حلم الضفة الأخرى[1/5]... النصب على "الحراقة" في عنابة الجزائرية

حلم الضفة الأخرى[1/5]... النصب على "الحراقة" في عنابة الجزائرية

18 ابريل 2017
المهرّبون يختفون عقب جمع المال من ضحاياهم (Getty)
+ الخط -
يصر الثلاثيني الجزائري الطاهر بلعباس أن شكواه التي قدمها إلى الجهات الأمنية في مدينة عنابة عاصمة الساحل الشرقي، بعد تعرضه لعملية احتيال من قبل شبكة لتهريب البشر في الأسبوع الأخير من شهر فبراير/شباط الماضي، هدفها فضح من يصفهم بـ"قروش البر" الذين يصطادون فرائسهم على الشواطئ، إذ اتفق بلعباس مؤسس حركة الدفاع عن البطالين في الجنوب الجزائري مع مهربين من عنابة على تنظيم رحلة له رفقة 14 فرداً نظير دفع 100 ألف دينار جزائري لكل واحد (ما يعادل 920 دولاراً أميركياً)، لكن "رحلة الموت" كما سماها، انطلقت من شاطئ وادي البقرات غرب عنابة في ساعة متأخرة من الليل، واكتشفوا بعد 5 ساعات قضتها المجموعة في المياه أن القارب لا يمكنه العبور نحو وجهتهم إلى جزيرة سردينيا الإيطالية التي تبعد عن عنابة مسافة 224.4 ميلاً بحرياً (374 كيلومتراً).

جمع المال والاختفاء

يختفي منظمو الرحلات عن الأنظار بعد اطمئنانهم إلى ركوب "ضحايا حلم الضفة الأخرى" القوارب غير مهتمين بنهاية سعيدة للقصة، كما يرى الصحافي المهتم بقضايا الهجرة غير الشرعية والمقيم في عنابة جمال ليتيم، وهو ما جرى مع الطاهر بلعباس ومجموعته من الحراقة (مصطلح رائج للمهاجرين غير الشرعيين)، والذي سعى إلى استرجاع أمواله من منظمي الرحلة بطرق ودية، غير أنه اكتشف أن الأشخاص الذين تعامل معهم يعمدون لتغيير هواتفهم بعد انطلاق الرحلات أو بعد حصولهم على المال مباشرة من ضحاياهم، وهو حال عشرات الشباب الذين تعرف إليهم بلعباس خلال رحلته لاسترداد 200 ألف دينار( 1840 دولاراً) دفعها هو وصديقه شتي عادل الذي قدم إلى المدينة الساحلية من مدينة ورقلة جنوبي الجزائر.


تقلص نشاط الشبكات المنظمة

ينطلق جزائريون وأفارقة يومياً من سواحل عنابة باتجاه الضفة الأخرى من المتوسط، كما يقول جمال ليتيم لمعدّ التحقيق أثناء مرورهما بشاطئ سيدي سالم شرق عنابة، وعرفت الهجرة غير الشرعية من عنابة إلى أوروبا مرحلتين، الأولى منذ عام 2006 وحتى عام 2011، إذ كانت شبكات التهريب توفر القارب والوقود وحتى قائد المركب لصالح مجموعات المهاجرين، وكان التكلفة في حدود 300 ألف دينار (2700 دولار) للشخص الواحد وفق ما رصده ليتيم، غير أن الأمر تراجع في السنوات الخمس الأخيرة لصالح ما يسميه بـ "اللمة" إذ تقوم كل مجموعة بتقاسم أعباء الرحلة (القارب والمحرك ومادة La resine (عبارة عن سائل تطلى به القوارب لمنع تسرب الماء إليها) وخيوط الفيبر (ألياف يتم استخدامها في تجهيز القوارب لتدعيم التصاق مادة اللارزين بالخشب) ومن ثم التخلص من القارب قرب السواحل الإيطالية في حال نجاح الرحلة.

ودافع المحامي بمجلس قضاء عنابة (يوازي محكمة النقض) كسيلة زرقين، عن عدد من الحراقة، ويعتبر أن الطرفين، منظمي الرحلات والحراقة، ضحيتان لأوضاع اجتماعية وأخطاء السياسيين، رافضاً تحميل المسؤولية لمن يبيعون القوارب أو يجهزونها.

