صناعة التطرف الوهمي...تلفيق قضايا على خلفيات سياسية في روسيا

صناعة التطرف الوهمي... تلفيق قضايا على خلفيات سياسية في روسيا

30 يونيو 2019
معارضون لبوتين يواجهون تلفيق القضايا (Getty)
+ الخط -
تعتبر الحقوقية الروسية سفيتلانا غانوشكينا رئيسة لجنة العون المدني (مؤسسة اجتماعية)، أن تزايد عدد المدانين بتهم التطرف خلال السنوات الأخيرة، سببه "فبركة القضايا"، وهو ما يؤيده الصحافي في موقع "أو في دي إنفو" الحقوقي الروسي، ألكسندر ليتوي، مبديا دهشته من الارتفاع الكبير لعدد تلك القضايا رغم تراجع عدد الحوادث الإرهابية في روسيا، محذرا من عواقب القانون الجديد الذي يقضي بعزل السجناء المتهمين بالإرهاب والتطرف عن الآخرين، إذ أعلنت هيئة الأمن الفيدرالي الروسي في إبريل/نيسان الماضي عن إحباط محاولة تشكيل خلية متطرفة في سجن بمقاطعة إيفانوفا بالواو والتي تبعد عن العاصمة مسافة 318 كيلومترا.

وسجل عدد المدانين بموجب مواد "التطرف" في القانون الجنائي الروسي ارتفاعا بمقدار أربعة أضعاف منذ عام 2011، ليصل إلى 604 حالات في عام 2017، وواصل ارتفاعه في النصف الأول من عام 2018، ليبلغ 337 إدانة خلال ستة أشهر بحسب ما وثقه معد التحقيق عبر إحصاءات المحكمة العليا الروسية.


سجون خاصة

تبنى البرلمان الروسي في نهاية العام الماضي قانون عزل "الإرهابيين" داخل السجون بذريعة "منع انتشار أيديولوجيا التطرف"، وخولت تعديلات القانون الجنائي الروسي التي وقعها الرئيس فلاديمير بوتين، في 28 ديسمبر/كانون الأول 2018، للمحاكم تحديد مكان أداء العقوبة للمدانين بموجب المواد المتعلقة بـ"الإرهاب" لتصبح في السجون وليس في الإصلاحيات، إذ كانت السجون تستقبل المحكوم عليهم في قضايا بالغة الخطورة لمدة تزيد عن خمس سنوات، والمدانين لأكثر من مرة، ومن يتم تحويلهم من الإصلاحيات بسبب انتهاكات صارخة لنظام أداء العقوبة، فيما يقضى المدان لأول مرة عقوبته في الإصلاحية، وهو ما دفع بالحقوقيين إلى دق ناقوس الخطر خوفا من اختلاط الإرهابيين الحقيقيين مع من أدينوا بتهم واهية مثل مشاركة منشور على شبكات التواصل الاجتماعي، كما يقول ليتوي في حديث لـ"العربي الجديد"، موضحا أن "القانون لا يحتوي على أي تعريف واضح لمن هو إرهابي أو متطرف، وعلى سبيل المثال تمت إدانة زعيم اليمين القومي الروسي ديمتري ديوموشكين، وسجنه لمدة عامين ونصف العام بسبب مشاركته صورة للافتة من "المسيرة الروسية" المصرح بها للقوميين، فوجد نفسه في سجن يشبه غوانتنامو. صحيح أن ديوموشكين من الشخصيات التي يمكن أن تكون لها مشكلات مع القانون، ولكنه أدين بتهم واهية".

وبعد الإفراج عنه هذا العام، كتب ديوموشكين شهادته عن ظروف سجنه ونشرت في موقع "أو في دي إنفو"، وقد ذكر فيها أنه بعد وصوله إلى الإصلاحية في مدينة بوكروف، كان أول سؤال تم توجيهه إليه يتعلق بموقفه من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ثم تم إيداعه في وحدة شديدة الحراسة لمدة ثمانية أشهر.

