"زواج المصلحة"يجمع شبكات التهريب و"الإرهاب" في المغرب العربي

"زواج المصلحة"يجمع شبكات التهريب و"الإرهاب" في المغرب العربي

12 مايو 2014
منطقة الكاف الحدودية بين تونس والجزائر (GETTY)
+ الخط -
قبل أشهر، وعلى الرغم من تعالي الاصوات التي حذّرت من التعاملات المشبوهة بين "بارونات" التهريب والجماعات الإرهابية، لم يكن من اليسير إثباتُ العلاقة بين الطرفين، بل إنّ الحديث عن "زواج مصلحة" بين المهربين المنتشرين على طول المناطق الحدودية التونسية مع جارتيها الجزائر وليبيا، كان يصطدمُ دائماً بصمت الأجهزة الرسمية التي لم تتمكن وقتها من الإمساك بطرف الخيط الرابط بين ظاهرتين، إحداهما مقيمة في تونس منذ عقود (التهريب) وأخرى طارئة عليها منذ سقوط نظام الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011.

غياب الأدلة التي تثبت وجود هذه العلاقة الهجينة بين الإرهاب والتهريب لدى السلطات التونسية، لم يمنع "مجموعة الأزمات الدولية"، من نشر تقرير مفصّل في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 حول تلازم الظاهرتين في تونس بعد انهيار النظام السابق.

ورد في التقرير أن: "الحركات الإرهابية وشبكات التهريب دخلتا في علاقة عضوية بالمناطق الحدودية، وخاصة في المناطق التي تعرف تخلّفا تنمويا واضحا، ومن المتوقّع أن توفّر العلاقة بين الارهاب والتهريب الظروف المثلى لولادة عصابات مشتركة بين "الارهابيين والمهربين" عابرة للحدود بدرجة تنسيق عالية جدّاً".

النبوءة التي أطلقها تقرير"مجموعة الأزمات الدولية"، تحققت بالفعل بعد توالي إفادات العناصر الإجرامية التي قبض عليها مؤخّراً، حيث تبَيَن للأجهزة الأمنية والعسكرية التونسية، تورّط العديد منهم في تموين وتوفير الدعم المادي واللوجيستي للمجموعات الإرهابية، إضافة إلى تسهيل دخول السلاح للبلاد عبر الحدود التونسية-الليبية وتوفير الأدوية لها كحبوب الصداع ونزلات البرد، وخيوط الرّتق وموادّ التخدير والتّعقيم والضمادات.

الدكتور ناجي جلّول، الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، قال لـ"العربي الجديد": "كنّا نعرف على وجه الدقّة أن الجماعات الإرهابية تستثمر خبرة شبكات التهريب، خاصة معرفتها بجغرافيا المناطق الحدودية وقدرتها الفائقة على تجنّب الحواجز الأمنية والعسكرية، لتوفير ما تحتاجه من مؤن وأدوية وأسلحة أيضاً. بالمقابل يوفر الارهابيون الأموال والحماية للمهربين من خلال بعض العمليات الصغيرة في بعض القرى والمدن، لتشتيت انتباه القوى الأمنية والعسكرية. ورغم توفّر الدلائل، فإن الأمن التونسي لم يتعامل في البداية بجدية مطلوبة مع تلازم الظاهرتين، قبل أن تتوالى إفادات المقبوض عليهم لتؤكد ما أشرنا إليه".

كل الطرق تؤدي إلى التهريب

ميدانياً تتضّح الصورة أكثر، ففي الجولة الميدانية التي حملت "العربي الجديد" إلى المناطق الحدودية بين تونس والجزائر، وتحديداً المناطق الموجودة على طول الخطّ الذي يربط محافظتي الكاف والقصرين (غرب البلاد التونسية)، نلاحظُ بسهولة أنّ "التهريب" هو الخبز اليومي للسكان الذين يحملون مسؤولية انخراطهم في النشاط، الذي يعتبرونه مشروعاً، للسياسات التنموية الفاشلة للحكومات المركزية المتعاقبة.

