يوميات اعتصام السودان... ترانيم صوفية وحلقات حول القهوة

يوميات اعتصام السودان...ترانيم صوفية وحلقات حول القهوة ورفض للعودة قبل تحقيق المطالب

11 ابريل 2019
إصرار من المعتصمين على عدم المغادرة قبل تحقيق مطالبهم(Getty)
+ الخط -

يشارك الناشط السوداني سليم النور زملاءه في لجنة المتاريس والتأمين في الإشراف على توفير الأمن، لآلاف المتظاهرين المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، عبر حفظ النظام في الساحة التي يعتصم فيها الثوار بينما يحضرون لتسليم مهامهم لوردية الليل.

ويعمد القائمون على لجنة المتاريس إلى تفتيش دقيق لكل من يدخل إلى مكان الاعتصام منعا لدخول أية أسلحة أو مندسين، بعد حديث انتشر في وسائل الإعلام عن ضبط الجيش بعض الأسلحة (طنبجات) يحملها مندسون وسط الثوار، كما يقول النور وزملاؤه ممن يعملون بحماس في تسجيل أسماء المعتصمين على قصاصات ورقية صغيرة كُتِب عليها الاسم ورقم هاتف لأحد الأقرباء وفصيلة الدم، من أجل أن يتمكنوا من إسعاف المصاب وإخطار ذويه في حال حدوث مكروه، كما يقولون لمعدة التحقيق.

ويوزع الشباب السوداني المعتصم مهام تسيير شؤون الاعتصام على عدة لجان، منها الخدمات المكلفة بتوفير الطعام والشراب ولجنة للتبرعات ولجنة الصحافة والإعلام ولجنة الأحياء ولجنة الأطباء والصيادلة ولجنة المهندسين والفنيين المخصصة لحل المشاكل الفنية التي تواجه المعتصمين الذين يؤكدون عدم تراجعهم حتى يصلوا إلى هدف إسقاط النظام الذي يتردد في هتافاتهم ومن بينها "حرية سلام وعدالة الثورة خيار الشعب" و"الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع" و"الليلة ما بنسكت إلا البشير يسقط"، إذ يؤكد المعتصمون الذين التقتهم معدة التحقيق أن فض الاعتصام مرهون بصدور بيان يعلن فيه رئيس الجمهورية عمر البشير التنحي عن السلطة وتسليم السلطة.



اختيار مكان الاعتصام

تحيط ساحة الاعتصام بالقيادة العامة للجيش على شكل حدوة الحصان، بمساحة يقدر قطرها بعشرة كيلومترات تبدأ من أول شارع القيادة العامة للقوات المسلحة بالعاصمة السودانية الخرطوم وتتمدد على طول الشارع، ومنها ينحني الشارع يمينا حتى امتداد شارع عبيد ختم من الناحية الشمالية الخلفية للقيادة العامة.

ويعد اختيار مقر الاعتصام سابقة في تاريخ الثورات السودانية، إذ يحتشد آلاف السودانيين في نطاق محيط القيادة العامة للقوات المسلحة وبيت الضيافة مقر إقامة الرئيس السوداني عمر البشير والذي تم إخراجه منه، الأمر الذي سخر منه الشباب المعتصمون في هتافاتهم مرددين: "كبرها كبرها بالباب الوراء".

ويخرج الرئيس تحت حماية القوة التي يثق فيها سواء من الجيش أو جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وفق ما يفترض حدوثه، في الحالات المشابهة، بحسب الخبير العسكري العقيد ركن معاش سليمان عوض.

وشهد السودان انتفاضتين شعبيتين في عامي 1964 و1985 أسقطتا النظامين الحاكمين  وقتها، إلا أن الثوار لم يفكروا في الاقتراب من القيادة العامة للجيش في ذلك الوقت وفق إفادة العقيد عوض، والذي لفت إلى أن "أول ثورة شعبية انحاز لها الجيش انطلقت عام 1964 من جامعة الخرطوم ضد نظام حكم عبود، والثورة الشعبية الثانية كانت 1985 وقت حكم جعفر النميري، إذ احتشد السودانيون في شوارع الخرطوم للمطالبة بإنهاء حكم النميري الذي كان قد غادر إلى الولايات المتحدة للعلاج، وللمرة الثانية انحاز الجيش للشعب برئاسة رئيس الأركان ووزير الدفاع وقتها المشير حسن عبد الرحمن سوار الذهب" كما يقول.

ويرى عوض أن الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش أعاد ثقة الشعب في الجيش، قائلا: "مكان الاعتصام وضع قوات الشعب المسلحة أمام خيار واحد لا ثاني له وهو حماية الثوار من عنف المليشيات المسلحة".

لكن، هل يمكن تكرار سيناريو اعتصام ميدان رابعة العدوية في مصر؟ يرد عوض أنه لا يستبعد أي شيء، إلا أنه يعود ويقول إنه من الراجح أن يستجيب الضباط الكبار من رتبة لواء فما فوق لضغوطات الضباط من رتبة عميد فما أدنى من المنحازين للاعتصام ولمطالب الثوار بضرورة تنحي الرئيس.

