إليني كاريندرو في سينما أنجيلوبولوس.. موسيقى تعبر النافذة

إليني كاريندرو في سينما أنجيلوبولوس.. موسيقى تعبر النافذة

14 يونيو 2017
+ الخط -

يعود استخدام الموسيقى في الأفلام إلى أيّام السينما الصامتة، تأثرًا بالمسرح، وإخفاءً لبعض العيوب التقنيّة الحاصلة آنذاك. أمّا اليوم، مع التطور التكنولوجي الدائم وتراكم الخبرات المعرفيّة في هذا المجال، أصبحت الموسيقى عنصرًا مهمًا في صناعة الكثير من الأفلام، تساهم في بناء حبكتها، وتعزيز أبعاد شخصيّاتها؛ إذ تمكّن مؤلفون موسيقيون عديدون من ترك بصماتهم الخاصة على الفيلم، وإدخال إيقاعهم الخاص عليه بما ينسجم ويتكامل مع رؤية المخرج الفنيّة.

من بين العاملين والعاملات في هذا المجال، قلّة هن النساء اللاتي تميزن، من بينهن اليونانيّة إليني كاريندرو (1941)، التي عملت في مجال التأليف الموسيقي للسينما والمسرح والتلفزيون، لكنها نالت شهرتها الواسعة من خلال شراكتها مع المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس (1935 – 2012).


ذكريات القرية الجبلية
تأثرت إليني كاريندرو، التي ولدت في قرية جبلية صغيرة في منتصف اليونان، بمناخ الطبيعة الهادئ، فكثيرًا ما تحدثت عن ذكريات طفولتها السمعيّة هناك: "موسيقى الريح، المطر المتساقط على الأسطح، المياه الجارية، غناء العندليب، ومن ثم صمت الثلج". كما عَلِقت في ذهنها الألحان الكنسيّة البيزنطيّة التي نفذت إلى منزلها عبر الكنيسة المجاورة له. بعد ذلك، انتقلت كاريندرو مع عائلتها إلى أثينا، حيث اكتشفت ضجيج العالم المتحضر.

وعبر نافذة غرفتها، شاهدت للمرة الأولى أفلامًا عرضتها سينما نُصِبت في الهواء الطلق. وفي أثينا، بدأت تعلّم العزف على آلة البيانو حتى عام 1967، عندما أجبرها المجلس العسكري اليوناني على مغادرة البلاد بسبب معارضتها له؛ فانتقلت للعيش في باريس، حيث بدأت بدراسة الموسيقى الكلاسيكية. ثم درست كاريندرو أيضًا علم الموسيقى الإثنية، كما اكتشفت موسيقى الجاز التي كانت في ذروة ازدهارها حينها.

في هذه المرحلة، تأكدت كاريندرو من رغبتها في دخول عالم التأليف الموسيقي من دون الاكتفاء بالعزف، مدفوعة إلى ذلك بـ "غريزتها في التلحين" على حد وصفها. عند عودتها إلى أثينا، أسست كاريندرو مختبر العزف التراثي. في هذه الفترة تحديدًا، توجه اهتمامها لتأليف الموسيقى التصويرية، فعملت مع عدد من المخرجين السينمائيين والمسرحيين قبل أن تلتقي بالمخرج السينمائي ثيو أنجيلوبولوس.


مع أنجيلوبولوس
في عام 1982، تعرفت كاريندرو إلى أنجيلوبولوس؛ فكان ضمن لجنة تحكيم مهرجان سالونيك السينمائي الذي منح المؤلِّفة جائزة أفضل موسيقى تصويرية عن فيلم "روزا".  سرعان ما عرض عليها المخرج بعد ذلك العمل معه في أول تجربة لهما؛ فيلم "رحلة إلى كيثيرا". استمر التعاون بينهما لأكثر من عشرين عامًا، كانت نتيجتها ثمانية أفلام سينمائية طويلة.

يبدو واضحًا لمن يشاهد أفلام أنجيلوبولوس، الثمانية الأخيرة منها تحديدًا، مقدار الانسجام الفكري، ووحدة التوجّه الجمالي، اللذين جمعا بين المخرج السينمائي والمؤلِّفة الموسيقيّة؛ ذلك أن كاريندرو تجاوزت في أعمالها مفهوم الموسيقى التصويرية. يصف صاحب "المرج الباكي" مساهماتها في أعماله بكثير من التقدير: "موسيقى أليني لا تتّبع الصور فحسب، بل إنها تتطابق معها بطريقة يصعب فصلهما".