في مدن كـ"تاجروين" و"الجريصة" (محافظة الكاف)، أو "فريانة" و"تلابت" و"بوشبكة" و"بودرياس" و"حيدرة" (محافظة القصرين)، لا يمكن إلا أن تخرج بملاحظة وحيدة وصادمة ... أنت بصدد التجوّل في دولة داخل دولة، حيث تبسط شبكات التهريب سيطرتها على المنطقة عبر التحكم في مصير عائلات بأكملها جعلت من التهريب نشاطها الاقتصادي الرئيس.

عدد من شبان المنطقة، من صغار المهرّبين، الذين التقت بهم "العربي الجديد"، أكدوا أنهم "منسيون من الحكومة المركزية"، وبالتالي فهم "مضطرون للتعويل على أنفسهم لإعالة عائلاتهم وتوفير لقمة عيشهم".

غير أنهم يلوذون بالصمت عند التطرّق لموضوع العلاقة بين بارونات التهريب، الذين يشغلونهم، والجماعات الإرهابية، المختفية في منازل آمنة أو المتحصّنة بقمة جبل الشعانبي، حتى أن الإصرار على طرح هذا السؤال قد يكون "مكلفاً" في هذه المناطق، التي استغل سكانها غياب الدولة وضعف الرقابة الأمنية، للمتاجرة في كلّ شيء وفق ما رصدته "العربي الجديد".

غير أنّه، وبعد محاولات مضنية تطلّبت كثيراً من الوقت و الجهد والإلحاح، رتّبت لنا مصادرنا، لقاء مع أحد كبار المهربين في محافظة الكاف، الذي قبل، في جلسة ليلية، أن يحدّثنا بوجه مكشوف حول ما جئنا من أجله.

يقول المُهرّب هشام حمدي (38 سنة) لـ"العربي الجديد": "يتم تقديمنا دائماً في وسائل الإعلام على أننا مخرّبون للاقتصاد الوطني وهذا غير صحيح، لأنّه لو توفرت لنا برامج تنموية عادلة لما التجأنا للتهريب لإعالة أطفالنا. فعلى كامل محافظات الشمال والوسط الغربي، تعيش مئات العائلات على تهريب الوقود والملابس الجاهزة والأحذية والعطور ومواد البناء، وهذا ما يوفر لنا إمكانية الاستمرار في ظلّ تواصل سياسات تهميش هذه المناطق حتى بعد الثورة".

وأضاف: "نحن مستعدون للتوقف عن هذا النشاط، الذي نعتبره مشروعاً، حين تتوقف السلطة المركزية عن التلكؤ في إقامة سوق حرة بين تونس والجزائر، كما هو الحال في منطقة بن قردان (محافظة مدنين جنوب تونس)".

"أخوّةُ الدم"....والمصالح المشتركة

وعن العلاقة بين شبكات التهريب والجماعات الإرهابية، قال المهرّب هشام حمدي: "قبل الثورة في تونس، لم تكن هناك علاقة، فالسلطات في تونس والجزائر كانت تتعامل معنا بعين نصف مغمضة، مادامت الكميات المهربة لا تضرُّ أحداً، لكن بعد ثورة يناير 2011 تغيّر الأمر، فبعض المهربين دخلوا في شراكة استراتيجية مع الارهابيين في بعض المناطق، وليس كلها، خاصة في الجنوب التونسي (منطقة الذهيبة) التي تنشط بها تجارة الأسلحة بشكل كبير أو في منطقتي بوشبكة وحيدرة (محافظة القصرين) حيث لا يحتاج الأمر إلى كبير عناء حتى نفهم أن هناك علاقة بين بعض المهربين والارهابيين، فهناك مواد جديدة بدأت تغزو المنطقة، كالأدوية وخيوط الرّتق وموادّ التخديروالتّعقيم والضمادات، وغيرها من المستلزمات الطبية".

