بعد 40 عامًا: هل يصلح Annie Hall للعرض اليوم؟

بعد 40 عامًا: هل يصلح Annie Hall للعرض اليوم؟

02 مايو 2017
(من الفيلم)
+ الخط -

"تدور أغرب الأفكار في مخيلتي مؤخرًا، لأني بلغت الأربعين من عمري وبدأت أعاني من أزمةٍ حياتية أو شيءٍ كهذا." يطرح وودي آلن هذا الهاجس، عبر شخصية آلفي سينغر وبخطابٍ مباشر تجاه الجمهور، في فيلمه Annie Hall.

ورغم أن ألفي لن يتوقف عن طرح المخاوف طوال الفيلم، ابتداءً من كونه يهوديًا في نيويورك وصولًا إلى مفهوم العلاقة الذي سيسلط الضوء عليه بشكلٍ رئيسي، إلا أن تخطي حاجز الأربعين وما نعرفه عنه يبدو اليوم مهمًا أكثر من أي وقتٍ مضى لمرور أربعين سنة على صدور الفيلم في نيسان/أبريل عام 1977، طارحًا بالنسبة للفيلم نفس السؤال الذي يراود البشر في هذه النقطة الزمنية الحرجة: والآن ماذا بعد هذا العمر؟

على الرغم من المدة الطويلة منذ عُرض Annie Hall لأول مرة وما تبعه من نتاجٍ سينمائي لا يُحصى، إلا أنه يستطيع جذب مشاهد اليوم متجاهلًا هذا الفارق الزمني لاحتوائه، وتوظيفه، عناصرَ تكفل تمييزه عن الفيلم الكلاسيكي.

فمنذ البداية يُطل مخرج الفيلم وأحد الممثلين الرئيسيين فيه بخطابٍ مباشر موجه إلى الكاميرا، متحدثًا عن مأساته مع حبيبته "آني" – أدت دورها ديان كيتون- المغنية المبتدئة التي تدخل لاحقًا عالم الإنتاج، راويًا قصته معها، في ما لا يمكن تسميته ببساطة "فلاش باك".

وإضافةً إلى التغيير في مرور الزمن هذا، فإن بداية الفيلم تضعنا كمشاهدين أمام قضيتين رئيسيتين: أولاهما تتعلق بـ "الواقع" في الفيلم، هل المتحدث هو آلفي سينغر بشكلٍ تام؟ أم أن وودي آلن نفسه يحضر إلى حدٍ ما؟ فالشخصية مبنية ببعض التفاصيل على حياة آلن نفسه، وعمله ككوميديان، بل وعلاقته العاطفية مع كيتون التي انتهت عام 1979.

إن الفيلم في أجزاءٍ كثيرة يبتعد عن تقديم الواقع، فجميع سكان نيويورك -التي سيحرص آلن على نقل ملامحها خلال السبعينيات- ممن يظهرون أمام الكاميرا، هم ممثلون يحتمل تدخلهم في أية ثانية، يعلقون على أحداث الفيلم أو يتحاورون مع آلفي فيما يعزز نوع الفيلم ككوميدي، ويتركون بعد التدخل الأول المشاهد مترقبًا كل مشهدٍ يجري في الشارع.

أما ثانيتهما فهي خرق الجدار الرابع الذي يضمن ألا يتحول الفيلم لمجرد مراقبٍ على علاقة عاطفية في نيويورك. إن توجه آلفي المستمر للجمهور، معلقًا على الحدث أو طارحًا الأسئلة يهدف إلى زج المشاهد في القصة، ودعوة له للتذكر أو التفكير بعلاقاته هو أيضًا، فيما إذا كان هو أيضًا يخاف "الانضمام لنادٍ قد يقبله"، أو ماذا يعني له الاختلاف مع شريكٍ، إذا ما قورن بالعلاقة نفسها، بالعفوية التي تحدث بها واستمرارنا بالتورط فيها بحثًا عن شيءٍ رغم معرفتنا بسخافتها.