سيدي سالم

أحصى معد التحقيق 108 قوارب مركونة على شاطئ سيدي سالم المخصص للسباحة، معظمها لم يدخل البحر مرة واحدة، وهو ما يؤكد أنها معروضة للبيع حسب إفادة الصياد عمار مباركي (رفض الكشف عن هويته) الذي كان موجوداً في المكان.

يقول عمار الذي يعمل في ميناء عنابة منذ 20 سنة إن معظم أصحاب القوارب يقومون ببيعها جاهزة لمن يشتريها من الحراقة مقابل مبالغ تصل إلى 200 ألف دينار للقارب الذي يبلغ طوله ثمانية أمتار، على أن يتكفل الحراقة بشراء محرك وكميات من الوقود ومحدد للوجهات (جي. بي. آر. إس ) يكون دليلهم في الرحلة، ويعمد الحراقة لجمع تكاليف الرحلة مناصفة.

يؤكد عمار أن المخطط يبدأ في شاطئ سيدي سالم، لكن الرحلة تنطلق من شواطئ أخرى، هي وادي البقرات وعين بربر في عنابة، وكذلك شاطئ الشط والدراوش التابعان لولاية الطارف المجاورة، معللا ذلك بالابتعاد عن رقابة حراس الشواطئ وضمان فرصة أكبر للعبور إلى المياه الدولية، ويقاسمه في هذا الرأي ثلاثة من المهتمين بالانتقال إلى سردينيا ناقشت معهم "العربي الجديد" الموضوع.

أرباح طائلة

تصنع القوارب في ورشات سرية يوجد معظمها وسط أحياء شعبية، منها بوخميرة ولاصاص بمنطقة سيدي سالم التابعة إدارياً لبلدية البوني بولاية عنابة، حيث يكلف القارب الخشبي في حال طلبه مباشرة من الورشة 120 ألف دينار (1080 دولاراً) حسب إفادة قدمها الخمسيني عمي أحمد صاحب إحدى الورشات لـ "العربي الجديد".

ويتلقى أحمد طلبات أسبوعية لصناعة قوارب تزيد في فصل الصيف الذي تكثر فيه الرحلات غير الشرعية، بحكم أن الحراقة يبتعدون عن المغامرة في الشتاء الذي تسوء فيه الأحوال الجوية، وهو ما يتضح من رقم 338 مهاجراً تم إحباط عملية مغادرتهم السواحل الجزائرية بطريقة غير قانونية خلال الفترة من 21 أغسطس/آب 2016 وحتى 5 سبتمبر/أيلول 2016 وفقا لإفادة الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان مستندة إلى إحصائيات قيادة حرس السواحل.

لدى سؤاله عن الأرباح التي يجنيها من المهنة يرد محدثنا بأن القارب الواحد يكلفه حوالي 65 ألف دينار (585 دولاراً) بين الخشب والمسامير وهو يأخذ نفس المبلغ نظير جهده. 
وعبر افتراض تلقي صانع القوارب أحمد، طلبا في الأسبوع يصبح ربحه الصافي سنوياً 3080000 دينار (27720 دولاراً)، وهو حال كثير من الورشات التي ظهرت منذ انتشار الهجرة غير الشرعية بالمدينة سنة 2006، وهو ما يؤيده جمال ليتيم.

تجهيز القوارب

يقصد محل عبد الحق لبيع عتاد البحر في سوق السمك وسط مدينة عنابة مشترون لطلاء القوارب الذي يطلق عليه محليا "لاريزين" ويصل سعره إلى 480 دينارا للتر الواحد (4.3 دولارات) بينما يبلغ سعر المتر من خيط الفيبر 650 دينارا (6 دولارات) ويخلي صاحب المحل مسؤوليته من أي تواطؤ مع المهاجرين غير الشرعيين أو الشبكات التي تقوم بتنظيم الرحلات بالقول: "تنتهي مهمتي عند تلبية طلب الزبون وليس من مسؤولتي التثبت، سواء كانوا بحارة أو حراقة".

