جوناثان ديمي.. يصمت كما الحملان

جوناثان ديمي.. يصمت كما الحملان

28 ابريل 2017
+ الخط -

رحل المخرج الأميركي جوناثان ديمي (73 عامًا) صباح الأربعاء في شقته بمنهاتن بعد معاناة مع سرطان المري وتفاقمات لمرض القلب، بمسيرة فنية حافلة تمتد لحوالي نصف قرن تتنوع فيها أنماط أعماله السينمائية والتلفزيونية؛ أشهرها فيلم "صمت الحملان" و"فيلادلفيا" الذي حاز توم هانكس أوسكاره الأول عن دوره فيه. ويعتبر الراحل من أعلام إخراج الحفلات الموسيقية بالطابع الحداثوي، إضافة لأعماله الوثائقية وخصيصًا الموسيقية ذات التقدير العالي.

لا يزال "صمت الحملان" يحتفظ بكونه آخر فيلم حاز على الجوائز الخمس الكبرى في الأوسكار "أفضل فيلم - أفضل مخرج- أفضل ممثل - أفضل ممثلة - أفضل نص مقتبس"، ويعتبر استثناءً بارزًا عن العادة المتوارثة في هوليوود بكون الأفلام التي تصدر في بداية العام تُنسى في غمرة الأعمال التي يتم إصدارها في موسم الجوائز. نال "ديمي" عن الفيلم ترشيحاً للغولدن جلوب، وجائزة الدب الفضي من مهرجان برلين، وهو فيلم "الرعب" الوحيد الذي حاز أوسكار أفضل فيلم.

وافق ديمي على إخراج الفيلم فور قراءته الرواية قبل اطلاعه على السيناريو، وبعد مشاهدته لأداء هوبكنز في فيلم "الرجل الفيل" أقنع هوبكنز بالانضمام للفيلم في حادثة شهيرة عندما قال إن "ليكتر" يشبه شخصية "تريفيز"؛ فهو رجل جيد إلا أنه محتجز ضمن عقل مريض.

يمتاز ديمي ببصمته البصرية والتي يكثر بها تحديق الممثل بالكاميرا ما يضع المشاهد في موقف الشخصية ترى ما تراه، في سعيٍ حثيث لربط المشاهد بالحدث، فالعين هي العضو الرئيس التي يجب أن تبقى مأسورة في العمل الفني في أثر واضح للمخرج الكلاسيكي روجر كورمان؛ ويتجلى هذا في "صمت الحملان" بشدة حيث إن كل الشخصيات التي تحادث "ستيرلينغ" - أدّت دورها جودي فوستر - تنظر إلى الكاميرا بشكل مباشر، بينما تميل فوستر بنظراتها عن الكاميرا في مشاهدها، هذا ما يدلل بحسب رؤية المخرج لتوحيد هوية المتلقي مع شخصيتها، كما أن الصراع الدائر بين الشخصيات يتم في عقولهم.

اتصف المخرج بالدماثة وفتح المجال أمام شركائه في العمل الفني لتقديم رؤاهم، فتم تغيير المشهد الافتتاحي لصمت الحملان بعد حديث فوستر معه. وحين استاء من وجود قضبان الزنزانة في مشاهد ليكتر و ستيرلينغ لأنها تشتت الحميمية في علاقتهما، اقترح مصمم الإنتاج كريستي زيا استخدام الزجاج الفاصل وهو ما تبنّاه المخرج. وبخلاف كثير ممن شاهدوا الفيلم كنقاد أو جمهور لم يُعجب ديمي بطريقة كلام "ليكتر" التي ارتجلها هوبكنز أثناء التصوير.

لكن مرونته في التعاطي مع العمل الفني تتحجر عند العبث برؤيته الفنية حيث تبرأ من فيلم Swing Shift عام 1984 بعد اختلافه مع الممثل غولدي هاون، وهذا ما ذهب بالفيلم إلى الهاوية فانصرف عنه محبو السينما ولاقى فشلاً جماهيرياً ونقدياً.

ترك ديمي هوليوود بعد الفيلم، واتجه لتصوير فيلم Stop Making Sense لصالح فرقة Talking Heads عام 1986، يستعرض الفيلم 3 حفلات للفرقة في لوس أنجليس، ويُحسب للمخرج تأسيسه للنقلة في تصوير الحفلات الموسيقية فأعماله تذهب أبعد من مجرد الترويج للفرقة، وتحمل في طيّاتها أسلوبه المتفرد في التقطيع وتطويل المشاهد واختيار زوايا التصوير التي تلتقط ملامح العازفين جميعاً في المشهد الواحد وتفاعلهم في خلق المشهد الموسيقي، فيجمع الموسيقى مع الصورة في نقل الأثر للمشاهد، بعيداً عن تصوير أصابع العازفين وحسب.

