تحولات التجربة الدنماركية...البعد الأمني يسبق الاجتماعي في "مكافحة التشدد"

تحولات التجربة الدنماركية...البعد الأمني للواجهة في التعاطي مع العائدين من سورية والعراق

03 مارس 2019
نموذج آرهوس لمكافحة التشدد يقوم على إعادة الدمج(العربي الجديد)
+ الخط -
خضع العشريني الدنماركي من أصل لبناني محمود مراد، بعد عودته من سورية في عام 2014 لمقابلات وجلسات تأهيلية ضمن ما يعرف بـ"نموذج آرهوس لمكافحة التشدد" الذي انتهجته الدنمارك بهدف تأهيل الشباب العائدين من مناطق النزاع المسلح، سواء كانوا من المقاتلين أو ممن غادروا بهدف مساعدة المدنيين كما يقول مراد، والذي تم استدعاؤه لمناقشته عن دوافع السفر، بحضور والده وبعض موظفي البلدية وأفراد من شرطة مدينة آرهوس الواقعة شرقي الدنمارك.

وعلى الرغم من تطمينه في البداية أن مشروع إعادة التأهيل لا يشمل الملاحقة القانونية، إلا أنه وجد نفسه في سبتمبر/أيلول 2017 متابعا من قبل الاستخبارات الدنماركية، التي حجزت جواز سفره، ومنعته من مغادرة البلد، بعد تواصله مع زوجة أحد أصدقائه الذي قتل في سورية، لإقناعها بالعودة عبر تركيا.

حالة مراد تعد واحدة من بين 350 حالة لشباب غادروا إلى مناطق القتال في سورية والعراق لأسباب مختلفة، فيما انخرط 150 منهم في القتال الدائر وشملهم جميعا برنامج إعادة التأهيل، أو نموذج آرهوس لمكافحة التشدد والعودة للمسار الصحيح، وفق بيانات الاستخبارات الدنماركية ومركز تحليل الإرهاب (Center for Terroranalyse (CTA.


استراتيجية مواجهة التشدد

خصصت حكومة يسار الوسط السابقة بزعامة هيلي تورنينغ شميت خلال الفترة من عام 2011 وحتى عام 2014، موازنات مالية لضم مجموعات شبابية مسلمة إلى مشروعها المعروف بوقف التوجه نحو التطرف (Afradikalisering)، ومنع انتشار التشدد بين المسلمين في السجون الدنماركية وفق ما جاء على موقعي وزارتي الهجرة والدمج، والعدل في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2014.

وتستهدف الجهود السابقة من سافر وعاد سريعا لضمه إلى برنامج إعادة الدمج والتأهيل، ضمن مشروع مكافحة التشدد، أو نموذج آرهوس، بحسب ما قالته لـ"العربي الجديد" مديرة مشاريع في مركز مكافحة التطرف، ستينا.س (طلبت عدم التعريف الكامل عن هويتها لكونها غير مخولة بالتصريح) مضيفة أن مشروع الخروج من التطرف يعتمد على التعاون بين الجهات البلدية الحكومية والمؤسسات المعنية، من شرطة ومدارس، وأهل، ومنظمات المجتمع المحلي.

واستندت استراتيجية التعاطي مع قضية التوجه نحو التشدد منذ العام 2011، وخاصة في محافظة آرهوس، على تعاون مديرية مراقبة السجناء، لمنع تشددهم أثناء قضاء المحكومية، ومشاركة مؤسسات البلديات الشبابية والاجتماعية، وتقديم عروض فردية لاستكمال الدراسة، أو الاندماج في عمل ومتابعة من خلال جلسات تأهيلية طويلة المدى، وإدخال المحيط الأسري والأصدقاء في برامج الأنشطة الرئيسية وفقا لـ"نموذج آرهوس لمكافحة التشدد" الذي نشرته البلدية على موقعها الرسمي، والذي أوضح أن هذه التجربة ركزت على إيجاد "موجهين" مرافقين لكل فرد، مع تقنيات مقابلات تناقش ما يمكن أن يستفيد منه هؤلاء الشبان في مسار "الإخراج" من تأثير التشدد، وتبادل المعرفة والمعلومات بين مختلف الجهات المحيطة وذات العلاقة بالأفراد المستهدفين.


