الفلسطيني سينمائياً...حياة تسر الصديق أو ممات يغيظ العدى (1)

الفلسطيني سينمائياً...حياة تسر الصديق أو ممات يغيظ العدى (1)

18 مايو 2017
ملصق فيلم "فلسطين ستيريو" للمخرج رشيد مشهراوي (فيسبوك)
+ الخط -
يأخذ تلاميذ المدرسة أماكنهم في المنصة المعدة للاحتفال، وينطلقون بالغناء:
في عيد استقلال بلادي غرد الطير الشادي
وعمّت الفرحة البلدان حتى السهل والوادي
في عيد بلادي في عيد بلادي
الشعب يغني فرحان متهني
يحلى لو الترتيل في عيد إسرائيل
ودمتي يا بلادي..


هم أطفال فلسطينيون من الناصرة، في مشهد من فيلم "الزمن الباقي" المنتج سنة 2009 للمخرج إيليا سليمان، فرض عليهم وجودهم داخل ما يسمى بالخط الأخضر التغني باستقلال "بلادهم" في ذات يوم نكبة بلادهم، لا ذنب لهم، فما هم إلا ضحايا عجز الآباء في الدفاع عن الوطن والعرض والمال!

تسير سيارة بسرعة كبيرة في اتجاه "القلعة" في أعلى التلة وهي تلوح بالراية البيضاء دليل استسلام وخنوع، ينزل سائقها ويدخل المكان؛ كرسي وحيد فارغ يظهر في إحدى الغرف وعليه جلس في مواجهته عدد من ضباط جيش الاحتلال، نعتقد للوهلة الأولى أن الأمر له علاقة بمفاوضات ستنطلق، فالسائق لم يكن غير رئيس بلدية الناصرة، لكن الواقع أن وثيقة الاستسلام معدة ولا مجال إلا للتوقيع.

يلتفت وراءه حيث يجلس رَبع من أهل المدينة بلا حراك ليسأل عن التاريخ، يأتيه الجواب سريعاً من أحد الضباط: 16 يوليو/ تموز 1948، وكان لا بد من صورة لتأريخ "النصر"، وخلاله تستبدل المواقع ليتوسط رئيس البلدية المستسلم واسطة الصورة في عملية نصب على التاريخ.. الوفد الفلسطيني خارج الصورة.

لكن المخرج وفي حركة كاريكاتورية، أصرّ على أن يكونوا هم الصورة بعد أن انحنى المصور لتبرز مؤخرته في اتجاههم فكانت ولادة الصورة التي يستحقون، مؤرخة لحقيقة عجزهم واستكانتهم وليس تلك التي أرادها المحتلون.

في الصورة رجل دين مسيحي وإمام مسلم ومعهما عدد من أعيان الناصرة، هؤلاء هم شهود الزور المذنبون الحقيقيون وليس الموقعين؛ حدث نفس الموقف في باحة البيت الأبيض في شهر سبتمبر/ أيلول 1993 إيذاناً بمسلسل مفاوضات انتهى إلى العدم وكرّس توقيعات وتراجعات ومصافحات وثقتها صور.

في محل لبيع وتأجير معدات الصوت يحاول صاحب المحل إقناع ميلاد/ ستيريو بالعمل في هذا المجال، صاحب المحل: "المنطقة مش راح ترسى على بر، إحنا والإسرائيليين قاعدين على ثلاث خوازيق، إحنا على خازوقين وهما على واحد؛ خازوقهم الشعب الفلسطيني ايلي قاعد يتنفس في وجوههم؛ وإحنا خازوقين، الأولاني الاحتلال والثاني الانقسام يا حبيبي".

ستيريو: "هلا خلينا بقضيتنا، قضية الأجهزة. هادي ممكن نحلها أنا وإياك أما هاديك القضية فكل يوم بيحكوا لنا شيء؛ قالوا أنو بعد هاي المفاوضات راح يكون في دولة فلسطينية.. سيبني يا زلمة".
صاحب المحل: "قالوا؟ طب ما يقولوا؛ إحنا بنأجرهم الميكرفون علشان يقولوا".

وهذا مشهد من فيلم "ستيريو فلسطين" المنتج سنة 2013 للمخرج رشيد مشهراوي الذي كان أيضاً وراء إخراج فيلم حمل عنوان "انتظار" عام 2005، وفيه حاول الاقتراب من الوضع الفلسطيني العام في علاقته مع قضية اللاجئين الفلسطينيين المشتتين داخل مخيمات دول الجوار في تداخل واضح بين الذاتي والموضوعي وبين الخاص والعام.

يتخذ مشهراوي من حكايات ثلاث شخصيات رئيسية بشريطه ذريعة للبحث في عمق القضية الفلسطينية بتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية، وليس من سبيل أفضل للتعمق في الموضوع من الحديث عن اللجوء بما يعنيه من حلم في العودة المؤدي طبيعياً لزوال الدولة العبرية ولمقترح التوطين الذي يسعى البعض إلى تكريسه واقعاً، بما يعنيه من إقبار تام لحلم الدولة الفلسطينية المنشودة.