وفي تاريخه عمل مع عدة فرق وموسيقيين مثل Neil Young و New Order و Bruce Springsteen الذي حصل على أوسكار لأفضل أغنية عن Philadelphia Street عام 1994، وصولاً لآخر وثائقي موسيقي في مسيرته عن حفل جاستين تيمبرلك عام 2016.

ومن الجلي في استعراض سريع لأفلامه وجود الموسيقى بشكل مكثّف، إضافة لأن آخر أفلامه الروائية Ricki and the Flash  كان فيلماً موسيقياً من بطولة ميريل ستريب. يرى "ديمي" أن الموسيقى جزء مهم في حياتنا اليومية كما أنه يستعملها للتلاعب بمشاعر الجمهور، ويرى أن الموسيقى الجيدة والمناسبة تستطيع تحويل المشهد الضعيف إلى جيد وبإمكانها إضفاء بعدٍ مختلف لكل ما يتم تصويره.

وتشيد التقييمات المختلفة بانتقاداته الموسيقية المميزة في أفلامه، ومن أشهرها مشهد الأوبرا في فيلم فيلادلفيا في مونولوج لتوم هانكس يتحدث فيه عن فنائه بينما تنبعث في الخلفية موسيقى La Mamma Morata وهو ما جعل المخرج يبكي أثناء مشاهدة الفيلم لأول مرة، والجدير بالذكر أن الموسيقى تُضاف للمشاهد بعد عملية التحرير لكن ديمي لم يتبع هذا الأسلوب في هذا المشهد بغية تصاعد الحالة النفسية لـ "هانكس".

وفقًا لمجلة Rolling Stone بدأ ديمي مسيرته الفنية في كتابة مراجعات للأفلام وكان هدفه الدخول للسينما مجانًا، وبعد هذا قدّمه والده للمنتج جوزيف ليفين الذي عرض عليه أول عمل في مجال صناعة الأفلام، ضربة الحظ هذه قدمته لإخراج مجموعة من الأفلام الكوميدية، إضافة لأفلام خفيفة أخرى في السبعينيات، يعامل ديمي هذه الحادثة كمحفّز أثناء عمله فهو لم يدرس الإخراج السينمائي وفي بداياته كان يخشى أن يتهم بالنفاق والادعاء.

استعرض ديمي في أفلامه الروائية قضايا تهم المجتمع الأميركي، ويعتبر فيلادلفيا أول فيلم ضخم يتحدث عن قضية الإيدز وبدأ العمل عليه بعد إصابة صديقه المصوّر خوان سواريز بوتان بالمرض. وفي هذا الصدد تنازل المخرج عن مشهد يجمع بطلي الفيلم في السرير، كما أنه لم يصوّر أي قبلة بينهما تفادياً لنفور الجمهور وتشتيت موضوع الفيلم.

ارتبط ديمي بقضاياه في أعماله السينمائية ففي فيلادلفيا يشهد الفيلم ظهور 53 مصابًا بالإيدز خلال مشاهده، توفي منهم حوالي 40 بعد عام من إصدار الفيلم وكان الهدف إظهارهم كجزء من المجتمع، ودافع عن وجود الممثل رون فاوتر في الفيلم بعد جدال مع شركات التأمين التي رفضت وجوده كونه مصاباً بالإيدز.

بقي جوناثان ديمي مخلصاً لقضاياه في أعماله، وبدأ طرح رؤاه الليبرالية في الإعلانات التي صورها في بداية السبعينات وكان من روّاد مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، إلى جانب تصويره فيلمين وثائقيين عن هايتي ونضالها في سبيل الديمقراطية، وأمضى 6 سنوات في العمل على وثائقي يصوّر إعادة الإعمار بعد إعصار كاترينا.

شارك ديمي في إخراج عدة حلقات من أعمال تلفزيونية آخرها الحلقة السادسة من مسلسل Shots Fired الذي تصادف عرضها عشية وفاته على شبكة Fox، وسبق له المشاركة في مسلسل شهيرة مثل The Killing و Enlightened ومن المتوقع عرض مسلسل 7 seconds الذي شارك بإخراج حلقاته على شبكة نيتفلكس في فبراير العام المقبل.

رحل جوناثان ديمي وترك خلفه إرثاً فنياً كبيراً وتنوعاً في أعماله فعمل سينماتوغرافر وشارك ممثلاً في بعض الأعمال، مع مسرحية وحيدة في رصيده الفني إضافة لكتابته عدداً من سيناريوهات أفلامه، التي تحمل الذكاء في شقّها الكوميدي والعمق في أعماله الدرامية لتترك أثراً لدى مخرجين حاليين يرون فيه أيقونة ملهمة مثل بول توماس أندرسون وآليكسندر باي وويز أندرسون، وبقي بحسب من تعاملوا معه محافظاً على حياته الخاصة ودؤوباً في مواقع التصوير، يوازن بين شخصيته اللطيفة والخجولة التي يتجلّى ارتباكها في خطابه عند استلام الأوسكار وحاداً في ما يتعلق بسيرورة العمل الفني ورؤاه الفكرية.