وتعتمد الاستراتيجيات الجديدة المتبعة والتي جرى تفعيلها مع عودة المقاتلين على نموذج هرمي، في أعلاه يأتي الجانب الأمني والشرطي والتشريعي لإصدار قوانين عاجلة إن احتاج الأمر إلى ذلك، ويتوسط الهرم التعاطي الاجتماعي والنفسي والقانوني مع أفراد أسرة العائدين (بمن فيهم الزوجات والأطفال)، وتقديم حماية فردية وجماعية لهم ضمن نظام الرفاهية، دون خطوات عقابية تطاول أسرهم، ويتم التعاون في هذا المستوى بين البلديات والشرطة المحلية والمدارس، وفي قاعدة الهرم يأتي دور المؤسسات والمراكز التي تعنى بقضايا النشء والشبيبة في المجتمعات المحلية، للمساعدة في لجم التوجهات المتطرفة لدى العائدين بعد أن يجري دمجهم في حياتهم السابقة، إضافة إلى التعاون مع رجال دين مسلمين محليين، لاكتشاف دوافع الإحباط لدى الفئة الأكثر قابلية للتوجه نحو التشدد، والبحث في الأسباب المؤدية إلى التطرف، وفقا لما جاء في 12 منهاجا جرى تبنيها كمدخل أساسي لإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي، بحسب ما نشره مركز مكافحة التشدد في كوبنهاغن على موقعه الرسمي في سبتمبر/أيلول الماضي.



تحول أمني

بعد مجيء حكومة يمين الوسط، أخذ البعد الأمني في نموذج آرهوس جانبا أوسع، منذ خريف 2017 نتيجة توافق أوروبي على مواجهة مختلفة لمن حمل السلاح وتدرب وقاتل في سورية والعراق، بحسب تأكيد الخبيرة ستينا ذات الخلفية الاستخباراتية والتي قالت: "الكثير من الشباب محبطون وناقمون جدا على المجتمعات الأوروبية، ومن مصلحتنا التحقق الأمني، بتعاون أوروبي، وبإدخالهم في مشاريع يشارك فيها أخصائيون في الثقافة الإسلامية والطب النفسي والتأهيل الاجتماعي في البلديات التي أقاموا فيها قبل سفرهم"، مضيفة أنه يتم التنسيق على مختلف المستويات لمراجعة قضايا من يشك باحتمالية تطرفهم، أو تخطيطهم لأعمال عنف.

ويعمل جهاز الوقاية في الاستخبارات الدنماركية، على مراقبة الأفراد المؤهلين للتطرف وشبكة علاقاتهم المحلية، بالإضافة إلى التأهيل الديني في السجون، من خلال تخصيص موارد كافية لدعم موظفين، يتم اختيار بعضهم كأئمة معينين بمعايير محلية، وباحثين اجتماعيين متخصصين، في كبح التشدد، مثل تينا أندرسن التي تعمل في بلدية آرهوس على إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للعائدين بمشاركة أخصائيين اكتسبوا مهارات وخبرات بعد عملهم مع الشباب العائدين في 2014 و2015 وفق ما أوضحه مقرر لجنة شؤون الدفاع والأمن في البرلمان الدنماركي، ناصر خضر والنائب اليساري عن اللائحة الموحدة نيكولاي فيلموسن.



ملاحقات للعائدين

أبقت السلطات الأمنية الدنماركية ملفات العائدين من مناطق الصراع المسلح مفتوحة، رغم مرور ثلاثة أعوام على قطع بعض العائدين لجميع علاقاتهم برفاقهم في سورية، أو تركيا بحسب تأكيد ثلاثة من الشباب العائدين الذين وثق معد التحقيق معاناتهم، ومنهم العشريني الدنماركي من أصل عراقي سائد طعمة، الذي قال لـ"العربي الجديد" إن الاستدعاءات الأمنية والتحقيق تأخذ بعدا آخر، "إذ يريدون أن يعمل كمخبر لهم في البيئة الإسلامية"، مضيفا أن بعض أصدقائه الذين جرى التحقيق معهم، يعيشون ضغوطا نفسية صعبة.

