فوكو والسلطة.. الإلهام الذي يبحثون عنه (2 -2)

فوكو والسلطة.. الإلهام الذي يبحثون عنه (2 -2)

14 يونيو 2017
+ الخط -


إن المظهر النموذجي للسلطة التأديبية هي السجن. وبالنسبة إلى فوكو، فإن الشيء المهم بشأن هذه المؤسّسة، والتي تعد المكان الأكثر انتشارًا للعقاب في العالم الحديث (ولكن لم يكن موجودًا عمليًا كـ شكل من أشكال العقاب قبل القرن الثامن عشر)، ليست الطريقة التي تحبس فيها المجرم بالقوّة. فبهذه الطريقة، نحن نرى أن العنصر السيادي لا يزال قائمًا في السجون الحديثة، ولا يختلف "جذريًا" عن الأشكال الأكثر عهدًا للسلطة السيادية التي تمارس قوّة العنف على المجرم مثل النفي والاستعباد والحبس.

نظر فوكو وراء هذا العنصر الأكثر وضوحًا ليأخذ نظرة أكثر عمقًا لمؤسّسة السجن المتقنة. ولماذا تم استبدال التقنيات غير المكلفة نسبيًا للتعذيب والموت بجمعات السجون المكلفة على مرّ الحداثة؟ هل الأمر حقًا كما يقولون لنا وجعلوننا نصدق أننا بدأنا نصير أكثر إنسانية مع بداية القرن الثامن عشر؟ اعتقد فوكو أن مثل هذا التفسير يفتقد الأساليب الأساسية التي تتغير فيها السلطة عندما يتم استبدال نظارات التعذيب بالسجون المتاهية.

وقال فوكو إنه إذا نظرتم إلى الطريقة التي تعمل بها السجون، وكيف تعل ميكانيكيتها، فسنرى بشكل واضحٍ أنها ليست مصممة لحبس المجرمين بقدر ما هي معنية بكسرهم وتحويلهم إلى بُنى خاضعة أخرى. فالسجون هي أولًا وقبل كل شيء ليست مؤسّسات للحبس وإنما إدارات إصلاح/ تصحيح.

والجزء المهم في هذه المؤسسة ليس قفص الزنزانة، بل هو روتين الجداول الزمنية التي تحكم الحياة اليومية للسجناء، وما يخصّص للسجناء من تفتيش صباحي خاضع للإشراف وأوقات الوجبات المرصودة ونوبات العمل وحتى "وقت الفراغ" الذي تشرف عليه مجموعة من الحاضرين مثل الحراس المسلّحين وعلماء النفس.

والأهم من ذلك، أن جميع عناصر المراقبة في السجون تكون مرئية بشكل مستمر. وهو ما يجعل عنوان كتاب فوكو بالفرنسية "Surveiller et punir" أكثر أهمية وحرفية من عنوانه الإنكليزي "Discipline and Punish" وكذلك العنوان العربي، فهو ترجمة للعنوان الفرنسي "المراقبة والمعاقبة" وليس ترجمة للإنكليزية التي تعني "الضبط والمعاقبة". يجب أن يكون السجناء على علم بأنهم يخضعون للإشراف المستمر. والغرض من المراقبة المستمرة ليس تخويف السجناء الذين يفكرون في الفرار بل لإجبارهم على اعتبار أنفسهم خاضعين للتصحيح. يخضع السجناء إذن للتفتيش السلوكي المستمرّ من لحظة شروق الشمس إلى غيابها.

وتتمثل الوظيفة الرئيسية للسجن في دفع السجناء للاقتناع بكيف يفتشون ويديرون ويصلحون أنفسهم بأنفسهم. وإذا ما كان السجن والإشراف مُصمميّن على نحو فعال، فإن السجناء لن يعدوا بحاجة إلى المشرفين عليهم. لأنهم سوف يصبحون مشرفين على أنفسهم. وهذا هو الخضوع.

ولتوضيح هذا الشكل الحديث من السلطة، استخدم فوكو صورة في كتابه المراقبة والمعاقبة والتي صارت صورة شهيرة جدًا. فمن أرشيفات التاريخ، استرجع فوكو مخططًا منسيًا تقريبًا للفيلسوف الأخلاقي الكنسي المعروف جيريمي بنثام (1748-1832). اقترح بنثام إيجاد سجن بمراقبة عالية جدًا تحت اسم بانوبتيكون. وكان محور هذا الاقتراح مخططاً معمارياً مصمماً لتحقيق الغرض الأساسي "الإصلاحية/ التصحيح". وفي هذا البانوبتيكون، فإن الأهمية المادية المفرطة للأحجار الثقيلة والقضبان المعدنية للسجن البدني أقل أهمية من العناصر غير الملموسة مثل الضوء والهواء التي يتمّ من خلالها كسر روح كل سجين من خلال الإشراف عليها.

