يكفي أننا معاً... تأخرّت الحياة أم حدثت آخِر لحظة؟

يكفي أننا معاً... تأخرّت الحياة أم حدثت آخِر لحظة؟

07 فبراير 2017
عزت القمحاوي/ يكفي أننا معاً (فيسبوك)
+ الخط -
رواية عزّت القمحاوي الجديدة، الصادرة عن الدار المصريّة اللبنانية، لتلحق بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الثامنة والأربعين، عنوانها: " يكفي أننا معاً". بعد قراءة العنوان ستنزلق عيناك إلى الغلاف، الذي يبدو للوهلة الأولى متماهياً تماماً مع العنوان، حيث يظهر عليه فتاة ورجل يسيران في ممر ذي عمارة مميّزة وجميلة، تسبقه الفتاة قليلاً، فيما تلاحظ شَعر الرجل الرمادي بالكامل، هذا الغلاف الذي يعبّر بدقّة عن سؤال الرواية الأساسي، ستعود لتتطلّع إليه بعد نهايتها، متسائلاً عمّا ستفضي إليه الأحداث، محاولاً أن تستشف شيئاً من المِشية أو من لون الأفق.

يعرض عزّت القمحاوي شخصيّاته بتأنٍّ، يبدأ بـ"جمال"، بطل الرواية وصاحب الهم الأكبر بها، وهو محام مُخضرم يقترب من الستّين بخطى ثابتة، أمضى عُمره في أروقة المحاكم وتلافيف قضايا الأحوال الشخصيّة، يبدو اعتداد الراوي بعدم ترافع جمال إلا عن النساء واضحاً في أوّل سطور الرواية، في ما يُعطي انطباعاً بأننا أمام شخص مختلِف. بعد قليل، نفهم أنه ذوّاقة للأدب بكُل أنواعه وقارئ نَهِم، سنعرف عنه أيضاً شغفاً بالكتابة لا يتحقّق.


"لم يعد يتذكر إن كانت العبارة إلهامًا توصَّل إليه بنفسه أم مثلاً شعبيَّا سمعه ذات مرة، لكنها ارتبطت به حتى بدا للآخرين نبيَّا اقتصرت رسالته على هذه العبارة الوحيدة. بفضلها لم يخسر قضية. استفادت منها موكلاته، وكسب من ورائها الكثير من المال، وكان من الممكن أن تمضي حياته على نحو أفضل، لو لم يكن أول المؤمنين بها."

هكذا يتحدّث القمحاوي بتقدير عن "البطيختين التي لا يُمكن إمساكهما بيد واحدة" والذي سيظل هاجساً يسير وراءنا في أحداث الرواية أيضاً، ويبدو أنه هاجس عَلِق بذهن القمحاوي منذ زمن، ففي بورتريهات" ذهب وزجاج" التي صدرت له عام 2011، يكتب عن "إميل حبيبي" سارداً:"وقد ظل إميل حبيبي ضيفاً دائماً على معرض القاهرة الدولي للكتاب حيث استقبل مرات من جمهور لا يدخل كثيرا في تعقيدات السياسة بوصفه ريحاً طيباً من رياح فلسطين، مثله مثل درويش وسميح القاسم، وما إن بدأ في الحديث عن بطيختيه الشهيرتين اللتين يحاول إمساكهما بيد واحدة حتى انفض الجمهور من حوله."


بينما ينبع تميّز جمال المحامي العبقري، من بطيختين لا يمكن إمساكهما بيد واحدة، وكان هذا باب المال والجمهور الذي يتحلّق حوله منتظراً أن تأتي المرافعة بحكم لصالح موكلات جمال في كُل قضيّة، إلا أن هذه هي الجملة التي نفَضت الجمهور من حول إميل حبيبي. يظهر أن إعجاب القمحاوي بالمثل بات منزعجاً من الاستخدام والنتيجة، فحوّله في الرواية إلى خلود يليق به، يقول الإنترنت إن المثل بلغاري، وبالتالي كان صعباً الحصول على ترجمة مشابهة، لكن سياقاً كـ"سلام غير ممكن مع الصهاينة" يكفي لإيضاح ما زج به إميل حبيبي في موضع البطيختين، بعكس جمال الذي تفنّن في تغيير بطيخاته واستلهامها من نبض الناس، فها هو زوج يجمع بين عشيقات وامرأته تطلب الطلاق، أو امرأة تطلب نفقة لأولادها، أو أرملة تصارع إخوة الزوج الميّت، في ما يبدو استخداماً أكثر مواءمة للخلود، حيث يستمده من تعقيدات الحياة وسعي البشر الدائم إلى السعادة.

