غاز الاحتلال... أعراض غامضة تصيب متظاهري مسيرات العودة

غاز الاحتلال... أعراض غامضة وخطرة تصيب متظاهري مسيرات العودة

غزة
الصحافي محمد الجمل
محمد الجمل
صحافي فلسطيني، يكتب لقسم التحقيقات في "العربي الجديد" من غزة.
21 يوليو 2018
+ الخط -
دخل العشريني الغزي أحمد زعرب في غيبوبة دامت عشرة أيام تخللتها تشنجات عصبية أدت إلى تدهور حالته، بعد استنشاق غاز مسيل للدموع أطلقته قوات الاحتلال شرقي مدينة رفح جنوبي القطاع المحاصر، في الثلاثين من مارس/آذار الماضي، أثناء مسيرات العودة، ما استدعى تحويله للعلاج في مصر، بعد عجز أطباء غزة عن التعامل مع حالته كما قال، مضيفا أنه استفاق من غيبوبته وعاد للقطاع بعد أسبوعين من ذهابه إلى القاهرة، بعد تخفيض نسبة التسمم بالغاز في دمه من 70 % إلى 35%.

وتعد الأعراض السابقة علامة على وجود غاز مجهول المكونات يؤدي إلى أعراض خطرة، وفق ما يؤكده الدكتور وائل شقفة مدير المستشفى الجزائري العسكري جنوب القطاع، وأخصائي الجراحة في مستشفى غزة الأوروبي أيمن أبو عبيد ومدير مستشفى أبو يوسف النجار الطبيب عاطف الحوت، الذين رصدوا حالات 300 مصاب بغاز الاحتلال على مدار ثلاثة أشهر، اتسمت بتأثيرات على الجهاز العصبي، تؤدي إلى ارتعاشات في الجسد، وتقيؤ وخروج زبد من الفم، وهذيان، وهو ما رصده الممرض محمد شريف سحويل الذي يعمل ضمن الأطقم الطبية في المستشفى الجزائري القريب من منطقة الاشتباكات، قائلا إنهم قيدوا بعض المصابين بالأسرّة، ليعالجوهم، فالارتعاشات والتشنجات كانت تصل إلى درجة يصعب التعامل معهم.


غموض حالة المصابين

تبدو معظم تحاليل المصابين بالغاز التقليدية سليمة، ما أثار حيرة أطباء القطاع، كما يقول الدكتور أيمن أبو عبيد، موضحا أن الأمر تطلب إرسال عينات دم من المصابين لدولة في أميركا اللاتينية، لتحليلها، طالبا عدم الكشف عن اسمها لدواعي سرية التحقيقات.

ويؤدي استنشاق الغاز مجهول المكونات إلى تهيج شديد في الجهاز التنفسي، وضيق في الشعب الهوائية واختناق وسعال متكرر، مصحوب بألم في الصدر، ما يسبب التهابات في الرئتين وفق ما أوضحه الدكتور محمود الشيخ علي، أخصائي الأمراض الصدرية والتنفسية بمستشفى غزة الأوروبي، وأستاذ مساعد في كلية الطب بالجامعة الإسلامية بغزة، والذي حذر من إمكانية حدوث مضاعفات للمصابين نتيجة نقص الأوكسجين اللازم للجسم، ما يؤدي إلى جلطات قلبية ودماغية وهبوط حاد في الدورة الدموية.



نوعان من الغاز

وأصابت الأعراض السابقة التي وصفها الأطباء الذين التقاهم معد التحقيق، ومنهم الطبيبان الحوت وشقفة، بـ"الخطرة" 30% من مجموع الحالات، بينما عاني من الأعراض التقليدية للغاز مثل حرقة في العينين ونزول الدموع وصعوبة التنفس 70% من إجمالي المصابين الغاز، والذين يشفون بعد تلقي إسعافات أولية بسيطة.