ويحتاج القارب ذو الأمتار الثمانية حوالى 40 لتراً من اللاريزين و10 أمتار من خيوط الفيبر بالإضافة إلى تكلفة 15 ألف دينار (135 دولاراً) مستحقات العمل كما يقول منير الذي يشتغل في مهنة تجهيز القوارب الخشبية باللاريزين والفيبر منذ 15 سنة. ويؤكد منير الذي رفض بشدة الإفصاح عن لقبه العائلي على غرار دليلنا إليه عبد الحق، أن كثيرين وصلوا إلى أوروبا بفضل القوارب التي جهزها لهم، بينما يصمت عند مواجهته بسؤال وكم عدد من غرقوا في البحر؟.

في المرحلة الأخيرة يتوجه منظمو الرحلات أو الحراقة إلى حي 6 مارس لشراء محركات للقوارب التي يبلغ سعرها 500 ألف دينار (4500 دولار) للمحرك، حسب استطلاع قامت به "العربي الجديد" في محلات بحي 6 مارس المعروف بـ"ليزالمو"، تضاف إلى ثمن تكلفة القارب بالفيبر 40 ألف دينار (360 دولارا).


المفقودون

في حوزة المحامي كسيلة زرقين ملفات لـ 500 مفقود خلال آخر عشر سنوات، غادروا سواحل عنابة بطريقة غير شرعية باتجاه أوروبا، وفي هذا السياق، يوضح بلعابد كمال رئيس جمعية الحراقة المفقودين في البحر بعنابة (تنظيم غير رسمي) أن عدداً معتبراً من الحراقة يضلون الطريق ويجدون أنفسهم أمام القاعدة العسكرية البحرية التونسية في البحر المتوسط، ويتم الزج بهم في سجون الجارة الشرقية لتغيب أخبارهم عن أسرهم، ويعتبر بالمقابل أن وجود شبكات تستفيد من أموال الشباب لمساعدتهم في الوصول إلى أوروبا توازي بل وتفوق معاناة الشباب في وطنهم ومعاناة أسرهم إثر تغييبهم في بلد آخر.

يتقاسم هذا الرأي أهالي الشباب المفقودين في البحر الذين التقاهم معد التحقيق خلال اجتماع دوري عقدوه في مكتب المحامي كسيلة المكلف بقضيتهم وسط مدينة عنابة.

وتعمل المديرية الولائية للحماية المدنية في عنابة على توفير العناية الطبية للحراقة الذين تحبط قوات حرس السواحل التابعة للجيش الجزائري محاولاتهم للهجرة غير الشرعية، بحسب الرائد عبد الحميد بلهوشي المكلف بالإعلام والاتصال والذي أكد لـ"العربي الجديد"، أن الحراقة يتعرضون لمتاعب صحية بسبب ركوبهم في قوارب غير مجهزة لمثل هذه الرحلات.

تجريم تهريب البشر

أدرج المشرع الجزائري نصا قانونيا يجرم فيه كل من يتورط في الهجرة غير الشرعية من خلال المادة 303 مكرر 30 بقانون العقوبات الجزائري التي جاء فيها "يعد تهريباً للمهاجرين القيام بتدبير الخروج غير المشروع من التراب الوطني لشخص أو عدة أشخاص من أجل الحصول، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على منفعة مالية أو أي منفعة أخرى"، بحسب ما أوضحه رئيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان، بوجمعة غشير، والذي أضاف أن القانون الجزائري يعاقب من تثبت بحقه تهمة تهريب البشر بالحبس من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات وبغرامة من 300 ألف دينار (2700 دولار) إلى 500 ألف دينار (4500 دولار) وتصل إلى عشرين سنة إذا ارتكبت الجريمة من طرف أكثر من شخص أو جماعة إجرامية منظمة حسب تصريح غشير.

ويجزم إمام المسجد الكبير في العاصمة الشيخ علي عيه بأن "البزنسة" في الهجرة غير الشرعية لا تجوز شرعاً ويتابع في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، "الوسطاء يرسلون بالشباب إلى عرض البحر، فإما يهلكون غرقاً، أو يلقى عليهم القبض، أو يدخلون بلداناً أخرى بطرق غير شرعية، وفي كل الأحوال يقعون في المفاسد".

دلالات