كان تصميم البانوبتيكون بسيطًا. فهو على شكل دائرة من الزنازين التي تبنى حول برج الحرس المركزي. مفهوم التصميم هو السماح بمراقب واحد لمراقبة جميع السجناء دون أن يكون السجناء قادرين على معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم لا. وصف بنثام البانوبتيكون على أنه "طريقة جديدة للحصول على قوّة العقل على العقل". فيتم وضع الزنازين في مواجهة البرج وتضاء نافذة كبيرة في الجهة الخلفية للزنزانة بحيث يمكن لأي شخص داخل البرج رؤية ما يحصل داخل الزنزانة ومتابعة نشاطات السجين أولًا بأول. ويكون برج الحرس مرئياً بشكل بارز للسجناء، ولكن، وبسبب النوافذ العمياء للبرج والتي جهزت بشكل مخصص له، لا يمكن للسجناء أن ينظروا إلى داخل البرج لمعرفة ما إذا كانوا يُراقبون. وهذا هو النموذج الذي يطلق عليهِ تصميم المراقبة المستمرة وغير المتوقّفة. وهذا النموذج المعماري ليس مجرد مكانٍ أو مؤسّسة للحبس، إنما كما يقول بنثام نفسه: "مطحنة لتطحن الأوغاد بشكلٍ صحيح".

وقد بقي نموذج بناء سجن البانوبتيكون مجرّد حلم. ولم يتم بناء أي سجن على الإطلاق وفقًا لمواصفات بنثام الدقيقة، على الرغم من أن بعض السجون كانت قريبة في التصميم. وأحد النماذج القريبة هو مركز إصلاحية ستاتفيل في إلينويّ، والذي تم افتتاحه عام 1922 وإغلاقه الرسمي كان في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. لا ينبغي أن يتمّ حبس أي أحد في زنزانة السجن لكي يكون خاضعًا لتصاميمه الترويضية التأديبية.


مركز إصلاحية ستاتفيل بإلينوي في أميركا
إن أكثر جزئية مشوشة في كتاب المراقبة والمعاقبة هي الجملة الأخيرة من القسم المعنون بـ "البانوبتيكية" حيث يسأل فوكو بكل وضوح: "هل من المستغرب أن السجون تشبه المصانع والمدارس والثكنات والمستشفيات والتي هي بدورها تشبه السجون؟"، فإذا كان فوكو محقًا، فهذا يعني أننا كلنا نخضع لسلطة التدريب على التصحيح والإصلاح عندما تكون مرتبطين بمكاتبنا في المدرسة أو مناصبنا كموظفين في خطوط التجميع في المصانع، وربما الأهم من ذلك، في عصرنا ككل، أن لدينا مقصورات منسقة بدقة ومكاتب مفتوحة ذات شعبية كبيرة جدًا في مواقع عملنا اليوم.


مكاتب تعزّز الشعور بالمراقبة
ومن المؤكد أن التدريب التأديبي ليس عنفًا سياديًا، ولكنه شكل من أشكال السلطة. ومن الناحية التقليدية، فقد أخذت السلطة شكل القوّة أو الإكراه، واعتبرت في أنقى صورها عندما كانت تقوم بأعمال العنف الجسدي. يعمل الضبط بشكل مختلف. فهو يعامل كل واحدٍ منا بشكل مختلف. فهو لا يستولي على أجسادنا ليدمّرها، كما هدد الليفياثان دومًا. فالضبط والمراقبة يقومان بتدريب الناس بدلًا من ذلك، ولاستخدام كلمة فوكو المفضلّة، فهما يقومان بتطبيعهم.

وكل هذا يقودنا كما رأى فوكو، إلى أن فرض الضبط عن طريق المراقبة شكل خفي وقاسٍ من أشكال السلطة. إن رفض الاعتراف بهذه الضوابط كشكل من أشكال السلطة هو إنكار لكيفية تشكيل حياة الإنسان وكيفية عيشها. وإذا كان الشكل الوحيد للسلطة الذي نرغب في الاعتراف به هو العنف السيادي، فإننا في موقف ضعيف لنفهم مصالح السلطة اليوم. وإذا لم نتمكّن من رؤية السلطة بأشكالها الأخرى، فقد أصبحنا عاجزين عن مقاومة كل الطرق الأخرى التي تحاول بها السلطة نفسها تشكيلنا.