وتنص المادة 3 من الباب التاسع من دستور السودان الانتقالي لعام 2005، على أن "تدافع القوات المسلحة القومية السودانية والوحدات المشتركة/المدمجة عن النظام الدستوري واحترام سيادة حكم القانون والحكم المدني والديموقراطية وحقوق الإنسان الأساسية وإرادة الشعب، وتحمل مسؤولية الدفاع عن البلاد في مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية في مناطق انتشارها وتشارك في التصدي لحالات الطوارئ المحددة دستورياً، وهو ما يحدد دورها الذي يرى المعتصمون أنه منوط بها وحري بقادتها الالتزام به وفق ما يقوله العقيد عوض.



السادس من إبريل

حدد تجمع المهنيين السودانيين يوم السادس من إبريل للاعتصام أمام القيادة العامة للجيش تيمنا بموعد انتفاضة إبريل/نيسان من عام 1985 والتي أطاحت بحكم الرئيس جعفر نميري، واستجاب لدعوة التجمع آلاف السودانيين نزلوا فجرا إلى مكان الاعتصام، العديد منهم من الشباب، وفق شهادة الصحافي المستقل محمد أمين ياسين الذي يسكن منطقة بري الواقعة شرق مطار الخرطوم والقيادة العامة وتبعد عن مقر الجيش الرئيسي بحوالي 11 كيلومتراً.

وبينما يمشي ياسين في مقر الاعتصام يقول لـ"العربي الجديد": "الثوار لديهم القدرة على الصمود لفترة كبيرة في حال لم تستجب الحكومة لمطالبهم"، وينبه إلى أن انحياز بعض المجندين للمعتصمين كان له تأثير إيجابي كبير، لكن المعتصمين يتخوفون من تغيير متوقع للقوات الموجودة حاليا بالقيادة العامة واستبدالها بأخرى، ما قد يعيد إلى الأذهان تكرار سيناريو ميدان رابعة العدوية إبان الثورة المصرية كما يقول أمين، لافتا إلى وجود بعض القيادات السياسية الوسيطة لأحزاب المعارضة وسط المعتصمين، إلى جانب وجود كبير للأجسام المهنية من أطباء ومهندسين وغيرهم، ما يدعم المعتصمين ويثير نقاشات بينهم حول دور تلك المؤسسات في بناء سودان جديد.

ترانيم صوفية


انضمت مواكب مريدي الطرق الصوفية للاعتصام، على وقع ترانيم صوفية تخللتها شعارات سياسية تحمس وترفع من الروح المعنوية للثوار رددوها وأعادها المعتصمون وراءهم مثل: "لا إله إلا الله والثوار أحباب الله ولا إله إلا الله الكيزان أعداء الله"؛ يقصد بالكيزان أعضاء الحزب الحاكم، كما تقول العشرينية نسيبة عبد السلام التي انضمت للاعتصام برفقة سبعٍ من صديقاتها القادمات من محلية شرق النيل شرق العاصمة الخرطوم.

تقول نسية: "شاركنا مع مئات من الثوار في نوبات ذكر روحانية خلقت حماسا، وبهجة أزالت التوتر والقلق من النفوس وشعرت بالسكينة والطمأنينة".



حلقات نقاشية حول القهوة


اختار المعتصمون مكانا على أحد الممرات بالقرب من شارع القيادة العامة ليضعوا عليه موقدا لإعداد القهوة التي يتكفل بعضهم بتوزيعها على الحشود، فيما يشكل بعضهم حلقات حول الموقد وهم يرددون الأغاني الوطنية والحماسية، بينما أحضر بعض المعتصمين قدرا من الفول وكميات كبيرة من الخبز وشرعوا في إعداد (فتة الفول) وهي وجبة محببة للشباب وتوزيعها في أطباق كبيرة على مجموعات الثوار على طول الرصيف الذي وضعت فيه براميل مياه باردة للشرب وأخرى عبأتها سيارات تحمل صهاريح (تانكرات المياه) تبرع بها خيرون لغرض الوضوء ورشها على المعتصمين لتخفيف درجات الحرارة التي وصلت خلال يومي الإثنين والثلاثاء الماضيين إلى 43 درجة مئوية (سيلسيوس). بينما شرع آخرون في نصب خيام لمحاولة الاحتماء بها من أشعة الشمس الحارقة، في وقت يقف ناشطون يحملون لافتات تطالب المعتصمين الذين لا يملكون مالا للمواصلات بالتوجه إلى صناديق وضعت بها تبرعات مالية من المعتصمين أنفسهم لأخذ ما يكفيهم للعودة إلى منازلهم، وفق ما وثقته معدة التحقيق عبر مشاهداتها.

ويجري تخصيص مواقع محددة لأداء النساء للصلاة، فيما يؤدي بعض المعتصمين فريضة الوقت بينما يحرسهم آخرون من بينهم، وعلى ذلك النسق يقسم المعتصمون أنفسهم وفق نظام الورديات، كما أوضح الثلاثيني محمد أحمد أخريج هندسة كهرباء قائلا: "حتى وقت الراحة والنوم مقسم بيننا بنظام الورديات".