وبحسب شهادة ديوموشكين التي اطلع عليها معد التحقيق، فإن أداء العقوبة في تلك الوحدة تميز بظروف بالغة القسوة مثل منع ارتداء ملابس دافئة رغم الحرارة المتدنية البالغة 11 درجة فوق الصفر، واليقظة ثماني مرات أثناء الليل، مما تسبب في انخفاض وزن جسمه من 105 إلى 60 كيلوغراما. وبعد نقله إلى سجن عادي، شعر ديوموشكين بأنه تم الإفراج عنه كما قال، إذ تم السماح له بتناول طعامه الخاص وممارسة الرياضة ومشاهدة التلفزيون والتحدث مع غيره من المساجين والتردد على كنيسة.



قانون مثير للجدل

يحذر ليتوي من خطر تحول المساجين إلى الفكر الراديكالي في حال إيداعهم في السجون مع الإرهابيين الحقيقيين مثل عناصر تنظيمي النصرة وداعش، ويقول: "لا تواجه روسيا في الوقت الحالي ذلك العدد من الحوادث الإرهابية، ويقتصر عدد عناصر "داعش" العائدين من سورية والعراق على بضع عشرات من أبناء شمال القوقاز، كما تم القضاء على اليمين القومي".

ويضيف في هذا السياق: "هناك منطق ما في عزل عناصر "داعش"، ولكن هناك منظمات أخرى لم تنفذ أي أعمال، ولكنها مدرجة على قوائم الإرهاب الروسية مثل "حزب التحرير الإسلامي" إلا أن القانون لا يميز بينهما بأي شكل. كما يتم إيداع المدانين بسبب مشاركة منشورات على مواقع التواصل معهم. سيخلق ذلك بيئة جيدة للتحول إلى الفكر الراديكالي".

وتواصل أجهزة الأمن الروسية منذ عام 2014، حملة اعتقالات في قضايا "حزب التحرير"، وكانت آخر حلقاتها في نهاية مارس/آذار الماضي، حين تم توقيف 20 "قياديا" في شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا من أوكرانيا قبل خمس سنوات، لاتهامهم بتجنيد مسلمين من أبناء تتار القرم للانضمام للحزب، وهم الفئة الأكثر رفضا لانضمام شبه الجزيرة إلى روسيا. ولعل هذا ما دفع بالاتحاد الأوروبي إلى الاحتجاج، لعدم اعترافه باختصاص القانون الروسي في القرم، وفي ظل عدم إدراج المنظمة على قوائم الإرهاب في أوكرانيا.

وحذرت الهيئة الفدرالية الروسية لتنفيذ العقوبات مرارا من تنامي ظاهرة الإسلام الراديكالي في السجون، وسط ارتفاع نسبة المسلمين بين المساجين إلى نحو 30% من بين إجمالي الموقوفين البالغ عددهم نحو 463 ألفا بحسب تقدير الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الصادر في إبريل/نيسان 2018.
ويعزو ليتوي هذه النسبة المرتفعة إلى تردي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للمهاجرين القادمين من آسيا الوسطى، فينتهي بهم الحال في السجون لأسباب جنائية، وليس بسبب التطرف. ويحذر رئيس قسم البحوث في معهد "حوار الحضارات" (مؤسسة مستقلة غير ربحية)، أليكسي مالاشينكو، هو الآخر من خطورة تركز المتهمين بـ"التطرف" في مكان واحد، قائلا في تصريح لـ"العربي الجديد": "هذا سلاح ذو حدين، ويجب التعامل مع كل حالة بشكل منفرد. هناك سوابق للعب المتطرفين في عقول المساجين الآخرين، وهذه المشكلة قائمة ليس في روسيا وحدها، وإنما في أوروبا أيضا". بدورها، تشير غانوشكينا إلى أن التفسير الواسع لمواد "التطرف" و"الإرهاب" يؤدي إلى فبركة قضايا كثيرة، وتقول لـ"العربي الجديد": "نتيجة لفبركة القضايا، سيجد أبرياء أنفسهم أو أتباع طائفة "شهود يهوه" المحظورة أيضاً أنفسهم بجوار الإرهابيين".