وتابع قائلاً: "الأمر هنا يتعلّق بشبكات منظمة جداً، ومن المستحيل اختراقها. وعلى الرغم من تشديد القوات الأمنية والعسكرية مراقبتها على النقاط الحدودية، فإنّ هذه الشبكات تنجح دائماً في إدخال ما تحتاجه من مؤن وسلاح وأدوية، مستفيدة من خبرة المهربين ومعرفتهم بمختلف مسالك التهريب التقليدي منها وغير التقليدي، خاصة أن تضاريس المناطق الحدودية وكثافة الغابات توفر غطاء مثالياً لهذه العمليات السرية".

في هذه المناطق يبدو من اليسير ملاحظة بعض القصور الفخمة التي يقف بعضها وحيداً وسط مشهد كامل من "الدمامة العمرانية"، وفيما رفض بعض من قابلناهم الحديث جهراً عن "البارونات"، فإنّ الألسن في المقاهي لا تكفّ أبداً عن الثرثرة، فالمتاجرة في المحروقات أو الملابس والأجهزة الإليكترونية، لا يمكن بأية حال أن توفّر كل هذا "الثراء" للمهرّبين، إلاّ إذا انخرط بعضهم في تجارة "الدم".

حول الفكرة السابقة، قال المهرّب هشام حمدي لـ"العربي الجديد": "من الطبيعي أن تخضع العلاقة بين المهرب والارهابي لمبدأ المنفعة الاقتصادية المشتركة، فالارهابيون يحوزون مبالغ طائلة، والمهربون لا همّ لهم سوى جني المال. غير أن "العلاقة الاقتصادية" لا تفسّر لوحدها الشراكة، فما يجمع الإرهابي بالمهرّب أيضاً هو كره رجل الأمن الذي يعتبرانه "عدواً مشتركاً" وهو ما يتطلّب "توحيد الجهود" بينهما لخلق حالة من اللاستقرار الأمني، وهنا مكمن الخطر بالنسبة لمن يشتغل في تهريب المحروقات والمواد العادية، حيث نعتبر المسّ بالأمن الوطني التونسي خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، خاصة أن العلاقات المشبوهة تعود علينا بالضرر بعد أن شددت السلطات التونسية والجزائرية قبضتها على عمليات التهريب. ولهذا نحن معنيون أكثر من غيرنا بالقضاء على المجموعات الارهابية والشبكات المتواطئة معها، والتي تساهم في قطع آخر مورد للرزق نعتاش منه".

الأجهزة العسكرية على الخط

زواج المصلحة بين الارهاب والتهريب، أو "زواج الدم والمنافع"، أصبح اليوم في تونس أحد أولويات الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تعكف حاليا على إعداد خطة أمنية شاملة  للقضاء عليهما، كما قالت المصار الأمنية.

من جانبه قال العميد توفيق الرحموني، الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الوطني لـ"العربي الجديد ": "العلاقة بين الإرهاب والتهريب أصبحت أمراً واقعاً في تونس، فهما وجهان لنفس العملة، فالإرهابي يحتاجُ إلى المهرّب لإدخال ما يحتاجه من مؤونة وأدوية وأسلحة لدراية الأخير بمختلف المسالك التي لا تخضع للمراقبة، وبالمقابل يحتاج المهرب للإرهابي ليوفّر له الأموال والحماية، ونحن نعي جيّداً خطورة هذه العلاقة على أمن البلد واقتصاده".

وأضاف: "نشتغل على خطة أمنية متكاملة وشاملة في ظلّ الأداء الجيد لمختلف وحداتنا الميدانية، تستهدف شبكات التهريب المتعاونة مع العصابات الإرهابية، وسنعلن قريباً عن الخطة بعد إنهاء العملية العسكرية الكبرى في جبل الشعانبي للقضاء على أكبر جيب إرهابي في البلد".

واستدرك قائلًا: "لا يجب أن يحجب الأمر عنا حقيقة أن الحلّ الأمني وحده لا يكفي، ونحن واعون لأهمية اعتماد مقاربة تنموية شاملة لمثل هذه المناطق الحدودية حتى لا تتحول إلى بؤرة تستغلها الجماعات الإرهابية لاستقطاب المهربين، واستغلال الأوضاع المعيشية للعائلات لتنفيذ مخططاتهم الدموية".