تاريخ الأغنية الوطنية.. إيقاع بلا ضابط

تاريخ الأغنية الوطنية.. إيقاع بلا ضابط

08 مارس 2017
(في ميدان التحرير)
+ الخط -

"يا ولاد حارتنا"، اللحن الفلسطيني الراقص الحزين، والذي ينتقل من البداية الراقصة الأشبه بأغاني الأطفال، إلى العديد والنحيب من وصف وأثر الاحتلال، هو لحن بسيط، لكن التوزيع الراقص الذي أخضع له جعله رتيبًا و"مونوتونيًا".

لعل الأغاني الوطنية العربية كانت من أكثر أنواع الأغاني غزارةً وإنتاجًا خلال المائة عام الماضية، وربما كذلك يعود السبب إلى الظروف السياسية المتقلبة باستمرار للمنطقة، من احتلال وتقسيم وصراعات داخلية، عرقية وطائفية. لذا، عند محاولة رصد تاريخ وتطور الأغنية الوطنية العربية؛ فالمواد المتاحة كثيرة للغاية حتى يصعب التوصل إلى خط مستقيم ونظرية يمكن أن تؤطر هذا التطور.

ليس سهلًا تتبع الخط الزمني، وسنضطر إلى القفز عليه أو بعض الحياد عنه، فأقرب الأشكال زمنيًا في التدوين التي ما زالت حتى الآن محفوظة ومنتشرة هي أغاني الشيخ سيد درويش ومعاصريه؛ حيثُ عرفت مفهوم الأغنية الوطنية آنذاك بالأغنية التي على لسان الشعب؛ إذ تعبر عنه مباشرة وتعلو فوق أي سلطة سواءً محلية أو خارجية، وتقف في ظهر المواطن صاحب الأرض مصدرة أوامرها، معتزة بهويتها وساخرة من العدو. وما زالت تصلنا أغاني الكابتن غزالي "السويسية" الحماسية التي تدعو إلى القتال ضد العدو مهما كانت التضحيات.

في عهد الملكية، تراوحت الأغاني بين مدح الملك وأسرته، للحصول على عطية ما، وبين ذمه، ونظرًا لعدم توافر وسائل الميديا وقنوات الانتشار وصعوبة التوثيق، لم يصلنا منها سوى بعض الكلمات المكتوبة عوضًا عن الأغنيات المصورة، مثل نشيد الأسرة العلوية لأسمهان، وتميزت هذه الفترة بجمال الألحان والتوزيع وفخامة الكلمات واللغة العربية الفصحى.

تلا ذلك عهد الثورة العسكرية على الملكية التي استخدمت الفن كأداة مباشرة في توجبه الجمهور وحشد الدعم لمصالحها؛ فمنذ عهد عبد الناصر كان الفن -والأغنية كجزء منه - إما وطنيًا ولكن بتعليمات مباشرة من الجهات الحاكمة، ومضمون موجه يبث أفكارًا معينة، ويمجد النظام الحاكم بشكل مباشر، حد تفريغه من المضمون.

ولا يستبعد هذا أو ينكر حقيقة وجود تجارب إبداعية حقيقية في تلك الفترة. فكانت كل مناسبة متعلقة بالسياسة أو الرئيس تخرج للوجود أغنية أو أوبريت يحمل تمجيدًا له، وتوجيهًا للحشد، حيث كشف التاريخ والفنانون مع الوقت أن معظم هذه الأغاني إما قد تمت بأوامر مباشرة من السلطة، أو لرغبة الفنان في تملق السلطة لتسمح له بممارسة فنه والتواجد.

ولا يمكن تجاوز أغانٍ تحمل من المباشرة والاستغلال أكثر مما تحمل من الوطنية، مثل "بلدي يا بلدي" لعبد الحليم حافظ، وأغنيات أخرى تمجد في شخص عبد الناصر لأم كلثوم مثل "يا جمال يا مثال الوطنية" أو "حبيب الشعب"، كذلك فإن "أوبريتات" عبد الوهاب لم تخل مما سبق، إذ غازلت حلم القومية العربية للحكام، لكنها بالطبع خلت من ركاكة الألحان، بينما تأرجحت الكلمات بين الجودة والركاكة مثل "الوطن الأكبر" و"الجيل الصاعد"، في مقابل أغنية مثل "صوت بلادي" التي كانت ركيكة الكلمات.

