التلوث في غزة...طفيليات مستوطنة تنشر المرض بين أهالي القطاع

مصبات التلوث في غزة... طفيليات مستوطنة تنشر المرض بين أهالي القطاع المحاصر

غزة
الصحافي محمد الجمل
محمد الجمل
صحافي فلسطيني، يكتب لقسم التحقيقات في "العربي الجديد" من غزة.
26 مايو 2019
+ الخط -
تنقل الأربعيني الغزي محمد سلطان وعائلته المكوّنة من ستة أفراد بين أكثر من منطقة على شاطئ غربي مدينة خان يونس، جنوب القطاع المحاصر، باحثاً عن أقل البقع تلوثاً، ومتجنباً المناطق ذات المياه الداكنة والمائلة للون البني، إلى أن وجد مكاناً بدا صالحاً، لكنه شدد على أبنائه بعدم نزول البحر أو غسل اليدين وما يحملونه من خضار وفواكه في الماء الذي يثق بتلوثه، بعد مرض ثلاثة منهم عقب آخر زيارة للشاطئ، عانوا جميعا من حالات إسهال دموي Exudative Diarrhea، أخبره الطبيب أنها بسبب مرضهم بداء الجارديا الناتج عن طفيليات "Giardia lamblia"، وعدوى أميبية "Entamoeba histolytica" تنتشران في المناطق التي تحتوي على مرافق صحية سيئة.

وتنتشر الأمراض الناتجة عن الإصابة بالطفيليات المعوية في غزة، وتصيب جميع الأعمار، لكن تأثيرها ومضاعفاتها أشد على الأطفال، وذوي المناعة الضعيفة، وفق ما أوضحه عصام الغرابلي استشاري ورئيس قسم الأطفال في مستشفى الدُرة الحكومي بغزة، إذ يكشف التقرير السنوي العام لوزارة الصحة الفلسطينية الصادر في أواسط 2018 أن عدد مراجعات مرضى يشتكون من مشاكل باطنية في مستشفيات القطاع خلال عام 2017 وصل حتى 326.417 مريضاً ومريضة، وهو ما يربطه الأطباء بالعديد من المسببات، من بينها الطفيليات المعوية، إذ ترتفع هذا الإصابات صيفاً مع كثرة التردد على الشاطئ، في ظل تأكيد دراسة أجرتها الجامعة الإسلامية في غزة ونشرت نتائجها عام 2013، أن الطفيليات المعوية أصبحت مستوطنة في غزة، وبلغت نسبة الإصابة بها 24.6% من إجمالي السكان (العدد الحالي 2 مليون نسمة)، لكن الدكتور عدنان الهندي المشرف على الدراسة وأستاذ علم الطفيليات الطبية، وطب المناطق الحارة، وعميد كلية العلوم الصحية بالجامعة الإسلامية كشف في تحديث لاحق جرى في عام 2017 عن زيادة النسبة إلى 30%.



مؤشرات خطيرة لانتشار الطفيليات

أجرت "العربي الجديد" دراسة علمية وفحوصات مخبرية لمياه البحر، ومياه الصرف الصحي التي يتم سكبها على شاطئ غزة، بإشراف البروفيسور الهندي، والدكتور أحمد حلس، الخبير الأكاديمي في قضايا المياه والبيئة، والمحاضر في برنامج ماجستير علوم المياه والبيئة في جامعة الأزهر.

واعتمدت الدراسة نظام المسح المباشر وفلترة العينات، إذ تم جمع 12 عينة من مياه البحر من أربع مناطق في القطاع، وهي "رفح، وخان يونس، ووسط قطاع غزة، ومدينة غزة"، وعينات مماثلة من مياه الصرف الصحي بعد سكبها في البحر، و12 عينة من رمال الشاطئ.


