآة، وهذا الدمج أعطى كاميرا السيلفي مزايا الاثنين معًا، لتكون كاميرا السيلفي الإلكترونية، التي تعرض ما تصوّره الكاميرا مباشرةً على شاشة عرض الكومبيوتر أو الهاتف الذكي، هي أكثر اختراع يلبّي الحاجات النفسية للإنسان، التي بحث عنها في الفنون عبر التاريخ.

وقد يكون تحليلنا مبنيًا على شطحة من الخيال، إذا ما اعتبرنا الكاميرا الإلكترونية استطاعت أن تحقّق رغبة الفراعنة بالخلود الجسدي، فدمجت بين المرايا القصديرية وآليات التحنيط، لتحفظ فيديوهات السيلفي صورة الإنسان التي رغب المصريون القدماء بحفظها؛ فحلم الفراعنة بالخلود الجسدي الذي تجّسد بالتحنيط وتزامن مع اكتشاف المرايا، اندثر بسبب سيطرة الفلسفات الميتافيزيقية والديانات السماوية على التفكير البشري، وبعد أن حرّرت الموضوعية في العصر الحديث العقل من فكرة الخلود الروحي، عاد الإنسان ليفكر بالخلود الجسدي بصورة أكثر واقعية.

إن العلاقة بين المنتِج والمنتَج هي أكثر ما يميّز تقنية السيلفي، وفي كثير من صور وفيديوهات السيلفي لا تبدو الكوادر ذات أهميّة، بل إن المصور وحده هو بطل الصورة، ومن الممكن في هذا السياق الحديث عن أربعة أنواع لفيديوهات وصور السيلفي:

1- لقطة سيلفي فردية شخصية، كادرها يشبه كوادر الصور الرسمية أو صورة الهوية، فهو يحتوي على الوجه وعلى أعلى منطقة الصدر، بخلفية محايدة غالبًا، وتعكس هذه الصور الحالة النفسية للمصوّر، وعلاقته مع تفاصيل وجهه.

2- لقطة سيلفي فردية كاملة، كادرها يحتوي كامل الجسد أو معظم أجزاؤه، ويتم التركيز بهذه الصور على إبراز جمال الجسد، ويعبر عن علاقة المصوّر بجسده، وهي غالبًا ما تلتقط بواسطة المرايا وليس بواسطة الكاميرات الأمامية، وأغلبها التقط بالحمامات أو النوادي الرياضية أو غرف النوم.

3- لقطة سيلفي جماعية في مكان واحد، ويلتقطها أحد المصورين، ويتيح المجال لجميع المصورين لاتخاذ الوضعية التي يفضلونها، وتبرز علاقتهم ببعضهم كما يرغبون بها أن تظهر عبر المرآة.

4- لقطة سيلفي جماعية مقطعة، حيث يكون المتصوّرون كل منهم في مكان، والتقطوا صورة بسبب تواجدهم في نفس الزمان على نفس برنامج المحادثة، وقد يبدو هذا النوع وكأنه توثيق للمحادثة، ولكن المصورين هم أبطال الصورة أو الفيديو، وسيحاولون أثناء التقاط الصورة أن يبدوا في الحالة المثلى، وكأن الصورة هي مرآتان مجتمعتان داخل الكادر.

إن جميع هذه الأنواع تشترك بعامل واحد، هو محاولة المصور أن يكون طيلة الوقت بأفضل شكل ممكن، فالجمال هو الهدف الأعلى، بالإضافة لأهداف ثانوية كالتسلية في أوقات الفراغ؛ والجمال هنا من منظور شخصي تمامًا، لا يتيح لنا كمتلقين إدراك مفهوم الجمال العام، ولكنه قد يتيح لنا، إذا ما راقبنا هذه الصور، أن نفهم مفهوم الجمال عند الآخرين، كلٌ على حدة، فبعضهم يصوّر في أغلب لقطات السيلفي من نفس الزاوية تقريبًا، وبعضهم الآخر يحدّدون أنفسهم بأوضاع جسدية محدودة، لينتج بالنهاية لقطات تعبر عن علاقة المصوّر بذاته أو جسده.

المساهمون