دنماركيون بلا مأوى...تزايد عدد الشباب المشردين في مملكة الرفاهية

دنماركيون بلا مأوى... تزايد عدد الشباب المشردين في مملكة الرفاهية

كوبنهاغن
5698EA23-7F4D-47FA-B256-09D7BCA82E5A
ناصر السهلي
صحافي فلسطيني، مراسل موقع وصحيفة "العربي الجديد" في أوروبا.
29 مارس 2018
+ الخط -
أمضى الستيني الدنماركي إريك 17 عاماً من عمره مشرّداً في شوارع كوبنهاغن، إذ تقدم به العمر، "ولم يعد له من مخرج ينجيه من حياته البائسة، غير أن انضمام شبان جدد إليه وإلى زملائه من المسنين هو أكثر ما يؤلمه"، كما يقول بينما يجرّ عربته المضاءة بزينة العيد وأشكال "تعبّر عن فوضاه الخاصة".

ويبدي إريك اندهاشه من تجاهل بلده له ولغيره من المشردين من الشباب والشيوخ وتركهم بلا مأوى، يعانون من مشاكل صحية ونفسية، في الوقت الذي حلّت فيه الدنمارك في المركز الثاني لتقرير السعادة العالمي (مقياس تنشره شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة The Sustainable Development Solutions Network) لعام 2017، بعد أن سجّلت مستويات عالية في مجموعة من العوامل التي تلعب دوراً رئيسياً في السعادة، مثل الاهتمام، والحرية، والكرم، والصدق، والصحة، ومستوى الدخل، وسياسات الدولة، بينما تراجعت الدنمارك إلى المركز الثالث في تقرير عام 2018 الذي يصدر كل عام في 20 مارس/ آذار الموافق ليوم السعادة العالمي الذي أعلنته الأمم المتحدة.

ويعد إريك واحداً من بين 6635 حالة تشرّد مسجلة في الدنمارك خلال عام 2017، وهو ما يزيد بنسبة 8% عن عام 2015، إذ كان عدد المشردين 6138 شخصاً، 27% من بينهم في الفئة العمرية بين 25 و29 عاماً، وفقاً لبيانات مركز البحوث والتحليل وعلم الرفاهية.

وبالقرب من إريك يتحرّك بعض من رفاقه، يجر أحدهم عربته المحملة بأغراض وأكياس بلاستيكية، ويتكئ آخر على الأرض وأمامه إبريق قهوة معدني أزرق يعود إلى بداية القرن الماضي، ينتظر أن يضع فيه المارة نقوداً معدنية مساعدة له، فيما يسير آخرون وهم يحملون حقائب ظهر كبيرة، وأكياس نوم، وتتبعهم كلابهم، تقابلهم فرادى أحياناً، وجماعات في أحيان أخرى، ويجلسون أغلب الأحيان في مجموعات تأخذ مكانها صيفاً على ضفاف نهر وسط المدينة، أو قرب كنسية تقدم وجبة، بحسب مشاهدات معدّ التحقيق في كوبنهاغن وآرهوس ثاني أكبر مدن المملكة التي تقع شرقاً وأودنسة ثالث مدن الدنمارك التي تقع في الوسط.


تزايد عدد الشباب المشردين

تشهد شوارع كوبنهاغن زيادة في عدد ونوعية المشردين، خاصة من الشباب، حسب ما قالت المرشدة الاجتماعية في منظمة الصالون الدافئ التي تعمل لتقديم المساعدة للمشردين في كوبنهاغن انغريد كريستيانسن، والتي تعمل متطوعة في إحدى كنائس منطقة فيستبورغ في كوبنهاغن، مضيفة لـ"العربي الجديد": "نرصد تزايد عدد المشردين من الدنمارك ومن الأقلية الغرينلاندية الذين يعتبرون دنماركيين بحكم وقوع جزيرتهم "غرينلاند" تحت حكم مملكة الدنمارك و"الغجر الرومانيين" الذين يقيمون بشكل غير قانوني، وقد توفي بعضهم بسبب التشرّد والإدمان والإهمال الطبي، وهؤلاء ليسوا جميعاً من الدنماركيين، لكن الإحصاءات لا تفرّق في أصل المواطنين لدى رصد هذه القضية". 

وزادت نسبة الشباب المشردين في مدينة آرهوس إلى 185% خلال الفترة ما بين عام 2013 وحتى 2015، بحسب الموظفة الاجتماعية في مركز "ساند" (اختصاراً للمنظمة الوطنية للناس بلا مأوى) رو ليندكيير، التي قالت لـ"العربي الجديد" إنها "وثقت حالات عدد من الشباب المتشردين الذين لا يملكون مالاً كافياً لدفع أجرة السكن، ليجدوا أنفسهم في الشارع بلا مأوى"، مضيفة أن هذه المشكلة ستبقى قائمة طالما أن مسألة الإسكان لم تحل، فلا يمكن حل مشكلة دون أخرى، إذ لا يكفي أن تضع شخصاً في إحدى غرف السكن المشترك، بدون برنامج للحياة، ولا يكفي أن يكون لديك برنامج بدون سقف يأوي إليه المشردون.

