السينما المصرية.. هل تتحقّق النبوءة (3 - 3)

السينما المصرية.. هل تتحقّق النبوءة (3 - 3)

24 فبراير 2017
(مشهد من فيلم "فبراير الأسود")
+ الخط -


بينما كان "مجانين الثورة" يتنابزون بالألقاب ويتآمرون على بعض لاقتسام غنيمة السلطة، تصل دفعة جديدة من "أعداء الوطن" إلى المعتقل الصحراوي لأمن الدولة، فتبدأ حفلة الاستقبال المعتادة من ضرب بالكرابيج.

كان سبع الليل هناك يحارب بكل ما أوتي من قوّة، فسقط كرباجه على ابن بلدته حسين وهدان. يصرخ سبع الليل في زملائه ورؤسائه أن يتوقّفوا عن الضرب.

سبع الليل: حسين أفندي ابن العم وهدان لا يمكن يكون من أعداء الوطن.. أبدا أبدا.

لحظة صمت رهيب تسود ساحة المعتقل تشي ببداية فهم وإدراك، لكن وصول العقيد توفيق شركس أعاد الأمور إلى نصابها ورمى بسبع الليل وحسين وهدان داخل إحدى زنازين المعتقل.

حسين وهدان: ضحكوا عليك يا سبع الليل. إيلي هنا مش أعداء الوطن. عارف يعني ايه وطن يا أحمد؟

أحمد سبع الليل: يعني.. يعني..

حسين وهدان: وطنك هو بلدك. وعدو بلدك له شكل ثاني غير شكلك. كلامه غير كلامك. عدوك عايز يسرقك وينهبك. يفرح إذا إنت بكيت. ويشبع لما إنت تجوع. كل ايلي هنا أهلك وناسك يا أحمد.

أحمد سبع الليل: يا نهار اسود. ده أنا قتلت واحد منهم وقال لي إنت حمار.. لكن إيه ايلي جابكم هنا؟ وبيعملوا فيكم كده ليه؟

حسين وهدان: علشان احنا لي فهمنا يا أحمد.

مجانين الثورة لم يفهموا بعد، لكنّ أعداءها يعدون العدة للانقضاض عليهم الواحد تلو الآخر واستعادة ما يعتبرونه حقاً في الحكم.

داخل مزرعة في فيلم (بعد الموقعة)، يقف الحاج عبد الله وبجنبه محمود.

محمود: والله يا حاج الواحد مش عارف البلد ده رايحة فين؟

الحاج عبد الله: حترجع زي ما كانت بالظبط بس من غير حسني مبارك.

في مشهد نهاية فيلم "مجانينو" للمخرج عصام الشمّاع، وبعد خروج المجانين والدكاترة لم يتبق في المستشفى غير المأمور حلمي الذي تحوّل في لحظة من لحظات الفيلم إلى زعيم، إثر انقلابه على الدكتور آدم. يمشي حلمي وحيدًا داخل ساحة المستشفى حاملًا بزّته العسكرية على شكل فزاعة.

حلمي: أنا بهنّي الشعب على انتصاره ضد الخونة ووقفته الشجاعة ضد مرام وآدم وصبحي وكل الخونة والإرهابيين. أنا بطالبكم في ظل الظروف الصعبة ده أننا نلتزم الهدوء لأن ممكن يبقى فيه خونة ثانيين مستخبيين وسطينا. كمان مرّة، أنا بهني الشعب.
للتعذيب مرارة ذاقها عمرو، بطل فيلم (الشتا لي فات)، أواخر يناير 2009، بشكل أدخله مرحلة انحسار نضالي منعه من الخروج لدعم المتظاهرين والاكتفاء بمتابعة الأحداث على التلفزيون. وبالرغم من كل ذلك فجيرانه وأبناء حارته لا يزالون يرون فيه مناضلًا فقد والدته التي قتلتها الحسرة على غيابه القسري.