وبلغ عدد المصابين بالغاز 8000 إصابة على مدار الأشهر الثلاثة السابقة منذ بداية مسيرات العودة في 30 مارس/آذار الماضي، عانى ألفان منهم اختناقا شديدا، و30% منهم تطلبت حالتهم مراجعة المستشفيات ما بين مرة واحدة حتى عشر مرات لشعورهم بمتاعب لاحقة، وفق ما أكده الناطق باسم وزارة الصحة في غزة الدكتور أشرف القدرة، والذي أضاف إلى ما سبق سقوط الشهيدة الرضيعة ليلى أنور الغندور "8 أشهر"، بسبب الاختناق الناتج عن الغاز، وهو ما وثقه أستاذ القانون عماد الباز رئيس اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق، التي شكلت بموجب قانون من المجلس التشريعي بغزة رقم 4/لعام 2010، والمتخصصة في توثيق جرائم الحرب الإسرائيلية بحق المدنيين في القطاع المحاصر، إذ بدأ في بحث مفتوح للكشف عن ماهية الغاز الخطير والمجهول، وهو ما يؤيده الدكتور رامي مرجان الأستاذ المشارك في قسم الكيمياء بكلية العلوم في الجامعة الإسلامية بغزة، قائلا "من الخطأ تسمية ما يطلقه الاحتلال على المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع، نظرا لما يسببه من أعراض خطرة تتنافى كلياً مع أعراض الغاز المعروفة عالمياً".

ويشيع عالميا استخدام ثلاثة أنواع من الغاز المسيل للدموع هي "سي إن -CN "وهو مادة "كلوريد الفيناسايل"، و"سي أس- CS"، هو الاسم الشائع لمادة "كلوروبنزالمالونونيتريل"، وغاز "السي آر- CR "داي بنزوكسازيبين (ثنائي البنزوكسازيبين)، والأخير أخطرها وهو مادة مسيلة للدموع مسببة للشلل المؤقت، حظرته القوانين والمعاهدات الدولية، لتأثيراته على الأعصاب، كما أوضح مرجان قائلا "ربما طور الاحتلال النوع الأخير ويطلقه على أهل غزة".

وفشلت محاولات الكيميائيين والأطباء في غزة لتحليل الغاز، ومعرفة تركيبته، بسبب غياب الإمكانات ونقص الأجهزة القادرة على اكتشاف ماهية العناصر الكيميائية الخطرة في القنابل أو أجساد المصابين، وفق الدكتور مرجان.


تاريخ استخدام الغاز

بدأ استخدام الغاز ضد الفلسطينيين منذ عام 1939، وكان يرش من عربات لتهجيرهم من قراهم، لكن الاستخدام الواسع للغاز المسيل للدموع ضد المدنيين بدأ في عام 1987، إبان اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الضفة الغربية والقطاع، ومنذ ذلك التاريخ يأخذ شكل القنابل التي تطلق عبر بنادق، أو تسقط من خلال طائرات وتطور وصولاً لمسيرات العودة، والتي يطلق فيها بكثافة غير عادية، وفق ما كشفه بحث "سياسة استخدام قوات الاحتلال للغازات ضد المتظاهرين في مسيرة ومخيمات العودة" والذي أجراه خلال شهري نيسان/إبريل، وأيار/مايو من العام الجاري، الحقوقي إسلام سكر، مدير البرامج في الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (مؤسسة حقوقية مستقلة)، وعضو اللجنة القانونية والتواصل الدولي لمسيرات العودة وكسر الحصار.



مصيدة الغاز

يعمد الاحتلال إلى إطلاق مكثف للغاز في مواجهة المتظاهرين عبر راجمات وبنادق يدوية، بالتزامن مع إطلاقه خلفهم عبر طائرات مسيرة، ما يشكل حاجزا دخانيا يحاصر المتظاهرين، ويجعلهم أهدافا سهلة للقناصة، بحسب الحقوقي سكر والذي لاحظ عدم وجود علامات أو أرقام مدونة على قنابل الغاز، بهدف محو أدلة إدانة الاحتلال، وهو ما وثقه معد التحقيق بجمع 40 قنبلة غاز، غير مدون عليها أي كلمات.