ويوصف الشباب المشردون في النظام الاجتماعي الدنماركي بـ"من سقطوا من نظام الرعاية"، وهؤلاء يعانون من غياب تأمين غرف سكنية لهم، وفق ما وثّقه معد التحقيق عبر خمسة شباب مشردين في المدن الدنماركية، ومنهم العشريني كلاوس، الذي يعيش منذ عامين ونصف العام بلا مأوى في العاصمة كوبنهاغن كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفاً بنبرة انتقاد حادة: "الدولة الدنماركية تدفع بطلاب دنماركيين إلى التشرد في الشارع بدون سكن"، ويتابع "أنا لست ضد مساعدة الآخرين، أو استقبال من يحتاج إلى الحماية من اللاجئين، لكن المشردين بحاجة إلى المساعدة، وعلى الدولة أن تفكر ملياً في بناء سكن طلابي لهؤلاء قبل أن يصيروا إلى ما صرنا نحن عليه".

ويُثير تزايد نسبة التشرد في الفئة العمرية ما بين 18 عاماً و29 عاماً قلق المختصين والناشطين الاجتماعيين، إذ يعيش ثلث هذه الفئة بدون أي تواصل مع شركات الإسكان الشعبي، وثلث آخر يتلقّى دعماً من الموظفين، فيما ترتبط أقلية صغيرة بمشاريع دعم تعليمي للخروج من حالة التشرد، وفقاً لتقارير وزارة الشؤون الاجتماعية ومراكز رسمية متخصصة، ومن بينها مركز "ساند"، كما يقول الباحث المختصّ في ظاهرة التشرّد بالمركز كارستن سورنسن، مؤكداً رفع تقارير وتوصيات عمل إلى الجهات الرسمية حول تطورات تلك الظاهرة، وتابع لـ"العربي الجديد": "المشكلة تهدّد المواطنين، خصوصاً الشباب منهم".



معاناة نفسية

يعاني 53% من المشردين في الدنمارك من مشاكل نفسية، بحسب الباحث سورنسن الذي قال إن تعاطي المشردين للكحول والمخدرات يفاقم من هذه المشاكل النفسية، وهو ما تؤكّده المرشدة الاجتماعية انغريد كريستيانسن، مشيرة إلى أن الحياة والإدمان في الشارع يزيدان من معاناة المشردين نفسياً، كما هو حال إريك الذي يعيش على ما يجود به الناس، وبيع مجلة متخصصة بالمتشردين بـ20 كروناً (3.3 دولارات) يحصل على نصفها، إذ بدأ يعاني نفسياً قبل 20 عاماً، ولم يعد قادراً على تسيير حياته بعد أن "فقد السيطرة تماماً" كما يقول، ويتكرّر الحال مع كلاوس الذي كان يجلس في شارع فرعي وسط كوبنهاغن قائلاً "تفاقمت مشاكلي النفسية منذ كنت في السابعة عشرة من العمر، وحين صرت في الثامنة عشرة، أي بالغاً بحسب النظام الاجتماعي، زادت متاعبي، وتركت المدرسة، بعد دوام متقطع"، متابعاً حديثه بصفاء ذهني "أنا بخير حين أواظب على تناول الدواء، لكن سرعان ما أعود إلى حالتي وظروفي، فهي ليست على ما يرام، أنا غير قادر نفسياً على استجماع قواي، لقد علقت بالإدمان على القنب".


وغير بعيد، قرب كريستيانيا، الضاحية الشهيرة في كوبنهاغن بـ"مدينة الكيف"، تجلس العشرينية لوتا التي تبدو ظروفها مشابهة لظروف أغلب المشردين النفسية والاجتماعية، والتي تقول: "كنت محظوظة عندما منحتني صديقة للعائلة كنبة نوم للمبيت أيام البرد، لكن ما نعيشه مؤلم لأنه يفتح جراحاً قديمة".

وتحتاج هذه الفئة إلى قبول اجتماعي ينهي تماماً صورتها النمطية، والعمل على تصميم برامج صحة نفسية موجهة لها، كما ترى رو ليندكيير، وهو ما يؤيّدها فيه الباحث سورنسن، مؤكداً أهمية الأبحاث والتحليل العلمي للخروج ببرنامج عملي للتغلب على الأسباب النفسية التي يعاني منها المشردون.