على مدار ثلاثة أسابيع كشفت الدراسة والتحاليل التي أجريت في مختبرات الجامعة الإسلامية وجود طفيلات "Giardia lamblia"، و"البوغيات الخفية Cryptosporidium sp.oocyst" والعدوى الأميبية Entamoeba histolytica وجميعها آدمية معدية، مسببة للمغص والإسهال والنزلات المعوية، وفق الهندي والطبيب الغرابلي والذي لفت إلى أن الطفيليات تصل إلى الجسم عبر الفم عن طريق ماء أو طعام ملوث، وتتفاوت حدة الأعراض المرضية الناتجة عنها من شخص لآخر، وتكون عبارة عن إسهال ممزوج بالمخاط والدم لدى البعض، وقد تتطور الحالة للتأثير على امتصاص الغذاء في الأمعاء، ما يؤدي إلى ضعف جهاز المناعة، وإصابات متكررة بالالتهابات، كما يمكن أن تتسبب الطفيليات في مجموعة من الأمراض والأعراض مثل غازات البطن، الإمساك، متلازمة القولون المتهيج، ومشاكل في الجلد، وقد تسبب السموم والنفايات التي تطلقها الطفيليات زيادة في مستوى الحمض في الدم، وفق أطباء يعملون في مستشفيي غزة الأوروبي والجزائري العسكري.



مساحة الانتشار

كشفت الدراسة انتشاراً كثيفاً لطفيل "البوغيات الخفية" في 50% من إجمالي مساحة الشاطئ، كما كشفت أن مياه الصرف الصحي نشرت تلوثاً عبر طفيليات "البوغيات الخفية، والجارديا، والعدوي الأميبية" على الشاطئ بنسبة 75%، إذ ظهرت العينات الملوثة في ثلاث مناطق من أصل 4 عينات.

وتكشف النتائج الجديدة عن مؤشرات خطيرة لتصاعد تلوث بحر غزة، وفق الدكتور حلس والذي كان قد أجرى دراسة عام 2012 كشفت أن المناطق المتاخمة لمصبات المياه العادمة شديدة الكثافة السكانية، تعاني استيطان طفيليات مثل الجارديا والبوغيات والانتاميبا إضافة إلى الاسكارس في الرمال الجافة والرطبة وفي المياه، وهو ما يوضح خطأ اختيار مواقع المصبات، التي توجد قبالة المدن المكتظة بالسكان.


23 مصباً للصرف الصحي

تضخ ثمانية مصبات رئيسية لمياه الصرف الصحي وتسعة فرعية، وستة ثانوية، مياهاً عادمة في بحر غزة، الذي يصل طول شاطئه إلى 42 كيلومتراً على مدار الساعة بكميات تصل حتى 120 ألف متر مكعب يومياً، مليئة بالملوثات الميكروبولوجية والكيميائية، بحسب ما أوضحه حلس والمهندس سعيد العكلوك، المفتش بقسم متابعة المياه في وزارة الصحة بغزة.

ويربط العكلوك بين التلوث وفصول السنة، كما قال موضحاً إن التلوث يقل شتاءً بسبب محدودية استهلاك المياه، ما يقلل كميات مياه الصرف الصحي، إضافة لقوة حركة الأمواج والتيارات البحرية، ما يسهم في تنظيف البحر لنفسه وسحب المجاري بعيداً، بعكس فصل الصيف الذي يبقى فيه البحر هادئاً كما تزيد كميات الصرف الصحي، بالإضافة إلى تفاقم أزمة الكهرباء بسبب زيادة الاستهلاك، ما يقلل من فترات عمل محطات المعالجة والتي تضخ مياهها من دون معالجة.



سبب آخر أضافه الدكتور حلس إلى ما سبق وهو اهتراء محطات معالجة المياه العادمة الخمس في القطاع، وعدم سماح الاحتلال بتجديدها أو صيانتها، كما أن الكهرباء في أحسن الأحوال تصل إليها بنسبة 50% من ساعات النهار.

ويعاني قطاع غزة أزمة مياه شرب تصل حتى 140 مليون متر مكعب من المياه سنوياً، كما أن ما يستهلك من الخزان الجوفي يفوق بثلاثة أضعاف ما يصل من أمطار، بحسب حلس الذي لفت إلى أهمية معالجة المياه العادمة للاستفادة منها.



