السينما السورية.. مياه كثيرة ما زالت تحت الجسر (1–3)

السينما السورية.. مياه كثيرة ما زالت تحت الجسر (1–3)

10 مارس 2017
+ الخط -

أيامًا بعد خروجه من المعتقل بسبب نشاطه السياسي في بدايات الحراك السوري، يتابع حسين نشرة تنقل خبر مقتل من عُرِف بعراب مصوري الثورة باسل شحادة وأحد تلامذته. يصرخ حسين ويرمي بجهاز التلفزيون محدثًا صوتًا أقرب إلى انفجار. يفتح حسين غرفة أحد زملائه.

حسين: شو؟ نايم يا ابن الجولان؟ أعطيني ها السلم!
يأخذ السلم ويخرج صاعدًا إلى الطابق العلوي.

الملاكم الفلسطيني: حسين، لوين؟
حسين: لعند الله.
صعد حسين إلى سطح البيت الشامي الذي يؤويه وعدد من زملائه فتبعه هؤلاء. وضع السلم في اتجاه السماء وبدأ في الصعود مسنودًا بالآخرين.

حسين: (بعد أن وصل لأعلى) ردوا وراي.. حرية (بأعلى صوته)
انفجار وظلام على الشاشة.

كان ذاك المشهد الأخير من فيلم (سُلّم إلى دمشق) المنتج في عام 2013 للمخرج محمد ملص.

كسر حسين التلفزيون بعد أن تحولت نشرات أخباره، كما الصفحات الأولى للجرائد والمواقع الإلكترونية، إلى مجرد مقابر جماعية لتعداد الأرواح التي سقطت في سورية ولا تزال تعذيبا وقنصًا وبراميل متفجرة وجوعًا.

بين زمن "ما يطلبه المستمعون"، كما قدمه فيلم يحمل العنوان ذاته للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، وزمن "ما يطلبه المشاهدون" المميز لعصر الفضائيات، سرت مياه كثيرة تحت الجسر السوري وتغيرت كثير من العادات والتقاليد وأيضًا الحسابات الجيوستراتيجية الإقليمية والدولية.

ولم يعد خبر وصول أول إنسان إلى سطح القمر يدعو للاستغفار، بل امتلأ الفضاء بالأقمار الاصطناعية وبالقنوات التلفزيونية التي صارت الملجأ المفضل للشعب، رغم أن الفضاء ذاته امتلأ أيضًا بقنوات لا تجيد غير بث عبارات الاستغفار على خلفية مطامح تجارية محضة، لا تجد حرجًا في التركيز على تسويق منتجات تكبير المناطق الحساسة أنثوية كانت أو ذكرية.

انتقلنا من زمن كان يجتمع فيه أهل القرى بالريف السوري، كما بقية أرياف الوطن العربي ومدنه، على جهاز راديو عتيق ينقل عبر أثيره رسائل العشاق وآمالهم وأغاني الحب المعبرة عن أشجانهم، إلى زمن تتنافس فيه القنوات الإذاعية والتلفزيونية على الخصوص على نقل مآسي الحروب الأهلية التي تفتك بكثير من مناطق الجغرافيا العربية. لقد تحول الإعلام العربي من كونه مقبرة للحقائق وللآمال إلى حفار قبور يتلذذ بعرض جثث موتاه.

"ما يطلبه المستمعون" (2003) للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد:

قدك المياس يا عمري يا غصين البان كاليسر
أنت أحلى الناس في نظري جل من سواك يا قمري
قدك المياس مذ مال لحظك الفتان قتالَ
هل لواصل خلد لا لا لا لا فاقطع الآمال وانتظري.

يٌقطع الإرسال الإذاعي، وينطلق الناطق العسكري يعرض "تفاصيل" خبر عاجل عن هجوم إسرائيلي استهدف ضاحية دمشق وانتهى بإسقاط طائرة للعدو وفرار بقية السرب المغير.

يهلل القرويون للجيش العربي السوري البطل ويستنكرون وقاحة العدو الصهيوني. اليوم أيضًا يقطع الإعلام المرئي برامجه المعتادة وقد لا يحتاج، فالشريط الإخباري معد سلفًا ليتدثر باللون الأحمر إعلانًا عن خبر عاجل، صار يشكل ترياق النجاة لرتابة أخبار الدم المسال هنا وهناك وفي كل مكان. لكن الناطق العسكري لم يعد مصدر الخبر الأوحد بل صارت المصادر متعددة، ولم يعد بالإمكان "الكذب" على المتابعين حيث أصبحت اللازمة المقدسة "وتحتفظ قواتنا الباسلة بحقها في الرد في الزمان والمكان المناسبين".

تمر الأيام والشهور والسنوات ليصير الزمان ممتدًا وترتد أسلحة الجيش إلى صدور أبناء شعبه على امتداد مكانيٍّ، حدوده في اتساع مع الأيام بعد أن كانت الأكذوبة الرسمية، التي بنت عليها أنظمة القمع العربية شرعية "الممانعة"، تدمير الكيان الصهيوني وتحرير الأرض العربية المغتصبة. "استمتعنا" بالاغتصاب وتلذذنا به وصرنا مشاعًا مستباحًا لكل راغب أو ذي نزوة عابرة للقارات.