في يناير 2009 كان عمرو معتقلًا بأمن الدولة، وبعد عامين كان لا يزال يعيش مرحلة اعتقال أشدّ مرارة ببيته حيث حريته مقيّدة بذكريات سيئة، جعلته يبتعد عن الواقع اليومي ويرتمي في أحضان فضاء افتراضي ما لبث أن تحوّل إلى معبر عن ذات الواقع الذي يهرب منه مرتادوه. عندما عاد عمرو من الاعتقال إلى البيت بادرته جارته: "البقية في حياتك". لم يحرّك ساكنًا حتى اختلى بنفسه، وانفجر البكاء. لقد ماتت الوالدة لكن عمرو مات معها أيضًا. صار الخوف المرضي من السلطة وممثليها حاجزًا أمام خروجه إلى واقع يرفضه داخليًا، لكنه لا يسعى أبدًا إلى المساهمة في تغييره مهما تبدت الفرص أمامه مواتية للفعل. الانكسار أمام أوّل مواجهة مع السلطة أمر واقع لكن كثيرون أيضًا يرفضون الإذلال والخنوع.

عالم الاجتماع حسن، في فيلم (فبراير الأسود – 2013) للمخرج محمد أمين، واحد من الشعب وكان لزامًا عليه انتظار هبوب عاصفة رملية شديدة، فاجأته بمعيّة أسرته وهو في رحلة سفاري داخل البلاد، ليعلم، وهو الباحث الاجتماعي المفترض فيه فهم صيرورة المجتمع حيث يعيش، أن "العلماء" والمثقفين ليسوا إلا إكسسوارات لديكور ضخم تؤثّثه مجموعات اجتماعية أخرى كواسطات عقد مجتمعي لا يفي بمتطلبات أحد غيرها.

يومها، عرف الدكتور حسن أن لا مجال للعيش بـ "كرامة" في جمهورية مصر العربية، ومعها كل دول الخريف، ليكون البديل إما الهروب خارجًا بعد اختراق كل الموانع التي تفرضها سفارات الدول "المتحضّرة" أمام الراغبين باللجوء إليها، أو اختراق حصون الفئات "الآمنة" داخل وطن استباحته دون غيرها. لقد استطاعت العاصفة الرملية أن تدفن حسن وعائلته ومن صادفوهم في طريق رحلتهم إلى الواحات. لكنها دفنت أيضًا أي أمل لديه في الانتماء إلى الوطن وهو الذي لم يكف عن طمأنة العائلة أن "الحكومة مش ممكن تسيبنا".

حضرت الدولة، ممثلة في دورية عسكرية، وأنقذت لواء أمن الدولة وعائلته ثم رئيس المحكمة ورئيس جمعية رجال الأعمال وزوجتيهما. أما "أسرة العلماء" فقد وجدت في الذئاب المنقذ الوحيد بعد أن نهشت الذئاب البشرية ما تبقى لها من كرامة.

من "الحكومة مش ممكن تسيبنا" تحوّل الدكتور حسن إلى "ربنا مش حيسيبنا"، بعد أن فقد الأمل في عودة فرقة الإنقاذ العسكرية. كان هذا في السينما، أما في الواقع فقد فاجأت عاصفة ثلجية مجموعة من الشباب في رحلة سفاري إلى سانت كاترين، سنة واحدة بعد عرض فيلم (فبراير الأسود)، ولم تفلح الدولة في إنقاذ أربعة منهم، لم يكن بينهم لواء أمن دولة ولا مستشار ولا رجل أعمال، فقضوا بردًا في يوم من أيّام فبراير الأسود في الواقع كما في السينما.

"لقد اتضح أن العتمة شديدة لدرجة أنك لن تستطيع رؤية الشمعة أصلًا لتشعلها، ودورنا الحقيقي لو كنا شرفاء أن نواجه الناس بأن مصر على شفا كارثة تاريخية لو بقيت الأمور تدار بهذا الشكل.. أنتم للأسف مستقبلكم مظلم".