من المسؤول؟

رصدت الإدارة العامة لحماية البيئة التابعة لسلطة جودة البيئة الحكومية ارتفاع مستويات تلوث مياه البحر جداً في عامي 2017 و2018، إذ تراوحت ما بين 60% و75% من إجمالي الشاطئ، وفق ما كشف عنه بهاء الدين الأغا المدير العام للإدارة، في حين أظهرت نتائج الفحوصات التي أجريت خلال شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار من العام الجاري، والتي أجرتها سلطة جودة البيئة بالتعاون مع وزارة الصحة، استمرار انتشار التلوث على نحو واسع، وفق ما أظهرته خارطة وزعت على البلديات لنشر لافتات تحذيرية للمصطافين، تحدد بقع التلوث، و هو ما لفت انتباه الدكتور حلس، مؤكدا أن هذا يعني استفحال المشكلة، وفشل كل الحلول التي تم التحدث عنها سابقاً من أجل علاجها، مؤكداً أن التلوث موجود في كل الشاطئ دون استثناء.

وأوضح الأغا أن سلطة جودة البيئة جهة استشارية تسلم نتائجها للبلديات ومصلحة مياه بلديات الساحل، وتنشر خارطة تحدد المناطق الخطرة والآمنة، وتحث الجهات المعنية دائماً على وقف تلويث البحر، قائلاً: "البلديات عليها تحذير المصطافين ونشر اللافتات التحذيرية، بينما على مصلحة بلديات الساحل معالجة مياه الصرف الصحي، توجد قوانين تحظر تلويث الشاطئ، وعند مراجعة الجهات المسؤولة عن ذلك تبرر بأن الأمر خارج عن إرادتها، ويعود للحصار".

في حين يرد المهندس أشرف غنيم، مدير دائرة السلامة والصحة المهنية في مصلحة مياه بلديات الساحل، أن مشكلة تلوث البحر مرتبطة أساسا بأزمة الكهرباء، لذلك هناك عمل لإمداد خط كهرباء إضافي يصل محطات المعالجة الخمس، ويغذيها بالطاقة على مدار الساعة، ضمن جهود مبذولة لخفض نسبة التلوث البحري والتي كشفت نتائج فحوصات من عينات وزارة الصحة، عن تلوث بنسبة 43.3 % من عينات الشاطئ والمياه خلال 2017 في مقابل 34.6% في عام 2016.

ويحمّل الخبير القانوني محمد أبو هاشم استشاري حقوق الإنسان في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، مسؤولية تلويث البحر في القطاع لسلطة جودة البيئة وسلطة المياه ووزارة الصحة، مبينا أن قانون رقم (7) لسنة 1999 بشأن البيئة، نصّ على وجوب حماية البيئة البحرية ومنع تلويثها، وتنص المادة "المادة 32" من القانون: "يحظر على أي شخص القيام بأي عمل من شأنه تلويث مياه البحر".


أما المادة "35" من القانون فنصّت على أن " تضع الوزارة القواعد والأنظمة اللازمة لمنع تلوث البيئة البحرية وحفظها والسيطرة عليها من كل ما ينتج عن الأنشطة المختلفة". ووفق سلطة جودة البيئة فقد وصلت نسبة تلوث شاطئ البحر غزة عامي 2017 و2018 إلى 75% من إجمالي مساحة الشاطئ، والذي سبق أن توفي الطفل محمد أحمد سالم السايس ذو الخمسة أعوام بعد إصابته بإعياء نتيجة سباحته في منطقة ملوثة فيه، وفق إفادة والده الذي نقله إلى مستشفى الدرة للأطفال قائلاً: "ابني أصيب بتسمم مجهول، بالإضافة إلى متلازمة أكيري "داء الشيغيلات" المؤدية للتسمم القاتل والتلف الدماغي، وجميع أبنائي أصيبوا بإعياء بعد السباحة، في منطقة الشيخ عجلين"، والتي إلى جانبها مصب لمياه الصرف الصحي وفق ما عاينه معدّ التحقيق.

ويعلّق الدكتور حلس على ذلك بأن التلوث إذا وجد في بقعة ينتشر في كل البحر، بفعل تيارات الحمل البحرية المتغيرة، التي توزع التلوث، موضحا أن دراسة "العربي الجديد" ودراسته أثبتتا أن التلوث قد يصل إلى 100% من شاطئ بحر غزة، وهو ما سيستمر طالماً تواصل ضخ مياه الصرف الصحي في البحر، مضيفا: "درجة التلوث وانتشاره أمران متغيران من ساعة لأخرى، وفق درجات الحرارة، ونشاط التيارات البحرية، وحركة المد والأمواج، واتجاه الريح، وكمية ونوعية المياه العادمة، ووجود معالجة جزئية أو غيابها".