ورغم أن خرق الجدار الرابع بات أقل إثارةً للغرابة اليوم، إلا أنه في Annie Hall سواء عبر التوظيف لطرح الأسئلة، أو التعليق على القصة إضافةً لما لا تستطيع تقديمه بنفسها، يحقق غاياتٍ أكثر تعقيدًا، ويصل إلى حد إدخال فيلسوف الاتصال الكندي، مارشال مكلوهان، بحد ذاته إلى الفيلم، ليُسكت أستاذًا جامعيًا يتحدث بشكلٍ خاطئ عن نظرياته حول وسائل الإعلام، موجهًا عبر هذا الخرق رسالة إلى الوسط الأكاديمي، من الصعب توجيهها بطريقةٍ أخرى، ومن الصعب استذكار ما يشابهها في الأفلام التي تلت Annie Hall.

علاوةً على ذلك، يُذكر للفيلم التجديد، حينها، على صعيد تقنيات عرضٍ كالشاشة المقسومة، التي توضح تناقضات العاشقين لحظة زيارتهما المحلل النفسي، ومقطع كرتوني صغير أثناء حديث آلفي عن شخصية الملكة الشريرة في بياض الثلج، خلال زيارةٍ من عدة لأيام طفولته.

في أحد مشاهد الفيلم، أمام دار سينما، يبرز مُلصق لأحد أفلام إنغمار بيرغمان، الذي لا ينكر آلن تأثره به، لكن ذكر بيرغمان لا يتوقف عند هذا المُلصق، بل إلى الشكل نفسه، إلى عدم الاكتفاء بتذكر الماضي، بل بزيارة آلفي هذا الماضي ومجابهته، كما يفعل الطبيب آيزاك بورغ في فيلم Wild Strawberries، أو بخطاب الكاميرا المباشر، الذي يشبه رسالة مارتا إلى عشيقها، الكاهن جوناس، في فيلم Winter Lights، وكلاهما للمخرج السويدي.


الزمن والقصة
في Annie Hall، يبتعد الزمن أكثر ما يمكن عن كونه خطّيًا ذا بدايةٍ محددة تتجه إلى نهاية، فالفيلم يبدأ من النتيجة؛ من فقدان آلفي حبيبته آني، ثم يعود بلا ترتيبٍ زمنيٍ منتظم إلى مراحل من علاقة الاثنين، بالتغيرات والمحطات التي تمر بها، في صورةٍ شاملة لما يمكن أن تحويه علاقة عاطفية بين شخصين لا تنقصهما الفطنة ليمررا حوارًا محبوكًا بدقة بينهما (ويفشلان، على الأقل عند آلفي، في تكراره مع شركاءٍ آخرين).

علاوةً على ذلك، فإن الزمن في الفيلم يعود أحيانًا إلى ما قبل العلاقة، سواء إلى طفولة آلفي، نبشًا لماضي الرجل النزق الشكاك الذي أصبح عليه، أو إلى علاقات آني السابقة التي انتهت بها إلى العلاقة المحكومة بالبؤس.

أتاح التعامل مع الزمن بهذه الحرية لآلن التركيز على فكرة الفيلم الرئيسية؛ علاقة آلفي وآني والمحاولة الفاشلة للإجابة عن سؤالٍ مثل: ما هو الحب؟ فطرح نهاية العلاقة منذ بداية الفيلم يجعل طغيان التشويق عليه صعبًا، وعلى العكس فإن المشاهد خلال متابعته لعلاقة معروفة النهاية سيحاول حتى في أقوى مراحلها البحث عن أي قشةٍ تقصم ظهرها، سيصطدم برؤيتين مختلفتين للعالم، إحداهما لشخصٍ عصابي وكثير التساؤل والتشكك، محكوم بالسخرية، أمام امرأةٍ برؤيةٍ أكثر إقدامًا وأبهج، دون سذاجةٍ أو غباء أو حتى خضوعٍ، كونها في نهاية الفيلم تحقق طموحها.

ورغم أن Annie Hall  يندرج تحت نوع الكوميديا الرومانسية، إلا أن "حصره" بهذه الطريقة يقيد الفيلم، فعلى المستوى البسيط، لا تتحمل عادةً قصص الكوميديا الرومانسية المقدمة نهايةً كالتي نشهدها في الفيلم. وبشكلٍ أعقد فإن Annie Hall ورغم تقديمه قصة "لطيفة"، وهو التوصيف الذي يكرهه آلفي، تحمل كل عناصر العلاقة العاطفية الاعتيادية القادرة على أداء وظيفة كالترفيه، والمشاعر الإنسانية كالغيرة التي تُحدِث أولى الخلافات بين الاثنين، إلا أنها وفي الوقت نفسه، سواء بالتقنيات التي ذكرناها أو بشخصية آلفي، البعيد عن "الأندية" كلها عبر السخرية وتضاده مع آني، تُقدِّم نظرةً عميقة إلى مفهوم العلاقة، بالتناقضات بين الرفيع واليومي، بين الخلافات التي يمكن أن تحدث بين أي اثنين على سطح الأرض وتلك التي لن تحدث سوى بين اثنين يستحقان أن يكونا بطلي قصة.

