السينما السورية.. "الحي أبقى من الميّت" (2 - 3)

السينما السورية.. "الحي أبقى من الميّت" (2 - 3)

12 مارس 2017
(من فيلم دمشق مع حبي)
+ الخط -

في فيلم (أحلام المدينة - 1984) للمخرج محمد ملص استعادة للحياة السياسية المدنية التي عاشتها سورية في الخمسينيات. وفيه نتابع أطفالًا صغارًا يتأنقون يوم عيد الجلاء لحضور العرض العسكري، وهم يستمعون للرئيس يخاطبهم بالقول: "إن وطنًا أنتم أبناؤه لا يموت، وإن أمّة أنتم جنودها لا تخضع ولا تذّل. عشتم وعاشت البلاد العربية حرّة عزيزة كريمة".

هم اليوم كهول هذه المرحلة، فرقتهم السبل في الغالب، لكن الوجع السوري يجمعهم، دون شك، وهم يرون كيف انتهى المطاف بالجيش العربي السوري يُقتّل أبناء الوطن ويستعين عليهم بالروس والفرس وكثيرين آخرين، وكيف صارت البلاد العربية مجرّد مستعمَرة وأبعد ما تكون عن العزّة والكرامة.

عسكرة المجتمع كانت اختيارًا بعثيًا خالصًا. والقمع والاستبداد عنوانان ملخصان لسنوات حكم دامت ولا تريد أن تنتهي. سليم، شخصية محورية في الفيلم، أبكم لكنه يصارع للحديث والكلمة الوحيدة التي وفق في ترديدها كانت (حبيبي).

الأبكم ما هو إلا رمز لغياب حريّة التعبير ولجم الأصوات كلّها مختلفة كانت أو غير ذات توجّه. والنتيجة أن سليم/ الأبكم رغمًا عنه، حوّل فضاء القرية إلى مجال لتجريب المتفجّرات التي برع في تصنيعها و"زرع" المراوح الورقية في كل مكان. القهر يولد الانفجار، والانفجارات صارت طقسًا سوريًا عاديًا.

لقد انتقلت متفجّرات سليم من مرحلة البدائية إلى ما نشهده اليوم، إرهابًا لا يستثني أحدًا ولا يعترف بالآخر شريكًا محتملًا في الوطن. الإقصاء نهج يرتدُّ على صاحبه كلّما تمكن المقصي من السيطرة على الوضع أو على الأقل حين يتملك القدرة على المواجهة والضحية وطن جريح ينزف أبناؤه شيوخًا وأطفالًا. أما المراوح فقد استطاعت أن تحقّق هدفها وتشعل الحرب المستعرة على نار هادئة لن تبقي ولن تذر.

سكت الكلام والبندقية اتكلمت

والنار وطلقات البارود

شدّت على إيدين الجنود واتبسّمت

إحنا جنودك يا بلدنا وحبّنا

ماشيين على طول الطريق اللى رسمناه كلنا..

صدّق جمال، ابن القرية في فيلم "ما يطلبه المستمعون"، الكلام، فانضم إلى الجيش ورُمِي به إلى ساحة المعركة دون تدريب أو تجهير عالٍ يقيه "محرقة" القصف الجوي للعدو، ليعود إلى قريته كفنًا محمولًا على الأكتاف.

لا يزال أبناء سورية يُطلَبون للانضمام لصفوف القتال ولا يزال منهم من ينشقّ عن جيش النظام للالتحاق بصفوف جيش سوري حرّ، وآخرون يغدون صفوف تنظيمات "جهادية" لا يعرف لها أب أو صاحب. ولا يزال أبناء سورية، في نفس عمر جمال، يعودون في أكفان أغلبها اليوم من صنع محلّي. نقل التلفزيون الرسمي في البدايات جنازات أبناء الريف السوري استدرارًا لعطف الجمهور. لكن القتل صار مألوفًا فانبرى التلفزيون نفسه والقنوات الدائرة في كنفه يخفي الأعداد الحقيقية للقتلى من العسكريين والمدنيين على حدٍّ سواء.

على الجانب الآخر، تواصل الفضائيات عدّ القتلى في أخبار جانبية ربّما لم تعد تغري الكثيرين. وحدها فيديوهات القتل البشعة لتنظيم "داعش" أخذت مكان الصدارة في العناوين والتحليلات. وبين هؤلاء وهؤلاء تُواصل مراوح سليم الأبكم الدوران كطواحين تسحق سورية وأحلام العشّاق من شبابها.