يُظهر عمل فوكو أن السلطة التأديبية كانت مجرد شكلٍ واحدٍ من العديد من الأشكال التي استولت عليها السلطة خلال السنوات القليلة الماضية. وتوضع السياسة التشريحية التأديبية جنبًا إلى جنب مع السلطة السيادية، فضلًا عن سلطة السياسة الحيوية (السلطة على حياة الناس). وفي كتابه التالي "تاريخ الجنسانية: إرادة العرفان"، قال فوكو إن السياسة الحيوية تساعدنا على فهم كيفية استمرار الوفرة الجنسية الكبيرة في ظل وجود ثقافة تقول بانتظام لنفسها بأن حياتها الجنسية الحقيقية تتعرّض للقمع.

فالسلطة الحيوية لا تحرّم الجنس، بل تنظمه بما يخدم المصالح القصوى لمفاهيم خاصّة مثل الإنجاب والأسرة والصحّة. وكانت السلطة الحيوية التي يُمارسها الأطباء النفسيون والأطباء، في القرن التاسع عشر، هي التي حوّلت المثلية إلى "انحراف" لأنهم كانوا يضعون جل تركيزهم في النشاط الجنسي حول الأسرة الإنجابية الصحيّة. وكان من المستبعد، إن لم يكن مستحيلًا، تحقيق ذلك عن طريق الأفعال السيادية ذات القسر المادي المباشر. لقد كانت جيوش الأطباء الذين ساعدوا على تصويب مرضاهم لمصلحتهم الذاتية المفترضة أكثر فعالية بمليون مرّة من أي سلطة سيادية أخرى.

وهناك أشكال أخرى من السلطة التي لا تزال قائمة في وسطنا. ويرى بعض أن للبيانات سلطة، أي سلطة المعلومات في وسائل الإعلام الاجتماعية، وتحليلاتها والتقييم الخوارزمي المستمر، باعتبارها أهم أنواع السلطة التي ظهرت منذ وفاة فوكو في عام 1984.

لا يزال فوكو مهمًا فلسفيًا، بأن حدد آليات السلطة الحديثة، ومن ثم رفض تطويرها إلى نظرية مفردة ومحددة لجوهر السلطة. إن الشكوك الفلسفية الشديدة التي يتجذر فيها فكره ليست موجّهة ضد استخدام الفلسفة في تحليل السلطة بل إنها تشكّك في الشجاعة وراء فكرة التي تقول بأنه يمكن للفلسفة (وأحيانًا يجب) أن تكشف عن جوهر الأشياء الخفية. ما يعنيه هذا هو أن كلمة فوكو المميزة "السلطة" ليست اسماً لجوهر قام هو باستنتاجهِ، بل هو مؤشر إلى حقل كامل من التحليل الذي يجب على الفلاسفة أن يعملوا عليهِ باستمرار.

أولئك الذين يعتقدون أن الفلسفة لا تزال بحاجة إلى تحديد جوهر أبدي للأشياء، سيجدون أن وجهة نظر فوكو غير مقنعة تمامًا. ولكن أولئك الذي يقتنعون بأن ما يبدو أبديًا بالنسبة لنا، سيكون مختلفًا بالنسبة للأجيال والجيوغرافيات القادمة سيجدون في نهج فوكو الإلهام الذي يريدونه. وفي ما يتعلق بالمفاهيم المركزية للفلسفة السياسية، أي الزوج المفاهيمي للسلطة والحرية، كان رهان فوكو هو أن الناس من المرجح أن يفوزوا أكثر من أجل الحرية عن طريق التراجع عن تحديد جميع الأشكال التي يمكن أن تتخذها الحرية مقدمًا. وهذا يعني رفضه أيضًا إلى مزج التعريفات الساكنة للسلطة. ولا يمكن للحرية أن تزدهر إلا عند متابعة السلطة في كل مكان تعمل فيه. وفقط من خلال تحليل السلطة في تعدد أشكالها، كما فعل فوكو، تكون لدينا فرصة لتعدد الحريّات التي من شأنها أن تتصدّى لجميع الطرق المختلفة التي تستخدمها السلطة لتحدّد من نكون نحن.

والمفارقة في الفلسفة ستعرّف السلطة تعريفًا نهائيًا، هي أنها ستحدّد بذلك جوهر الحرية. وهذا النوع من الفلسفة سيجعل الحريّة خالية تمامًا من معاني الحُرية. أولئك الذي يخافون من عدم القدرة على التنبؤ بالحرية سيجدون بأن نهج فوكو خطر لهم. أما أولئك الذين لا يرغبون في أن يقرّروا اليوم ما يمكن أن يكون أن نعتبره غدًا حرية، فسيجدون فوكو على الأقل في ما يتعلق بوجهات نظرنا الفلسفية واضحًا ومُلخِصًا ومريحًا. ولذلك فإن نهج فوكو في السلطة والحريّة ليس مسألة فلسفة فحسب، ولكنه أكثر أهمية في سؤال بماذا يمكن للفلسفة أن تساهم في تغيير ترتيب ونظام الأشياء التي نجد أنفسنا فيها.

المساهمون