لكن هذا التميّز مع البطيخ لن يستمر كثيراً، حين تدخل "خديجة البابي" من باب المكتب، طالبة دكتوراه في فنون جميلة، أكملت السابعة والعشرين من عُمرها، تدرس عمارة المحاكم وعلاقتها بهيبة القضاء وفكرة العدالة، في ظل تحوّلات الحياة السياسية في مصر خلال مائة عام، شغوفة جداً بعلمه، تراقبه في قاعات المحاكم من بعيد، وبعد اللقاء الثاني، تبدأ الأمور في التطوّر.

بانسيابيّة ريلكه "دع الحياة تحدث لك"، يكتب القمحاوي، الحياة تحدث حالاً لجمال وخديجة، يتواعدان ويقضيان معاً أغلب الوقت، تتطوّر علاقتهما من خلال الرسائل ومن المقابلات الشخصيّة، يبدو فارق العُمر بعيداً جداً، حتّى تأتي لحظة التعرّي، نكتشف أن خديجة عذراء، وأن جَمال الذي كانت بعض أتعابه تُدفع بطريقة لذيذة، يحاول أن يكتشف الألعاب نصف المحتشمة معها، ليعيد أيام المراهقة والشباب المسروقة.

هنا يبدأ الإيقاع الإنساني في الإفلات، تتوالى المواقف والمقابلات، ونرى أنفسنا بداخل جمال، نتألّم لرؤيته يفكّر في فرق السن الشاسع ويتمنّى وجود جراحة تجميليّة تقص الثلاثين عاماً الزائدة، ونفرح حينما ينسى الناس وينسجم في أحضان خديجة، بالمعايشة اليومية، بدأ فارق السن الشديد يظهر، وفي مكانٍ آخر، فارق الذوق أيضاً، فجمال تشكّلت ذائقته بالنساء المُمتلئة، وخديجة الجميلة نحيفة الجسد رقيقة البشرة، وكما يقول نجيب محفوظ "الإفلات من الجهل، مؤلمٌ كالولادة"، بدأت معرفتهما الأعمق، في تشكيل حواجز وهواجس أكبر بينهما، لقد نظَر إليها نظرة أعقبتها ألف حسرة.

تقترح خديجة أن يسافرا سوياً ليُحرّره السفر من هواجسه، فيذهبا إلى روما، وإلى جزيرة الحُب "كابري"، حيث تستعرض خديجة معلوماتها الغزيرة عن العمارة، في ما يبدو بحثاً حقيقياً قام به القمحاوي لتخرج لنا الشخصيّات بهذا العلم والتدفّق، وليخرج لنا الحوار متسقاً وواضحاً، شارحاً تماثيل لا نراها ومتاحف لم نزرها وشوارع نكاد نمشي فيها معهما، لكن الألم لا يريد أن يتزحزح، يُصاب جمال بالتهاب شديد في الشرج من كثرة المشي، يُخفيه عن خديجة، يستخف بالألم في وقت يزيد فيه الألم عن حدّه كما ينصحه نجيب محفوظ، الذي رافقه طوال هذه الرحلة متمثلاً في "أصداء السيرة الذاتية"، ونذهب في رحلة أعمق، داخل نفسيّة جمال، ورؤيته للأشياء وللطبقات الاجتماعية، تصنيفاته للبشر، وشعوره بالغبطة والحقد على خديجة في نفس الوقت، أليست هي السبب في الحُب الذي يجلب وراءه كل هذا الألم المعنوي والجسدي؟

يقول عزّت القمحاوي في "كتاب الغواية" : "وقد لا يكون الجمع بين الحبين أكثر أنواع الحب غرابة، لكن الحب على وجه العموم ابن للغرابة وليس الاعتياد، وسحره في غرابته وغموضه، بما في ذلك ظهوره المباغت في أقصى وأقسى انعطافات حياتنا وعورة. "

كأن هذه الرواية تحمل جزءاً مما استقر في وجدان القمحاوي، كأنها امتداد لرؤية حياتيّة، يتفرّع منها الحُب والشغف والعمل والعُمر والأدب والفلسفة وعلم النفس، في بنية صلبة ومتماسكة ومُكثّفة، غطسة في أعمق دقائق العلاقة بين الرجل والفتاة، وفي الحوادث التي لا تستمر أكثر من دقائق وتترك أثراً يمتد للأبد.

عندما تنتهي الرواية، ستعود مرّة أخرى للغلاف، ستتغيّر نظرتك إلى الصورة هذه المرّة، وربّما تتمنّى أن تتحرّك يد أحدهما في الرسم لتُمسك بيد الآخر.

المساهمون