The Leftovers.. الفانتازيا واللاهوتية في قالب واقعي

The Leftovers.. الفانتازيا واللاهوتية في قالب واقعي

19 يونيو 2017
(الأفيش: The Leftovers)
+ الخط -
اختتم مسلسل The Leftovers، عرض حلقات موسمه الثالث والأخير عبر شبكة HBO مؤخرًا، وحازت نهايته تهليلا واسعا من متابعين ونقاد لعملٍ صُنع بإتقان واقترب من المثالية، لكنه بقي في الظلّ على صعيد الجوائز والمتابعة الجماهيرية، ومن المرجّح تغيّر هذه الحال في موسم الجوائز في سبتمبر القادم.

المسلسل من ابتكار دايمون ليندلوف وتوم بيروتا، استنادًا لرواية الأخير التي تحمل الاسم نفسه. ويستعرض العمل عالم ما بعد الكارثة، إثر حصول حادثة عالمية عُرفت باسم "الاختفاء المفاجئ" وقعت في 14 أكتوبر 2011؛ اختفى فيها 150 مليون بشري من الكوكب بدون تفسير واضح، ما يخلخل البنى الاجتماعية ويعصف بالمعتقدات الدينية.

يُناقش العمل حياة المتبقّين بعد تشتّتهم باختفاء أقاربهم أو أصدقائهم، ويغوص في التساؤل عن معنى الحياة وسط غياب تفسير علميّ للحدث ومخاوف تكرّره، وإن كانت نسبة 2% من سكان الكوكب الذين اختفوا لن تترك الشخصيات في بحث عن النجاة أو تعيد بناء الحضارة، لكنها تحيلهم لبحث عن هدف الحياة. فوفق أغلب المرويات الدينية، فإن المحسنين يرفعهم الإله عن الأرض قبيل نهاية العالم، فتقف الشخصيات بتنوّعها الإيماني أمام الحدث العشوائي عاجزة عن الاتكّاء إلى تفسير مقنع، وتلجأ إلى أسباب ما ورائية، فتنشأ جماعات دينية مختلفة، وتنتشر أوهام النبوءة، إلى جانب حيّزٍ يتخبّط في اللاجدوى والعدمية.

سبر الموسم الأوّل قصّة مدينة صغيرة في نيويورك، مستعرضًا مجموعةً من الشخصيات المضطربة والتي تتفاوت حجم خسارتها في يوم الاختفاء، وتجري الأحداث قبيل الذكرى السنوية الثالثة للحدث، على خلفية الصراع بين جماعة "البقايا المذنبون" المتطرفّة الذين أخذوا عهدًا بالصمت وبين قائد شرطة المدينة.

غطّى الموسم كامل أحداث الرواية وحظي بتقدير نقدي، لكن من دون تكوين قاعدة شعبية، نظرًا لجرعات الكآبة الكثيفة في حلقاته، والغموض الذي يلف شخصياته وكثرة المشاهد الصامتة التي تصوّر انكسارات الشخصيات وصراعاتها الداخلية، إلى جانب أسلوب العرض الفريد في دمج الواقع بالخيال والحلم بالحقيقة الذي يضاعف أسئلة الجمهور. ولأن كثيرًا من المشاهدين كانوا بانتظار أجوبة تتعلق بحدث الاختفاء والألغاز التي تتجدّد في كل حلقة، لم يكن ارتباط اسم ليندلوف بالمسلسل محفزًّا على الاستمرار بمشاهدته؛ فالأخير مؤلف LOST أحد أكثر الأعمال التي تركت مشاهديه من دون إجابات مرضية.

مع بدء الموسم الثاني، والخروج عن مادة الرواية الخام إلى شخوص جديدة ومكان جديد، ازداد الاهتمام بالعمل، واتّضحت رؤيته بأنه سيعالج أنماط السلوك البشري في عالمه المفترض - الذي يلامس عالمنا الحقيقي ولا يطابقه - في طريقة تفسير الشخصيات للحياة بما يتوافق مع مآسيها، وأن العمل ليس معنيًا بتفسير حادثة الاختفاء فيُساوي بين المتلقّي والشخصيات بجهلها حول ما يدور ويزيد ارتباطهم الشعوري مع قناعات وسلوكيات أبطاله.

