موراكامي.. في وضعية تسلّل إلى أصابع القارئ

موراكامي.. في وضعية تسلّل إلى أصابع القارئ

09 ابريل 2017
(غريغوريوسموريس)
+ الخط -



شاءت الظروف أن أملّ. وحين أملّ لا يسعني القيام بأمور كثيرة. فلا طاقة لي تقريبًا على أيّ شيء، إلا تلك الأمور التي بممارستي لها أو بادعائي ممارستي لها، أبعد عنّي الآخرين وأَبتعد عنهم. ولا بدَّ أن تكون هناك أمورٌ لا تطلّب جهدًا جسديًا، وعليه عندما شاءت الظّروف ومللت، ادّعيت أني أقرأ كتاب "كافكا على الشاطئ" للروائي الياباني هاروكي موراكامي، إلى أن وجدتني توقّفت عن الادّعاء وبدأت القراءة فعلًا.

كان لاسم الرواية عند اختياري لها من بين كتب مكتبتي تأثير أقوى من تأثير اسم كاتبها. لدي ثلاث روايات للكاتب الياباني، إحداها "الغابة النروجية" التي قرأتها سابقًا أو بالأحرى حاولت جاهدة أن أقرأها ولكنني لم أتمكّن من إكمالها، ولم تتمكّن هي من إثارة اهتمامي على الرغم من الجهد الذي بذلته بعد كل ما سمعته عنها وعن روعتها، إلا أنني أُحبطت من المحاولة وقرّرت التّوقف مؤنِّبة نفسي على إرغامها لي بعقاب قراءة 150 صفحة بلا أي متعة تُذكر، ولدي للكاتب أيضًا رواية أخرى هي "1Q84"، التي لم يصل دور قراءتي لها بعد.

أمّا الرواية الثالثة فوقعت بين يديّ بسبب كافكا وبسبب "الشاطئ"، وبقيت بينهما بسبب موراكامي. لم أقرأها وإنّما ارتشفتها، "مزمزتها" مستمتعة بها ببطء، خوفًا من أن تنتهي بسرعة فأفتقدها. وللتوضيح - إن كان من داعٍ له – لم يكن لهذا الخوف علاقة بعودة الملل مجددًا، إنَّما بزوال هذه المتعة، أو بالأحرى جرعات المتعة المتتالية مع كل جزء منها. بدأت أكافئ نفسي بجزءٍ عند الصباح وآخر مساءً. وعند انتهاء كل مكافأة أغلق الكتاب وألقي برأسي على مسند الكرسي أو الكنبة ولا أفكر بشيء. كأنني أصل إلى ما يحاول "المتأمّلون" الوصول إليه من صفاء ذهني في جلساتهم المتكرّرة.

لم يزعجني الانتقال من قصّة إلى أخرى عند كل جزءٍ في المرحلة الأولى، إنّما فرحت مع كل انتقال. كنت متأكّدة أنّني سأفهم لاحقًا، والأهم أنّني وثّقت في الجزء الأوّل بأن موراكامي يعرف ماذا يفعل وأنّني سأفهم ما يفوتني كلّما تقدّمت بقراءتي لهذه القصص قبل أن تتحوّل إلى رواية، وقرّرت أن أستمتع إلى حينها بكل قصّة تقدّمها لي هذه الأجزاء بأبطالها وقططها وتقاريرها وغرائبها ومكتباتها وغاباتها.

مع تقدّم الأجزاء بأحداثها الغرائبية، تمكّنت من الإحساس بوجود نفق "الزمكان" مبتسمة لفكرة العوالم المتوازية التي اخترت أن تكون مفتاحي لفهم العلاقات بين الشّخصيات. ولا أخفي عليكم ارتباكي في الأجزاء الأخيرة أمام أحداث كنت أشتهي أن تكون أوضح بعد كل الغرائب التي أبهرتني.

فبعد أن أعجبني كافكا ونظافته وترتيبه ووضوح جدوله ونهمه في تكرار روتينه، واندهاشي بالقطط الناطقة وتلك التي ستتحوّل أرواحها إلى ناي، والكوخ البعيد وتقشّفه إلا من الوقت والعزلة، وبعد السّماء التي تمطر سمكًا حينًا وعلقًا حينًا آخر، وعلاقتها بالطّفل الذي أصبح عجوزًا فاقدًا للذّكاء بعدما فُتح حجر المدخل أثناء حادثة الفوطة والدّماء التي تلتها صفعات وإغماءات، وبعد قراءة تقارير تظهر فجأة لتخبرني قصّة موازية ورسالة توضّح ما خفي من أحداث عن امرأة سيتضح لي بصعوبة أنّها أمّ كافكا بسبب ذكرها أن لا أولاد لها في الرسالة التوضيحية المتأخّرة. بعد كل هذه الأحداث، توقّعت أن أحصل كمكافأة على خاتمة أوضح. فلم يحصل.

بعد أن انتهيت من قراءة الرّواية اطلعت على بعض ما كُتب عنها من دون أن يضيف ذلك شيئًا إلى ما فهمته. وارتحت عندما قرأت ما قاله موراكامي نفسه، بشأن قراءتها أكثر من مرّة من أجل فهمها. قد أفعل هذا. ولكن إلى حينه أود أن أحاول فهم ألغاز الأجزاء الأخيرة من دون ذلك. وبما أن إعجابي بهذه الرّواية لم ينقص بعد عدم تأكدي من فهم نهايتها أو بالأحرى خلاصة بعض أحداثها، قرّرت أنني سوف أعتمد ما فهمته وإن مرحليًا.

الغابة التي دخلها كافكا في النهاية مستعدًا، كانت منذ البداية، ومن دون أن يُدرك، هدف هروبه من المنزل ومن اللعنة. فهي مكان الذين يريدون أن يقطعوا نهائيًّا مع العالم الذي أتوا منه. هي المكان الذي فيه يبدأون مجددًا متخفِّفين من الذّكريات.

والذي، وبمساعدة الرحلة وأسئلتها ووحدتها وشركائه فيها، وبطلب من أمّه التي أغرم بها محقّقًا نبوءة أبيه، أدرك أنّه يجب أن يرحل منه. على الأرجح أنّه أدرك ذلك بعد أن رحل تلبية لإلحاحها.

لم أفهم لما كان عليه أن ينام مع الأم محقّقًا النّبوءة، ولماذا كان عليها أن تنام معه، لست أكيدة أنّه فعلًا وجد أخته وحقّق اللعنة معها، وإن بالحلم، ولا أشعر أن هذا الأمر سيشكّل لي أيّة أهمّية الآن. لم أفهم أيضًا لقاء الفتى المدعو كرو بالرّجل ذي القبّعة السّوداء، جوني ووكر، والد كافكا في "الليمبو"، المكان ما بين الحياة والموت وما قبل الانتقال إلى العالم الآخر، لم يضف لي شيئًا.

كل ما لم أفهمه لم يزعجني. يبدو أنّ غرائبية الرّواية وشخصياتها تتسلّل مع كل جزءٍ إلى أصابع القارئ عند قلب كلّ صفحة، ومن أصابعه تجد طريقًا ما إلى طِباعه ومزاجه وتوقّعاته، فيتبخّر تأثير هذا الانزعاج من عدم الفهم أمام تأثير ما أبهره.

أعرف جيدًا أنّي سأفكِّر في كافكا كثيرًا، وفي الموسيقى الكثيرة التي في رأسه. تمامًا كما أعرف أنّي سأعيد قراءة "الغابة النروجية" قبل أو بعد "1Q84".

المساهمون