في مقابل الأغاني الوطنية المصرية المعلنة التي تم صنعها، سواءً بالحماسة أو بالأوامر السلطوية المباشرة، لفنانين مثل محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وصلاح جاهين وسمير الإسكندراني، وغيرهم لحشد الجماهير لأفكار معينة، كانت أغاني الوطنية المقاومة في الظل على شاكلة ما حدث مع المضطهدين الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم، حيث دونت وسجلت أغنياتهم عبر التواصل الشخصي، وظلت مجهولة حتى وقت قريب، عندما استدعتها الظروف السياسية للظهور حين لم يناسب المشهد غيرها.

في الفترات اللاحقة، غلب على الأغاني تمجيد الشعب المصري القادر على كل شيء، وبالتالي على حسن اختيار قادته، في رسالة خبيثة تمرر، وتوحي له بحريته التامة في القرار، وطبعًا إلى الاحتفاء بالجيش الذي هو أداة الحفاظ على الدولة والدفاع عنها، كأغنية "العبور بسم الله" من ألحان بليغ حمدي.

ليأتي بعد ذلك عصر الأغنية الوطنية الرومانسية، والتي مثلتها داليدا بأغان مثل "حلوة يا بلدي" و"أحسن ناس"، وهو ما خرج بالأغنية الوطنية من خانة النشيد لحماسي إلى خانة الأغنية الشعبية بالفعل.

ومع ظهور فكرة الأغاني الخفيفة عمومًا، اتسع قالبها ليشمل الأغاني الوطنية، خاصة أغاني التسعينيات الوطنية التي تميزت بركاكة الكلمات الشديدة، في مقابل ثقل الألحان والثيمات الذكية التي تعلق بالأذن، كأغنية "أنا من البلد دي" كلمات عبد الوهاب محمد وألحان بليغ حمدي، وإن أمكن استثناء البعض مثل "بلدي يا بلدي" التي لحنها الموسيقار جمال سلامة.

ثم تحولت الأغنية الوطنية بالكامل إلى أغانٍ وأوبريتات تمجد شخص الرئيس، وتقلل من شأن الشعب الذي تفضل الرئيس بحكمه، وتحولت المناسبات الوطنية إلى مناسبات إنتاجية بحتة وموسم للـ "استرزاق" بالنسبة للفنانين، حيث يجزل لهم العطاء ماديًا أو معنويًا. كما تميزت هذه الأغاني بسهولة تعلقها بالأذن مثل "اخترناه" و"أول طلعة جوية".

ولم يتوار تمامًا حلم الوطن العربي، فغازله البعض بعدد من الأوبريتات، مواكبة لأحداث مأساوية في فلسطين والعراق، مثل الحلم العربي والضمير العربي وغيرهما. ومع الثورة المصرية، وفي حراك البحث عن الواقعية متزامنًا مع مساحة الاكتشاف التي وفرتها الحرية، أعيد بعث الشيخ إمام الذي كانت أغنياته من محركات الأحداث، من فرق شابة ومغنين مستقلين في الأغلب، مثل "كايروكي" و"اسكندريلا" ورامي عصام، والتي تسببت لهم في مشاكل مع الجهات السلطوية، لتتراجع حركة بعث هذه الأغنيات إلى الهامش، وتتصدر الواجهة أغانٍ ركيكة من حيث الألحان والكلمات، تغازل السلطة من جديد، وتمجد الحاكم وأفعاله، بعضها صنع بواسطة مغنين لا ينتمون إلى مصر ولا يعيشون فيها، مما يوقظ كثيرًا من التساؤلات والشكوك، وكأنها أصبحت شفافة تماهي غرضها الرخيص، الذي من أجله تحقر من رؤية وإرادة الشعب لتساند وتروج لقضايا واهية لا تخدمه وتنكر عليه حقوقه، كأوبريت "تسلم الأيادي".

المساهمون