كلمة سر الإنترنت: تسقط بس

يسمح أصحاب المركبات للمعتصمين بشحن هواتفهم عبر سياراتهم في وقت وفر بعض المعتصمين شبكة إنترنت عبر شرائح داتا واختاروا عبارة "تسقط بس"، ككلمة سر لها وهي شعار الحراك الحالي، كما وفر بعضهم الآخر رصيدا مجانيا لكل من يحاول الاتصال بأهله ليطمئنهم عليه. 

ويتواصل لليوم الخامس توفير الوجبات عبر الخيرين من المواطنين والأهالي والشركات ومطاعم ساهمت بإعداد وجبات بكميات كبيرة ومصانع مياه ومشروبات غازية وفرت المياه المبردة وتوزيع القهوة والمياه والطعام، إضافة إلى رش الثوار بالمياه البارده لتخفيق سخونة الجو، فضلا عن توفر الأدوية والمحاليل الوريدية في العيادات الميدانية الموزعة على 10 نقاط حول مكان الاعتصام وسيارتين لبنك الدم وسيارات إسعاف تتبع للهلال الأحمر السوداني مع مناشدات مستمرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بتوفير مستلزمات طبية.


ويجتهد المسؤولون عن الاعتصام في توفير الطعام والماء، عبر تفادي الوقوع في قبضة الجهات الأمنية التي تحاول منع وصول الإمدادات إلى مكان الاعتصام، إذ يتم اعتقال وضرب الناشطين المسؤولين عن إحضار الطعام ومصادرة سياراتهم بما تحمله من مواد غذائية، بحسب ما يؤكده الصحافي ياسين.

مستمرون رغم القتل

أعلنت لجنة أطباء السودان المركزية (جسم مهني مطلبي يضم أطباء السودان) في السادسة من مساء الثلاثاء عن سقوط 21 قتيلا، من بينهم 5 من رجال القوات المسلحة منذ بداية الاعتصام في 6 إبريل وحتى 9 من الشهر ذاته، وتروي العشرينية خريجة كلية الآداب في جامعة الخرطوم سمهار هاشم ما شاهدته في ذلك اليوم قائلة: "بقينا نحو ساعة نستلقي على الأرض، امتثلنا لتوجيهات قوات الجيش التي طلبت منا الاستلقاء أرضا، أثناء تبادل إطلاق النار بينهم وبين مسلحين حاولوا فض المعتصمين بالقوة"، ويواصل أحد المعتصمين يقف إلى جوارها: "شُفنا الموت بعيونا..حقيقي لحظات صعبة مرينا بها نهار اليوم وبرضو ثبتنا وما اتزحزحنا".


ويتوقع العشريني عوض صالح الحاصل على بكالوريوس الهندسة الكيميائية: "انحياز الجيش بالكامل خاصة الرتب الصغيرة للشعب"، ويوافقه مصعب عبد الرحمن والذي يجزم بأن بقاءهم أمام قيادة الجيش دون فض اعتصامهم يعني انتصارهم على الرغم من تصريح الناطق الرسمي باسم الجيش بالعمل على فض الاعتصام أمام القيادة العامة أول أمس، والذي قابله المعتصمون بنداءات عبر مواقع التواصل الاجتماعي بضرورة توجه كل المواطنين إلى شارع القيادة، وبالفعل تمت الاستجابة للنداءات وتوافدت أعداد كبيرة من المعتصمين، كما أن بعض الجنود الذين انحازوا للاعتصام حملوا على الأعناق واستقبلتهم النساء بالزغاريد، مع رفع علامة النصر والقيام بأداء أغانٍ حماسية عبارة عن كلمات في شكل أشعار أو ترانيم يرددها الجنود أثناء مشيهم إلى المعارك معروفة في الجيش باسم "الجلالات" وفق ما شرحه العقيد عوض.

ويلفت الصحافي ياسين إلى أن ثقة المعتصمين زادت في قوات الجيش بعد أن حمتهم من غدر قناصيين استهدفهوهم من سطوح المباني العالية القريبة من مقر الاعتصام، قائلا أنه شاهد إلقاء كتيبة من قوات الجيش القبض على قناصين أطلقوا النار على المعتصمين صباح الإثنين مما أدى إلى وفاة اثنين منهم فجر الثلاثاء، فيما أصيب عدد من المصابين من المعتصمين وأفراد الجيش وصفت لجنة الأطباء المركزية حالات البعض منهم بالحرجة، وهو ما استدعى مناشدات من عسكريين سابقين بضرورة بقاء المعتصمين إلى جانب سور القيادة العامة للجيش وعدم تزحزحهم بعيدا عنه منعا لاستهدافهم من قبل المسلحين.





ولا يبدو على الخمسينية عائشة عوض الخوف من نيران المسلحين، إذ تشارك في الاعتصام بحماسة امرأة في العشرينيات من عمرها، وتقف مطالبة المعتصمين بأن يحموا ثورتهم من سرقة السياسيين، قائلة: "هم يجلسون في بروج عالية في انتظار سقوط النظام ليسرقوا جهد الشباب الذين أزهقت أرواحهم في سبيل تحرير البلد".