وتضرب مثلا على قضايا من هذا النوع، مضيفة: "حضرت إلينا سيدة تدعى فاطمة اعتقل أبناؤها الثلاثة لمشاركتهم في هجوم إرهابي لم يحدث من أساسه".


تخفيف المادة 282

مع تزايد الانتقادات الحقوقية المحلية والدولية بسبب صدور أحكام فعلية بالسجن بموجب المادة 282 من القانون الجنائي الروسي الخاصة بـ"إثارة الكراهية أو العداوة وإهانة الكرامة الإنسانية"، أدخل الدوما الروسي في نهاية العام الماضي، وباقتراح من الرئيس بوتين، تعديلا على القانون يقضي بإخراج أي نشاط مخالف على الإنترنت من تحت طائلة المسؤولية الجنائية ما لم يتكرر أكثر من مرة خلال عام.

وسجل عدد المدانين بموجب المادة 282 تراجعا طفيفا من 571 مدانا في عام 2017 إلى 518 في عام 2018، ولكنه ظل أعلى من مستوى عام 2016، حين بلغ 502، بحسب إحصاء منظمة "أغورا" الحقوقية الدولية. وتكشف بيانات الهيئة الفدرالية الروسية لتنفيذ العقوبات، أن 36 شخصا كانوا فعليا يؤدون عقوبات بالسجن بموجب المادة 282 بحلول نهاية نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي. لكن بعد تخفيفها، تصبح أقصى عقوبة على المنشورات على مواقع التواصل، غرامةً تتراوح بين ما يعادل 150 دولارا و300 دولار أو أعمال إلزامية أو حبسا إداريا لمدة 15 يوما.

وعلى الرغم من ترحيبه بدخول التعديلات حيز التنفيذ، إلا أن ليتوي يتخوف من استمرار ظاهرة سجن من يتم توقيفهم بسبب منشورات على الإنترنت وإدانتهم بالتطرف، في ظل توفر آلية المادة 280 التي تعاقب أصحاب "الدعوات العلنية إلى ممارسة نشاط متطرف" وتحصرها بين يدي جهاز الأمن الفيدرالي، والتي لا تزال فقرتها الثانية تنص على عقوبة السجن لمدة تصل إلى خمس سنوات في حال تمت "الدعوات" بواسطة وسائل الإعلام أو الإنترنت. وبلغ عدد المدانين بموجب المادة 280 خلال العام الماضي 159 شخصا، بينما كان 170 مدانا خلال عام 2017، فيما كان 143 مدانا خلال عام 2016، وفق بيانات منظمة "أغورا".


شبهة الدوافع السياسية

تساءلت صحيفة "نوفايا غازيتا" الليبرالية المعارضة مؤخرا حول كيفية "صنع الإرهابي" في روسيا، وذلك من خلال تناول قصة ناشط معارض كان يضع قناعا "يشبه بوتين"، فتم اعتقاله بتهمة التخطيط لاغتيال رجل الأعمال المقرب من الكرملين، يفغيني بريغوجين، الذي تشير تسريبات إعلامية متكررة إلى صلته بشركة "فاغنر" العسكرية الخاصة المشاركة في العمليات البرية في سورية. وأخيراً، رفع جهاز الأمن الفدرالي الروسي دعوى بحق "نوفايا غازيتا" لمطالبتها بحذف وتكذيب مقالين عن واقعة تعذيب في أجهزة الأمن الروسي. أما "وكالة الأنباء الفدرالية" ذات الصلة ببريغوجين، فسارعت إلى اتهام الصحيفة بـ"دعم الإرهاب"، متعجبة من تأخر جهاز الأمن الفدرالي في التعامل معها. وحول دوافع السلطات الروسية بالاعتماد على تهم "التطرف" في قضايا يشتبه أن لها أبعاداً سياسية، تقول الحقوقية غانوشكينا: "تفبرك الأنظمة الشمولية مختلف القضايا، نظرا لاحتياجها إلى أعداء لتوحيد الناس، حين لا تجد دافعاً آخر لتوحيدهم".