كانت تلك آخر كلمات وجهها الدكتور (حسن) لطلبته قبل أن يخرج من مدرّج الجامعة ويتركهم حيارى، هم الذين عرفوه متفائلًا وداعيًا لطمأنة الناس. لقد استلذّ الدكتور ومن معه من المثقفين والعلماء التودّد لسلطة منحتهم قليلًا من الفتات وظنّوه تقديرًا وإكراما لهم، فساروا في درب تخدير الشعب بدل استثارة وعيه الجمعي ودفعه للثورة على وضع سائد مهين.

كان الاعتقاد أن لهم حظوة ومكانة. ولعلّ في عودة عالم بقدر عصام حجّي للعمل تحت قيادة الانقلاب قبل أن يهان باختراع جهاز كفتة عبد العاطي، لدليل واضح على نظرة الحكام العرب للعلم باعتباره مجرّد "شعوذة" ليس إلا. ذاك حال الفنانين والراقصات والرياضيين أيضًا، فما هم إلا مجرّد أرجوزات يحرّكها الحاكمون الحقيقيون. أما الإعلاميون فمجرّد "متعهدي حفلات" في أكثر التوصيفات أدبًا.

في مشهد من أكثر مشاهد السينما المصرية مباشرة وتشريحًا لخريطة الأوضاع الاجتماعية بمصر، يقف الدكتور حسن أمام أفراد العائلة الذين استدعاهم على عجل ليعلنها صراحة: في ظل المأساة التي تعيشها البلد، لا أحد يمكنه أن يعيش مطمئنًا على كرامته وحياته وأسرته إلا الأفراد في المنظومات الثلاث:

أولًا، الجهات السيادية (الحكومة، أمن الدولة، المخابرات).

ثانيًا، العدالة (القضاء، النيابة، الشرطة).

ثالثًا، الثروة (رجال الأعمال)، وهي القادرة على شراء المنظومتين السابقتين.

تلك هي الفئات "الآمنة" إلى يوم الدين. والبقية مرشّحون في أية لحظة أن يضربوا "بالجزمة"، لا قيمة لنا في هذا الوطن الذي أصبح وطنهم وأصبحنا فيه لاجئين عندهم. لا حلّ أمامنا غير الهرب من البلد بأقصى سرعة أو أن نحاول الانتماء إلى الفئات "الآمنة" للدخول إلى مظلة الأمان الخاصّة بهم عن طريق الزواج مثلًا. هكذا لخّص الدكتور حسن واقع الطبقية المجتمعية بالبلد. لكن أين الجيش من كل هذا؟ الحديث المباشر عن الجيش محظور. لكن العودة لمشهد العاصفة الرملية تظهر كيف أن أصغر "رتبة" في هذا الكيان يخاطب "المدفونين": حنسحبكم زي ما الكوبوي بيسحب البقر لا مؤاخذة. وكذلك كان.

يسحب اللواء والمستشار ورجل الأعمال كـ "البقر"، مكتوفي الأيدي ويساقون إلى مصيرهم وهم يسبحون بحمد العسكر ويشكرون. العسكر هم الحماة، وفي الثالث من يوليو 2013 عيّنوا المستشار في رئاسة الدولة، وأعادوا الشرطة محمولة على الأكتاف في الميدان لتستبيح التعذيب والقتل، كما أخرجوا رجال الأعمال من السجون، وغنّى الفنانون للقائد الملهم وتمايلت الراقصات. وحدهم الرياضيون لا يزالون تحت رحمة "لعنة الثورة" وتبعاتها.