نظرة ظالمة إلى المشردين

ينظر المجتمع بقسوة إلى المشردين، وينمّطهم عبر ربط صورتهم بشكل تلقائي بالإدمان على المخدرات والكحول، وهو ما يفاقم من معاناة المشردين النفسية، والمسألة ليست كذلك، كما يقول كلاوس، ويؤيّده الثلاثيني ينس ينسن الذي يشعر بالخذلان من المجتمع الذي ينظر إلى المشردين بقسوة، على الرغم من أن التشرد ليس خياراً بالنسبة إليهم كما يقول، مضيفاً أن أصحاب المحال التجارية غير راضين بوجود المشردين، في الشارع، بسبب تورط بعضهم في السرقة بحثاً عن الطعام، لكن سورنسن وكريستيانسن يرفضان في الوقت نفسه تحميل المجتمع مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم ويقولان "في الواقع الجميع يتحمّل المسؤولية، بمن فيهم المشردون أنفسهم، والدليل أنك حين تتدخل رسمياً لإعادة تأهيل هؤلاء، تنجح في ذلك مع بعضهم وتفشل مع بعض آخر، الأمر مرهون بالطرفين".



مساعدات غير رسمية

تنشط منظمات ومؤسسات كنسية على امتداد الدنمارك من أجل مساعدة المشردين، والعمل على إيوائهم وإطعامهم، من خلال جمع تبرعات لهم، والتواصل مع المراكز والبلديات حيث يجرى تسجيل المشردين بشكل رسمي حتى يصبحوا "جزءاً من النظام"، بحسب رو ليندكيير، التي تشير إلى أن أكثر مشاكل المشردين نفسية، ما يدفع مراكز البلديات إلى محاولة انتشال هذه الفئة من معاناتها عبر جلسات علاج نفسي، وأخرى للتخلّص من الإدمان (بشقيه الكحول والمخدرات بكافة أنواعها) ووضع برامج عمل ودراسة لهؤلاء، لكنها ترى صعوبة حل مشكلة دون أخرى، فلا يكفي أيضاً أن تضع شخصاً في غرفة، في سكن مشترك، بدون برنامج للحياة، ولن يجدي البرنامج بدون سقف يأوي إليه المشردون كما تقول، وهو ما يؤيّده الشاب منار الذي تم تسجيله في النظام الاجتماعي ببلدية سكنه في كوبنهاغن وتقديم سكن له وبرنامج للعودة إلى الجامعة لدراسة تخصص "الهندسة المعمارية"، بعد معاناة نفسية واجتماعية خلال حياة التشرد التي دامت ثلاثة أعوام.

ويأمل منار في أن يبني يوماً ما سقف منزله الخاص وسكناً للشبيبة أمثاله، ويرى كغيره من المشردين، أمثال ينسن وكلاوس، أن انتشال المشردين من الشوارع يتطلّب جدية من السياسيين، بدلاً من الحديث عن دولة الرفاهية، وهو ما يعقّب الباحث كارستن سورنسن عليه قائلاً: "قوى سياسية واجتماعية من اتجاهات متعددة باتت مقتنعة بضرورة وضع حلول جذرية نفسية واجتماعية لمشكلة التشرّد، حتى لا تتفاقم الظاهرة".

ذات صلة

الصورة
بعض من الحياة اليومية في غرينلاند (سين غالوب/ Getty)

مجتمع

على الرغم من أن أقلية "الإنويت" جزء لا يتجزأ من الدنمارك، إلا أنها تواجه سياسة عنصرية بنيوية إلى درجة انتزاع أطفال من عائلاتهم، ما دفع الأمم المتحدة إلى التنديد.
الصورة
ذكرى النكبة في الدنمارك (ناصر السهلي)

مجتمع

تشهد مدن الدنمارك التي يعيش فيها نحو 30 ألفاً من الفلسطينيين، هذه الأيام، نشاطات وفعاليات فلسطينية متعددة تمتد طيلة الأسبوع إحياء لذكرى النكبة، وبمشاركة متضامنين دنماركيين، بالإضافة إلى مهرجان السينما الفلسطينية الذي تحتضنه مدينة آرهوس (وسط غرب). 
الصورة
الدنمارك/السعودية/العربي الجديد

سياسة

أعاد كشف الدنمارك عن خلايا تجسس لمصلحة الرياض وطهران على أراضيها طرح قضية "الأنشطة الاستخباراتية" للجانبين في دول الشمال الأوروبي.
الصورة
وزير الخارجية/ الدنمارك

أخبار

استدعت وزارة الخارجية في كل من هولندا والدنمارك، سفيري السعودية لديهما للاحتجاج على ما تقولان إنها "أنشطة تجسس" جرت بأراضيهما، وذلك عقب إعلان البلدين الأوروبيين القبض على 4 إيرانيين بتهمة التورط في أنشطة استخبارية لصالح جهاز استخبارات سعودي.