يصرخ الطفل عمر، في فيلم "أحلام المدينة"، وهو يصل إلى دمشق عبر حافلة ركاب.

عمر: يا الله ما أحلى الشام.. تعالي اطلعي.. هاي الشام يا أمي.. تعالي اطلعي.. يا الله ما أحلى الشام يا أمي.. يا الله.

بعد نصف قرن من ذلك التاريخ، نشاهد والد غالية، وهو بالتأكيد من جيل الطفل عمر، في فيلم "سُلّم إلى دمشق" للمخرج نفسه، وهو يسأل ابنته بعد عودتها من دمشق في زيارة عائلية.

والد غالية: ما قلتي لي كيف الشام؟

غالية: يا بيي في الشام الناس تعبانة وخايفة. عينك تشوف الوجوه كيف صايرة.

والد غالية: ما عاد فيه أمل بشيء. ما في أمل. ضاعت الطاسة.

وفي خلفية الشريط الصوتي للفيلم الأوّل خُطب زعماء ذاك الزمن حيث نسمع أديب الشيشكلي وهو يخاطب الشعب من جهاز الراديو: "من أجل ذلك وحقنًا لدماء الشعب الذي أحبّه والجيش الذي أفتديه أقدّم استقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري العزيز، راجيًا أن يكون في ذلك خدمة لبلادي".

كان الشعب السوري يومها ينام ويستيقظ على انقلاب، قبل أن يصل حافظ الأسد لسدّة الحكم انقلابًا على السلطة ويؤمم الدولة لعائلته وعشيرته وجيشه الأسدي.

داخل فصل مدرسي من أيّام خمسينيات القرن الماضي يقف معلم سوري أمام تلامذته، في مشهد من الفيلم نفسه، يشرح معنى الرقيق.

المعلم: الرقيق كلمة عامة تطلق على من فقد حريّته من الناس. فالمسترقّ الأبيض يدعى مملوكًا والأسود عبدًا، والنساء البيض جواري والنساء السود إماء.

كان حلم التحرّر والمساواة وقتها عملة رائجة وشعارًا سعت الشعوب إلى تحقيقه بالانعتاق من ربقة الاستعمار الغربي الخارجي، وبعدها التحرّر من التكون الجنيني لاستبداد الدولة القطرية الوليدة.

بعدها بسنوات، وفي عهد الأسد الوالد، تساوى السوريون في مفهوم الاستعباد للزعيم/ الفرد والبعث/ التنظيم الحزبي، لولا بعض من الأحرار الحالمين الذين رفضوا الخنوع فواجهوا السجون والتعذيب والتنكيل مصيرًا لهم، فالزعيم وزبانيته يريدون لليل الطويل أن يدوم.

يتساءل الشاعر السوري غسّان الجباعي في مشهد من فيلم "سُلّم إلى دمشق"، حيث يجسّد دور والد زينة، المنتحرة يوم اعتقاله، وهو غير بعيد عن حياته الحقيقية بعد أن قضى سنوات في سجون النظام السوري: بتساءل بيني وبين حالي ليش؟ ليش؟ شو الهدف إنك تحبس عشرات الآلاف من الناس 17 سنة و10 سنوات و5 سنين؟ شبّاب بأول أعمارهم بيفوتوا ع السجون بدون ذنب، بدون محاكمة، بدون سبب. واحد قالك لأ بس، أنا ما بتفق معك بالرأي، إيلي رأي آخر تحبسه 10 سنين. ليش؟ ليش؟ ليش..

كان ذاك جيل التضحية، حاول تمهيد الطريق لجيل "التمكين" لكنه فشل وتحّول هؤلاء الذين كانوا ينتظرون التمكين لحطب حرب أقسى وأمرّ، جعلتهم مجرّد كومة حطب تتقاذفها القوى الإقليمية والدولية وقوى أخرى لا أصل لها، في انتظار تسويات خارجية تتوزّع اجتماعاتها في مدن ومنتجعات سويسرا والنواحي.

لكن هل قدّر السابقون تضحيات من قالوا للمستبد كفى، وهل سيقدّرُ اللاحقون تضحيات الجيل الحالي الذي توزّع في السجون والمنافي والمخيمّات وقوداً لتغريبة سورية معاصرة مستمرّة على يد الأسد الوريث؟

يعود المعتقل السابق غسّان الجباعي ليرد: "لما بطلع على الشام وبشوف الناس راكضين على شغلهم موطيين روسهم وساكتين، والناس إيلي راجعين على بيوتهم وحاملين خضرة ولحمة، ولما بشوف الناس إيلي قاعدين قدام التلفزيون يتفرّجوا بحسّ وبفهم ليش سعد الله ونوس كتب مسرحيته الفيل يا ملك الزمان".