ويعاني العشريني الدنماركي من أصل تونسي طارق سليم الذي عاد من شمال سورية إلى الدنمارك بداية العام الماضي، من حجز جواز سفره الدنماركي، ومنعه من السفر منذ فبراير/شباط 2018، وفق تأكيده لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن محاميه يخشى من استمرار الملاحقة القانونية، والإبقاء على منعه من السفر لفترة طويلة، مع استمرار التعاطي معه كمشبوه أمني، ناهيك عن خشيته من فقدان الجنسية والترحيل إذا قضت المحكمة ضده، لكن عددا من الناشطين الحقوقيين الدنماركيين يدعوون إلى تغيير التعامل مع قضايا هؤلاء الشبان ومنهم كارولينا دام، والدة الشاب لوكاس دام، (18 عاما)، الذي قتل في قصف أثناء قتاله في صفوف "داعش" في عين العرب بشمالي سورية في 2014، من خلال منظمتها بنات وأبناء الأرض التي تضم أهالي المراهقين الذين انضموا لداعش بحسب صفحة المنظمة على "فيسبوك".


ووجهت كارولينا رسالة لساسة بلدها في تصريحات متلفزة في 4 يوليو/تموز 2018، طالبتهم فيها بعدم خذلان الشاب والالتزام بالمواثيق الحقوقية، موضحة أنه: "لا أحد يولد إرهابيا والجميع لديه أسرة تنتظره" لكن ستينا.س تقول: "لا يمكن لنا ترك من شارك وتدرب على السلاح واكتسب خبرة وميولا متطرفة ويحمل الجنسية دون متابعة أمنية. هؤلاء يجب أن يعرضوا على المحاكم"، مضيفة أن مراجعة قضايا البعض والتوجه بها نحو القضاء يأتي ضمن استراتيجية أوروبية مشتركة، بعد تزايد المخاوف من العمليات الإرهابية التي شهدتها بعض الدول إثر تجنيد بعض العائدين لتنفيذ عمليات إرهابية فردية.



التجريد من الجنسية والترحيل

شهد عام 2018 تسارعا في الملاحقات القضائية لعدد يصل إلى 30 فردا، وصفوا بـ"مقاتلي داعش"، بحسب بيان صادر عن وزارة العدل الدنماركية بداية عام 2019، ويعاقب من حمل السلاح وشارك في صراعات مسلحة خارج الدنمارك، بالسجن لمدة تتراوح بين 4 سنوات و12 سنة، والتجريد من الجنسية بحسب قانون مكافحة الإرهاب، ومن بينهم العشريني الدنماركي من أصل تركي، أنس شفتسي، الذي أيدت المحكمة العليا، حكما صادرا بحقه من محكمة شرق، في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قضى بتجريده من الجنسية والسجن 6 سنوات والترحيل الدائم من البلد، بتهمة المشاركة بالقتال في صفوف داعش خلال الفترة بين عامي 2013 و2015.

وجرى اتهام 18 شابا، في عام 2018 بذات التهمة التي وجهت لأنس، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر الموقع الرسمي للمحاكم الدنماركية التابع لوزارة العدل، ومنهم عشريني دنماركي من أصول تونسية صدر ضده حكم من الدائرة الأولى من المحكمة العليا برقم قضية 124 / 2018، بتاريخ 19 نوفمير/تشرين الثاني من عام 2018 المشار له بحرف "ت" والذي منعت المحكمة الكشف عن اسمه لأسباب عائلية إذ قضت بتجريده من الجنسية، والسجن لمدة أربع سنوات وهو ما جرى مع العشريني الدنماركي من أصل جزائري أنيس لعربا، الذي حكم عليه بالسجن 5 أعوام، وتجريده من الجنسية الدنماركية، بتهمة حمل السلاح والقتال لثلاثة أشهر في سورية.

لكن العقوبات الصارمة لا تطبق بمساواة على جميع الشباب الدنماركي بحسب ما يقوله ناشطون من أصول عربية وإسلامية التقاهم معد التحقيق، والذين استدلوا بقصة الثلاثيني الدنماركي تومي مورك، الذي صدر ضده حكم من محكمة آرهوس في يونيو/حزيران 2018 بالسجن 6 أشهر، بتهمة المشاركة في القتال في صفوف المقاتلين الأكراد ضد داعش بمدينة الرقة شمالي سورية خلال عامي  2016 و2017، وهي نفس التهم التي تلاحق عربا ومسلمين سافروا إلى سورية للمشاركة في الحرب الدائرة، ومن بينهم الدنماركي من أصل مغربي سعيد سام منصور، الذي قضى 4 سنوات في السجون الدنماركية منذ العام 2014، بتهمة الإرهاب، وجرد من الجنسية، كما سلم في 4 يناير/كانون الثاني 2019 إلى المغرب، حيث ما يزال معتقلا فيها، رغم تعهدات سابقة أنه لن يحاكم ويعتقل بتهمة الارهاب في بلده الأصلي.

دلالات