ويؤكد سبعة من المتظاهرين، بينهم حسام خلف المشهور بلقب "المخ"، وهو من أبرز الناشطين في مسيرات العودة جنوبي القطاع، أن الاحتلال يستخدم نظام المناورة في إلقاء الغاز المسبب للأعراض الخطرة، إذ تُلقى عشرات القنابل من الغاز التقليدي، وفجأة يطلق قنابل أشد خطورة مع بدء الظلام تسبب الأعراض السابق ذكرها، وهو ما أكده مشاركون في استطلاع ميداني أجراه معد التحقيق، وشمل 100 من المتظاهرين والمسعفين والصحافيين، في مناطق شرق رفح وبلدة خزاعة بمدينة خان يونس، جنوب القطاع، وكذلك شرق مخيم البريج وسط القطاع، وحي الشجاعية بمدينة غزة، وجباليا على الحدود الشمالية للقطاع.

وركز الاستطلاع على معرفة الأعراض التي يشعر بها المصاب عند استنشاقه الغاز، وأكد 100% من المستطلعين أنهم شعروا بحرقة في الوجه وإفرازات من العينين والأنف وصعوبة في التنفس، بينما أكد 80% شعورهم بدوار أفقدهم القدرة على الاتزان.

فيما أكد 48% زوال الأعراض بعد تلقيهم إسعافات وابتعادهم عن مصدر الغاز، وأكد 52% شعورهم بأعراض لاحقة بعد عودتهم للمنازل عبارة عن صداع وإعياء عام، في حين قال 15% إنهم تعرضوا للتقيؤ، بينما قال 5% إنهم اضطروا لمراجعة الطبيب أو زيارة المستشفى لتكرار هذه الأعراض.



قرائن الغاز المحرم

وثق بحث الحقوقي سكر ثلاثة قرائن تشير إلى استخدام الاحتلال غازاً محرماً، أُولاها خلو القنابل من أية كتابات، ثانيا: وجود لونين للغاز (أبيض وأخضر)، وهذا دليل على خطورته، وأنه لا ينتمي لمجموعة الغازات المسموح بها دولياً، بينما القرينة الثالثة هي الأعراض الناجمة عن استنشاقه والتي تختلف عن أعراض الغاز التقليدية، وهو ما يخالف القوانين والمعاهدات الدولية، ويشكل مخالفات جسيمة بموجب المواد (146، 147) من اتفاقية جنيف الرابعة 1949، والمواد (11، 85) من البرتوكول الأول الملحق بها لعام 1977، وترقى لوصفها جريمة حرب بموجب المادة 8 الفقرة (2، ب- 18) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كما يقول الناشط الحقوقي وخبير القانون الدولي محمد أبو هاشم، والذي أضاف أن المادة 35 من الملحق، تنص في بندها الثاني على: "يحظر استخدام الأسلحة والقذائف والمواد ووسائل القتال التي من شأنها إحداث إصابات أو آلام لا مبرر لها ضد المدنيين".


وحدة لمكافحة الغاز

أنشأ المتظاهرون وحدة لمكافحة الغاز، تتشكل من 20 إلى 30 متظاهراً في كل منطقة محاذية لمخيمات العودة في القطاع، ويحمل كل عضو في الوحدة وعاءً بلاستيكيا مليئا بالرمل، يتم سكبه فوق قنبلة الغاز فور سقوطها على الأرض، كما يقول الشاب إبراهيم عامر أحد أعضاء الوحدة، مضيفا "نأتي للقنبلة بعكس اتجاه الريح، ونقوم بعملية كتمها، فالرمال تمنع خروج الدخان منها، وبالتالي نحد من خطرها، وفي كل تظاهرة نتعامل مع 300 قنبلة غاز على الأقل".



ويتعامل الطاقم الطبي مع مصابي الغاز، عبر وضع "كمامة" أوكسجين لمساعدة المصاب في الحصول على الأوكسجين الخالص عبر الأنف والفم، وقطرة للعين لتخفيف الحرقة، ومحاليل طبية تحتوي على عناصر "صوديوم وبوتاسيوم ومواد تعمل على معادلة نسبة الحموضة في الدم، كما أوضح الممرضان صالح الهمص، وشريف سحويل، اللذين يعملا في النقطتين الطبيتين الميدانيتين شرقي رفح وخان يونس المخصصتين لاستقبال المصابين.