وطوال رحلة البحث عن "الأمان"، اعتمدت "عائلة العلماء" كل ما تعلمته من مناهج استنباطية ومنطقية واستقرائية لتطويع كل المصاعب التي واجهتها، باستثناء القدر الذي وضع "الشرف" في طريق تحقيق حلمها في تزويج الابنة "ريم" من القضاء أو الشرطة، أو الحصول على "الجواز البديل" الفرنسي المحترم وغيرها من محاولات الانسلاخ التام من الوطن القديم بكل ملامحه وتفاصيله الهوياتية، في عمليات "زار" جماعي. ولعل في ذلك نقد مباشر لقبيلة المثقفين الذين طالما وجدوا في السلطة "حاضنة" شكلية لهم فاستلذوا القرب منها.

مشاهد الفيلم المتتالية وجهت نقدًا لاذعا للشعب الذي يساير كل أشكال الفساد وينحني لها مقابل الحفاظ على مصالح شخصية ضيقة؛ ففي مجال تزوير الإعلام للحقائق نرى كيف يتنقل أفراد عائلة حسن من استنكار التزوير الذي دأب عليه الإعلام لتلميع صورة النظام وتأكيد أكاذيبه إلى القبول به بل التفوّق في المشاركة فيه.

في فيلم (فبراير الأسود)، قراءة "فنتازية" لواقع المواطنة في البلدان المستبدة وللغربة داخل الوطن. لكن الواقع صار أكثر فنتازية من الخيال. فما كان أحد بإمكانه تخيّل كيف أن السؤال الذي يطرحه الفيلم في نهايته قد تحقّق الجواب عنه شهورًا قليلة بعد عرضه، فرأينا كيف عذّبت واعتقلت وقتلت الشرطة من الفئات "غير الآمنة" ما شاءت، فتواطأ معها القضاء لتخرُج من كل القضايا "بريئة" ومعها دعم رجال الأعمال والإعلام يطبلون جميعهم لراعي الفساد الأوّل العسكري الطامع للزعامة التي جاءته تباشيرها في الحلم.



لقد عاد "الآمنون" إلى أماكنهم يعيثون في الأرض فسادًا، وعاد الأراجوزات مجرّد عبيد يأتمرون ويطبلون ويتراقصون في حفلات أعراس "ديمقراطية" جماعية. في نهاية الفيلم تساءل الدكتور حسن: هل ستحب مصر نفسها وتسير في طريق العلم أم أننا سنبقى كما نحن "معفنين"؟.

مات الممثل خالد صالح بعد أن رأى الإجابة عن سؤاله على الأرض تتحقّق يومًا بعد يوم. وتركنا نحن نتابع كيف أن الكبت الفردي والمجتمعي الذي كان حذر منه محمد أمين في فيلميه السابقين (فيلم ثقافي) و(بنتين من مصر) انتهى بانفجار شعبي في ميدان التحرير كما جاء بالضبط في (بنتين من مصر).

كما رأينا، كيف انتهى المآل بالمنظومات المجتمعية الثلاث ومعها الجيش وبقية الكومبارس، كما جاءت في (فبراير الأسود)، فهل تتحقّق نبوءة محمد أمين التي رواها في فيلمه (ليلة سقوط بغداد) حيث تداهمنا جحافل الاحتلال لـ"تنظّفنا" كما ورد على لسان إحدى شخصياته؟

يقول الدكتور حسن إن: البلد وصلت لمرحلة الـ "بيبي"، وأي كلام عن الأمل يبقى نوعًا من الوقاحة.

وهي المرحلة التي ظل عمرو وفرح، في (الشتا لي فات)، حاملين لكاميرا لتوثيقها ظنًا منهما أنها سلاحهما الوحيد في المواجهة.

والنتيجة كما جاءت في تتر الفيلم:

2286 استشهدوا،

371 فقدوا أعينهم،

8469 جرحوا،

27 ناشطة سياسية تم اعتقالهن وتوقيع كشوف عذرية عليهن،

12000 مدني معتقل بأحكام عسكرية..

تلك كانت حصيلة عام عن "الشتا لي فات" كما وثّقها صانعو الفيلم قبل الختام.

بعد ست سنوات لم يعد أحد يحصر نزيف الأرقام.

ما أقبح الخريف الذي نحياه!

المساهمون