هؤلاء ممن اختاروا العبودية طوعًا أو على الأقل سكتوا عن الظلم جبنًا.

في فيلم (الليل الطويل - 2009) للمخرج حاتم علي، يكون خبر الإفراج عن سجناء سياسيين، بعد سنوات من الاعتقال في سجون النظام، مناسبة لتصفية الحسابات بين أفراد العائلات الذين توزّعت ولاءاتهم وتفرّقت سبلهم في ظل منظومة مجتمعية لا تهتم بأمر "الغائب"، ولا تلقي بالًا لتراثه ولا للمبادئ التي كانت وراء تغييبه قسرًا. و"الحي أبقى من الميّت" كما يقول العقيد المتقاعد، في فيلم (دمشق مع حبي - 2009) للمخرج محمد عبد العزيز، وهو الذي يقضي وقته في مشاهدة مباريات كرة قدم مسجّلة فاتته طوال مشاركته في سنوات الحرب بلبنان، ويتفاعل معها كأنها بث حي.

في بيت السجين السياسي كريم، المفرج عنه، يصارع الابن الأكبر نضال الزمن لإعادة البيت إلى ما كان عليه قبل أن يتحوّل لسكنه العائلي الخاص. كانت والدة نضال المتوفّاة تعتقد أن الأب لن يعود أبدًا. هناك كان كفاح الابن الأصغر وكانت البنت الوسطى عروبة في أوّل لقاء يجمع الثلاثة منذ سنوات.

كفاح: صورته الكبيرة ايلي كانت معلقة هون، وينها؟

نضال: موجودة. دوروا عليها بابا (موجها الكلام لابنيه). رجعوا كل شيء مثل ما كان.

كفاح: المهم يجي يلاقي ولاده.

نضال: احنا موجودين.

كفاح: ثائر؟

نضال: صحيح عروبة؟ شو قال ثائر؟

عروبة: أكد لي أنه أوّل ما يلاقي حجز طيران حيجي فورًا.

كفاح: والحساب؟ إيلي صار برأيكم ماله حساب عند أبوكم؟

عروبة: أنا عارفة أنه زعلان وواخد موقف مني أني تزوّجت.

كفاح: المشكلة مو أنك تزوجتي. المشكلة مين؟ مين تزوجتي؟

نضال: كلنا نعرف أنو عروبة وفادي كانوا يحبوا بعض.

كفاح: وإيمتا الحب كان عذر يعفي من العقاب؟

نضال: عروبة ما عملت جريمة لتعفيها من العقاب.

كفاح: ميكفي أنك تبارك زواجها حتى تشرعن علاقتها، وتحامي عن ارتباط مرفوض بكل المقاييس بزواج الضحية من الجلاد.

نضال: سفسطة وحكي فاضي.

كفاح: قدام الحجّة الضعيفة يصير الرأي الثاني سفسطة وحكي فاضي، حكي جرايد. بس تعرف شو؟ إذا كنت قدران تحامي وتدافع عن زواج ملعون من ساسه، وبنفس الوقت كنت عاجز أنك تدافع وتقول كلمة حق في قضية أبوك، معناته كل شيء عملته فحياتك سفسطة وحكي فاضي.

نضال: بدك الحقيقة أنا ما قلت كلمة بقضية أبي. تعرف ليش؟ لأني من جوه مقهور منه. مقهور لأنه ما فكّر فينا. ما فكر شو بدو يصير فينا نحنا ولاده.

كفاح: فكّر بالبلد.

نضال: وهيك البلد نسياته كله على بعضه.

كفاح: مو صحيح..

الأولاد: لقينا الصورة.

كانت صورة فتوغرافية كبيرة للوالد وقد تكسرت تماماً كما تكسرت صورته المعنوية في قلوب أبنائه أو بعض منهم على الأقل.

ماذا لو اجتمعت العائلات السورية بعد سنوات الحرب الطاحنة التي تشهدها البلاد، تفرقّت فيها الانتماءات واختلفت التقديرات وتوّزعت الولاءات؟ كيف سيكون الحوار بين أبناء وآباء وأبناء عمومة وجيران؟ أيمكن للعلاقات الطبيعية أن تعود بين أبناء البيت الواحد والحارة الواحدة والحي الواحد والمدينة والبلد، إن بقي هناك بلدٌ موحدٌ كما كان في البدء؟.

المساهمون