انتقل العمل إلى مدينة (المعجزة) في تكساس؛ حيث هناك لم يختفِ أحد في اليوم الشهير ما أحاط المكان بخصوصية فريدة ونمو وعي جمعي أنه يمكن للمعجزات الحصول هناك، فيما يُعيد أهل البلدة أفعالهم التي صنعوها عند حصول الاختفاء بشكل يوميّ كي يبقوا محميين من كارثة مستقبلية.

شهد الموسم مناقشة كثيفة للأفكار الوجودية وخصّصت حلقتان فيه لصراع الشخصيات ضمن لا وعيها، إلى جانب التركيز في كل حلقة على شخصية ما وانقساماتها العاطفية على حساب الحدث الرئيسي في مواجهة الجماعة المتطرّفة، وراكم كل الأحداث لتلتقي في نهاية الموسم، باستكشاف مميّز لسلوك البشر في محاولة الدخول إلى المكان الموعود، والبحث عن كارثة تنهي حالة الإنكار في حياتهم اليومية.

منح العمل موسمًا ختاميًا بعد غياب عامين، ليعطى فرصة ختامٍ لائق رغم نسب المشاهدة المتدنيّة، وها هو بعد عرض حلقاته الثماني ينال موقع Metacritic تقييم 98/100 بعد أن كان تقييم الموسم الأوّل 65 %، استغل العمل القفزة الزمنية ليصوّر قبيل الذكرى السابعة للاختفاء وسط انتظار نهاية العالم والطوفان الذي سيغرق الكوكب وترقّب ظهور المسيح المخلّص، وكأن المسلسل يشكل رؤية ما بعد حداثوية للكتاب المقدّس بدمجه الفانتازيا واللاهوتيات في قالب واقعي.

وازن العمل بوفائه للنص الأدبي في الموسم الأوّل، والانطلاق إلى معطيّات تلفزيونية تناسب السرد الروائي والشخصيات المبنية بإحكام في المواسم التالية، واقتربت الحلقات التي تتمركز حول شخصية ما إلى الجو السينمائي وكأنّها مجموعة أفلام لقصص تحدث في ذلك العالم المضطرب، كما أسبغ العمل على بعض حلقاته قوالب تلفزيونية خالصة، ففي كل موسم هناك تجربة مختلفة لأسلوب العرض، كأن تصوّر الحلقة على أساس بوليسي وفي أحيانٍ أخرى أشبه بالرومانسية الكوميدية، ولأن عوامل الجذب للمشاهدين هي أساس شهرة أي عمل تلفزيوني فاكتفى المسلسل بالشخصيات وقللّ من الحبكة، في اختبار لخيال المشاهد وإغراق في دواخل النفس البشرية، مستمدًا قوّته من عدم الإجابة على الأسئلة وجعل المشاهد غير راغب في طرحها بالأصل، بالإضافة إلى التعويل على المواضيع المتفرّعة عن الحدث الرئيسي والتي تشغل حيزًا دراميًا يعطي أبعادًا دون حصر لطرق تعامل الجميع مع الحدث المهول.

المتبقون أو بترجمة أدقّ "المخلّفات"؛ هو رؤية حصيفة للنفس البشرية ودربها نحو الإيمان ومعركة الفرد الشخصية في سبيل معرفة قدره، ناقشت كلّ ما بنته الحضارة الإنسانية من قيم أسرية ومجتمعية في طغيان هائل للألم والنكوص، نبضت شخصياتها بالحياة في أداءات مذهلة وإخراج متميّز، يترافق في الغالب مع موسيقى نبيلة ألّفها ماكس ريشتر.

المساهمون