وعلى خلفية نفس التلفزيون يستمع والد غالية، ضابط الجيش السابق المسرّح من الخدمة، في فيلم "سلم إلى دمشق"، لخطاب يلقيه بشار الأسد أمام مجلس الشعب، الذي كان عدل قبل سنوات ما يسمى دستور الجمهورية العربية السورية في مادته المحددة لسن رئيس الجمهورية في الأربعين وخفضته ليتطابق مع سن بشار في مشهد ديمقراطي خالد كما الوالد حافظ الأسد.

لم يكن بشار بالغًا يومها سن "الحلم الدستوري" لخلافة أبيه، لكنه اليوم استأسد، بدعم من حلفائه، على كل من يرفع صوته مناديًا بالحرية، تمامًا كما فعل حسين في المشهد الافتتاحي للنقال.

يقول بشار الأسد: "ولمحت معاناة بجوانب عدة بعضها مرتبط بالجانب المعاشي والخدمي وبعضها متعلق بالمساس بكرامة المواطن أو بتجاهل آرائه أو إقصائه عن المشاركة في مسيرة البناء. أما الفساد فلمست الرغبة العامة في اجتثاثه كسبب رئيسي لأسباب عدم تكافؤ الفرص وافتقاد العدالة وما يولده من شعور بالغبن والقهر عدا عن تداعياته الأخلاقية الخطيرة على المجتمع. والأخطر من كل ذلك هو ما أوجده الفساد من تفرقة وتمييز غير عاديين بين المواطنين على أسس ضيقة بغيضة".

تابع والد غالية الخطاب بغير قليل من الاستهجان.
والد غالية: ولك فخختوا البلد وعملتوا منه حقل ألغام حتى تحولوا كل تمرد لفتنة.

لقد نجح النظام الأسدي في تغذية الأحقاد والمخاوف بين طوائف الشعب السوري، وتحول هذا التنوع من فرصة إلى نقمة استطاع النظام النفاذ منها لبث التفرقة بين أبناء الوطن الواحد بل أظهر نفسه ضامنا لحقوق ما يسمى "الأقليات". وما كان لذلك أن ينجح لولا المساعدة القيمة التي تلقاها من جماعات مسلحة دخيلة لم تجد في الإسلام غير "تطبيق الحدود"؛ فاختصرت الدين الإسلامي في قانون عقوبات منتقى بعناية غريبة. كما أن ما شهدته بعض دول الجوار، وعلى رأسها العراق "الحر"، ساهم في إشعال فتيل الحروب الطائفية التي ظلت لسنوات باردة قبل أن تستعر وتظهر للعلن في أفظع حللها.

عندما بدأ الحراك السوري حذر كثيرون من محاولات النظام إشعال فتيل الطائفية واعتمادها سلاحًا مهمًا لوأد أي سعي للتغيير والتمرد على الاستبداد والقهر. لكن واقع الحال يظهر كيف تحققت النبوءة على طول ست سنوات من ثورة تحولت لحرب أهلية وقودها تصفية حسابات إقليمية ودولية في بلد أتقن لعقود تصفية حساباته على أراضي الغير قبل أن يصير رحى المعركة وميدانها. في سورية خبا صوت الحراك السلمي وترك المجال ليُسمِع السلاح صوته سوريًا كان أو روسيا أو فارسيا أو متعدد جنسيات.

تجلس غالية، بطلة فيلم "سُلّم إلى دمشق"، بجانب والدها ضابط الجيش السابق. لا حوار يدور بين الاثنين.

غالية (في حوار داخلي): قديش بتذكر كنت صغيرة كيف كان يوقف قدام المراية ويسمح النجوم اللي على كتافه ويقول لي: هو الأمل، هو المستقبل. أيامها كان يزهو كلما زادت النجوم الذهب على أكتافه ويقول لأمي ويصرخ مو بدنا نحرر فلسطين وبس، بدنا نحرر الوطن العربي كله.

يرمي الوالد بكأسه في النار الموقدة أمامه ويضحك في تهكم وكأنه رد مناسب على ما جال في خاطر ابنته.

لقد كان لهيمنة الجيش على مناحي الحياة في سورية، كغالبية الدول العربية، وقع التجريف التام لأية ديناميكية سياسية يمكنها أن تتولى تأطير وتدبير الخلاف على السلطة مهما احتد الصراع. لأجل ذلك، يصير تحويل السلاح من وجهته الخارجية إلى الداخل الحل الوحيد الذي يجده النظام العسكري في مواجهة أي حراك أو تمرد يراه خطرًا على سيطرته على مفاصل الدولة بشقيها "المدني" والعسكري واستعباده للمواطنين دون كثير تمييز.

المساهمون