يبدأ الشريط باعتقال حراس الحدود الإسرائيليين لمخرج فلسطيني يدعى أحمد بمعبر إيريز، لمجرد احتفاظه بحجر من أرض فلسطين في حقيبته، في مشهد ملؤه سخرية ومرارة، يصطدم أحمد الحالم بآفاق فنية رحبة تمكنه من "تفجير" مكنوناته الإبداعية في إطار فعل فني فلسطيني "عادي" بعيد عن إطار البروباغندا والدعاية، بالحكم الجاهز المتمثل في ضرورة إقرار سينما فلسطينية "مناضلة" تدعم القضية ورموزها.

وفي الشريط انتقاد واضح لذلك التوجه الذي أفرز انغلاق السينما الفلسطينية الناشئة على نفسها بتكرار مواضيع مستهلكة ومعادة دون أي تجديد فني حقيقي يجعل الهم الإبداعي أساسا له دون غيره من الاعتبارات الأخرى، فمخرجنا هنا يسعى لإنجاز فيلم هزلي كوميدي، في وقت يطالبه الآخرون بوثائقي يصور معاناة الفلسطينيين في ظل الاحتلال، لم يدر بخلد القائمين على الفيلم أن الهزل سيصير لازمة يومية لتطورات القضية على المستويين الداخلي والخارجي.

في فيلم "انتظار" لقاء ثلاثة نماذج من المجتمع الفلسطيني المعاصر، بدءاً بأحمد، المخرج الراغب في مغادرة الأراضي المحررة، مروراً بالمذيعة الشابة بيسان نصار العائدة إلى غزة بعد اتفاقيات أوسلو، انتهاء بالمصور لوميير الذي لم تطأ قدماه خارج فلسطين يوماً، وطوال رحلتهم يلتقون بوجوه فلسطينية تلخّص أحلام ومعاناة شعب كامل كتب عليه الشتات والاغتراب في انتظار الآتي المجهول.

بعد سنوات من إنتاج الفيلم، لم تعد فلسطين هي فلسطين ولا المخيمات هي المخيمات، لكن الاحتلال ظل الثابت الوحيد يحبس أنفاس "المنتظرين" الدائمين لأي شيء قادم في الأفق، كان الفلسطينيون بانتظار حق العودة إلى الوطن، وصاروا اليوم يمنّون النفس بيوم عودة إلى مخيماتهم الأصلية بعد أن انخرطوا في رحلة لجوء في لجوء تكاد لا تنتهي.

كان الفلسطينيون بانتظار التحرير الكامل للأرض المغتصبة التي تحوّلت في الوثائق المحيَّنة إلى مجرد إقامة للدولة، واليوم اكتفوا بانتظار صرف الرواتب بعد أن أصبحوا رهائن وظائف مستحدثة ونمط استهلاكي مفروض،
قبل أن تعمد سلطة رام الله إلى تخفيض مخصصات موظفيها في غزة، عقاباً لـ"دولة حماس"، كان الفلسطينيون بانتظار المصالحة بين فرقاء القضية المختلفين على الشيء واللا شيء، فأصبحوا يخشون "إجراءات مؤلمة" بشّرهم بها محمود عباس بعد أن شمله "عطف" ترامب باللقاء.

يُكلَّف المخرج أحمد من طرف أبو جميل بالبحث عن ممثلين مفترضين للفرقة القومية للمسرح الفلسطيني، في انتظار استكمال تشييد البناية التي ستستضيف إنتاجات الفرقة، هي بناية فرعونية من ألفي مقعد ومرآب يسع أكثر من خمسمائة سيارة تطرح السؤال عريضاً حول الأولويات المعتمدة لبناء الدولة المنتظرة، في وقت تعاني فيها غالبية الشعب البطالة وضيق ذات اليد وشظف العيش وانتظارات من نوع آخر لا يمكن لمسرح أن يستجيب لها.

وتلك حقيقة ركّز عليها كاتب السيناريو في حوار أصم جمع أحمد بأبو جميل المتحمس للمشروع، فبينما استنكر الأخير إمكانية قيام دولة بدون مسرح، كان استفهام الأول مركزاً حول مدى قابلية قيام مسرح في غياب الدولة، ولعل هاتين النظرتين المتباعدين تلخصان الضياع والتخبط اللذين يعيشهما المجتمع و"الدولة" الناشئان قيصرياً، في "انتظار" توضح الرؤية وانجلاء الغمامة عن الأعين وعن المنطقة كوحدة كلية.

وفي "انتظار" تحقق كل ذلك ينطلق الثلاثة في رحلة بحث موزعة بين مخيمات الضفة الغربية والأردن وسورية ولبنان، عن طاقات تمثيلية فلسطينية قادرة على حمل مشعل تأسيس أول فرقة وطنية مسرحية ينتظر منها تشريف الشخصية الفلسطينية والتعريف بقضيتها القومية فنياً، في تجاوز لكل الحدود والمكبلات السياسية للاحتلال وجنوده.

هكذا يطلب المخرج من الأعداد الهائلة من المترشحين تصوير حالات انتظار دون أية توجيهات مساعدة على فهم مراميه، ما يحول الكاستينغ إلى تصوير واقعي لمعاناة المخيمات وتوثيق ليوميات اللاجئين وأحلامهم المغيبة في العودة إلى الوطن/ الحلم الأقرب فعلياً إلى الوهم.

في الجزء الثاني من المقال سنكمل تحليل هذا الفيلم.

المساهمون