كما أن كلا الفنانين تشاركا في قراءة واحدة لتاريخ اليونان وحاضرها. وبسبب دراستها لموسيقى الشعوب، وتأثرها بموسيقى موطنها التي نشأت عليها، تكنّ كاريندرو الكثير من الاحترام للموسيقى اليونانية الشعبية. نستطيع أن نرى انعكاس ذلك على بعض أعمالها مع أنجيلوبولوس، في فيلم "تحديقة أوليس" مع المرأة التي تؤدي ترنيمة بيزنطية كان أداؤها حكرًا على الرجال فقط، أو مع المزمار في فيلم "رحلة إلى كيثيرا".

لكن كاريندرو لم تفرض هذه الصبغة الفولكلورية على جميع أعمالها مع المخرج، بل كانت الضرورة الدرامية هي المحرك الأساسي في تأليفها الألحان. فعلى الرغم من استخدامها الكبير للآلات التراثية كالقيثارة والسانتوري، إلا أنها نجحت في توظيفها بطريقة غير تقليدية، تاركة مساحة خاصة لنفسها كملحنة: "لا أستطيع أن أستخدم التراث، ثم أدعي أنني المؤلفة".

إن الفكرة هي التي جمعت بين المبدعَين، إضافة إلى المعنى المتخفي وراء الكلمات والشعور الناتج عنه. ففي كثير من الأحيان كانت كاريندرو لا تقرأ السيناريو بل يقوم أنجيلوبولوس، الرجل الذي "يشعر كثيرًا ويقول القليل فقط" بسرد قصة الفيلم لها. وفي اليوم التالي، تخرج كاريندرو بعديد من الموضوعات الأساسية التي يستخدمها المخرج نفسه في توجيه المَشاهد وإدارة الممثلين.

هذه التقنية المستخدمة بين المخرج والملحنة تؤكد أنّ طريقة روي القصة قد تكون أكثر أهمية من القصة ذاتها، فمن نبرة صوت المخرج، وطريقته في السرد، تكتشف كاريندرو دوافعه الحسيّة العميقة وراء إنتاج فيلم ما.

وعلى الرغم من هذا الارتباط الوثيق بين الصور والموسيقى، إلا أن كاريندرو نفت في كثير من تصريحاتها اعتماد موسيقاها على الصور: "ألحاني لا تعتمد على الصورة على الإطلاق، بل هي انعكاس لما تحدثه الصورة في داخلي. أنجيلوبولوس يلهمني وأنا أعبّر عن نفسي بالتوازي معه".

ولأنها تعمل على مستوى فلسفي عميق، كانت الموسيقى في كثير من الأحيان، تتضاد مع المادة المكتوبة للفيلم، ففي فيلم "الأبدية ويوم" الذي يرزح بطله طوال الوقت تحت وطأة الموت، نرى مشهد العرس الذي استُعملت فيه موسيقى مبهجة، هدفت إلى إظهار ما وراء هذا التشاؤم والتوجه البطيء نحو الموت، فبرزت هنا الدعوة إلى حياةٍ ربما "أبدية" تؤكدها نهاية الفيلم، مع قرار ألكسندر بعدم الذهاب إلى المشفى، بل البقاء والتخطيط من أجل الغد.

في معظم الصناعات التقليدية للأفلام، تؤدي الموسيقى الصادرة عن مصدر غير مرئي على الشاشة (الخلفية الموسيقية) وظيفة كشف حقيقة مشاعر الشخصية ومخاوفها، أو فضح الدوافع الخفية وراء أفعالها. أمّا موسيقى كاريندرو، فلعبت الدور ذاته، لكن عبر الموسيقى الصادرة عن فضاء الفيلم نفسه، فتتمكن الشخصيات من سماعها أو ربما التفاعل معها أحيانًا. ففي الفيلم السابق أيضًا، يرقص البطل في النهاية مع زوجته على ألحان مقطوعة الأبدية التي يؤديها عازفان على الأكورديون والجيتار. البطل الذي لا يحب الرقص، يراقص زوجته الآن تعبيرًا عن وصوله أقصى درجات الحميمية والإدراك العاطفي.

إن هذه العلاقة السمعية البصرية المنسجمة حينًا، والمتعارضة حينًا آخر، إضافة إلى بروزها كأحد أهم السمات الشعريّة في المشهد السينمائي؛ دفعت المتلقي لخوض رحلة عقلية بقدر كونها روحية وحسية، فتطلبت منه الاجتهاد في تفسيرها، وجعلته أكثر حساسية تجاه فواصل الصمت أيضًا، كما شكّلت عالمًا خاصًا خلقه كل من أنجيلوبولوس وكاريندرو جنبًا إلى جنب، وهوية منحها كلٌ بطريقته للعمل الفني المشترك. كما أنها تقول الكثير عن دور المؤلف الموسيقي، في تخطيه حدود النوط والعلامات الموسيقية لملامسة المعنى القائم خلفها، وحلوله مشاركًا أساسيًا في عملية صياغة الرؤية الفنية الكاملة إلى جانب المخرج.

المساهمون