وفي مشهدٍ مثل لقائهما الأول في منزل آني، حين يتم الحديث عن موضوعٍ بثقل "أستاطيقا التصوير الفوتوغرافي" بينهما، تُرافق المشهد ترجمةٌ "فعلية" لما يقصده كل منهما حين يخوضان هذا الحديث المعقد، ترجمةٌ لمخاوف آني من ظهورها بمظهر الحمقاء، وآلفي بمظهر المتحذلق، والأهم رغبة مشتركة بالآخر لدى الطرفين تتخفى وراء كل الثرثرة التي نبدأ بها أحاديث كهذه، والتي لا نعيها إلا كمشاهدين، وتغيب عنا - مثل آلفي - حين نصبح مكانه.

وينسحب الاستدلال على الأمور الكبيرة من التفاصيل اليومية، ليصل التغير إلى مظهر آني، لاستعمالها صابون تنقية البشرة، ودخولها عالم الإنتاج في كاليفورنيا، أمام رجلٍ ثابت، حبيس نيويورك السبعينيات (التي تختلف عما سيقدمه مسلسل فريندز بعد عقدين من الزمن) بموقفٍ نقديٍ حاد من العصر، بمفرداته وبرامجه التلفزيونية وصيحاته.

إن علاقة آلفي وآني في الفيلم، على الرغم من الدقة التي رسمت بها، إلا أنها تقدم في الوقت ذاته وثيقةً أوسع، عن تعاظم دور التلفزيون، عن نيويورك التي اجتاحها وباء "الكراك" والجريمة ومهدت لفيلم مثل Taxi Driver ليصبح جزءًا من الثقافة الشعبية، ومحاولة الدخول في علاقة عاطفية في فترة الثورة الجنسية، وكلها عناصر تحضر دون إقحام، دون أن تغير الشكل العام للقصة.

أما الكوميديا في الفيلم، كما باقي عناصره، فتختلف بالمستوى والإيقاع، وتعتمد في جزءٍ كبير على خلفية آلفي ككوميديان واعتماده النكت القصيرة، أو تلك التي تنشأ بين الاثنين وتعتبر أحد محددات علاقتهما أو الناجمة عن تدخل مسنّةٍ في الشارع أو شرطيٍّ يركب حصانًا.

ما يميز الكوميديا فعلًا هو مرجعها الثقافي العالي، تطرقها إلى مواضيع كالتحليل النفسي عند فرويد أو الميتافيزيقيا والانطلاق منها إلى نقدٍ اجتماعي، يطاول العادات اليومية، كالشك والعصاب ونظريات المؤامرة، ولا يرحم الأوساط المثقفة، حتى يصل إلى سخرية آلفي من نفسه ومن تفاصيل كإنتاجه مسرحية بنهايةٍ أكثر سعادة لعلاقته.


ماذا بعد العمر هذا كله؟
إن الأسئلة التي يطرحها Annie Hall، والموضوعة التي يرتكز إليها ما زالت قائمةً حتى اليوم، كوننا ما زلنا كبشرٍ "نحتاج البيض" من دون أن ندركه كما يختتم الفيلم، وإذا ما كانت العلاقات قد جرت بسرعةٍ في السبعينيات إبان الثورة الجنسية، فإنها اليوم تأخذ أشكالًا أسرع حتى، عبر الهاتف الذكي والسحب نحو اليمين أو اليسار، وتترك ما تتركه فينا لنجد، وبعد أربعين سنة، في Annie Hall  أجزاء أجوبة ببساطةِ ما تقوله إحدى العجائز عن التلاشي الحتمي للحب. وأكثر من هذا، سنجد عملًا فنيًا بمقوماتٍ مكتفية بذاتها، قادرة على الإضحاك رغم ما قد تصدمنا به، بلا ترهلٍ أو صلع.

المساهمون