"مدن الصفيح".. قنابل اجتماعية موقوتة في المغرب

"مدن الصفيح".. قنابل اجتماعية موقوتة في المغرب

الرباط

حسن الأشرف

avata
حسن الأشرف
23 ابريل 2014
+ الخط -
 
الكاريانات، البراريك، دُور القصدير، مدن الصفيح. مسميات عديدة لفضاءات جغرافية واحدة يُقصد بها الآلاف من البيوت والمساكن العشوائية التي تحيط بهوامش العديد من المدن المغربية الكبرى، خصوصاً العاصمة الرباط والدار البيضاء وطنجة وفاس ومراكش وغيرها. إلا أن قربها من تلك المدن لم يشفع لها لتنال حظها من الرعاية والاهتمام حتى أضحت قنابل موقوتة تهدد الأمن والاستقرار الاجتماعي للبلاد، بإفرازها لثالوث مرعب يتمثل في: الفقر والإجرام والتطرف الديني.

أسباب تاريخية واجتماعية
نشأت أحزمة المساكن القصديرية التي تحيط بكبريات المدن المغربية أول مرة خلال فترة الاحتلال الفرنسي والاسباني للمغرب في بدايات القرن العشرين، حيث ظهرت في تلك الفترة بيوت من الصفيح تنبت شيئاً فشيئاً على هوامش بعض المدن، يسكنها خصوصاً الاسبان من الطبقة الفقيرة الذين نزحوا إلى البلاد.

وبعد جلاء الاستعمار عن البلاد، تحولت ملكية تلك البيوت القصديرية إلى مواطنين مغاربة، فتناسلت المساكن من هذا الصنف لتصبح عبارة عن أحياء ومدن قائمة بذاتها في هوامش المدن الكبيرة، ثم تحولت من بيوت صفيحية إلى منازل عشوائية مبنية من حجارة وطين.

ليس السياق التاريخي وحده من ساهم في نشوء مدن القصدير، بل هناك عوامل اجتماعية ومناخية ترتبط أساساً بهجرة الآلاف من سكان الأرياف إلى المدن، بحثاً عن فرص عمل بسبب الأوضاع الاقتصادية المزرية التي تعيشها العديد من القرى المغربية.

وأفضى الجفاف الذي أصاب المملكة المغربية لسنوات عديدة، خصوصاً في الثمانينيات من القرن الماضي، إلى تزايد هجرة الشباب إلى المدن لإعالة أنفسهم وعائلاتهم، غير أنهم يصطدمون بواقع صعب هناك، ومن ثم يلجأون إلى هوامش المدن بحثاً عن بيوت بإيجارات منخفضة.

أحزمة الفقر
"دوار الحاجة" و"المعاضيد" و"دوار الكورة" وغيرها من أحياء الهامش في الرباط، و"دوار طوما" و"دوار السكويلة" وغيرها في ضواحي الدار البيضاء، و"حي بني مكادة" وحي  "مغوغة" في طنجة شمال البلاد، و"حي الشيشان" وغيره في ضواحي مدينة فاس، جميعها نماذج لأحياء موغلة في الفقر والتهميش والانحراف والتشدد الديني.


"دوار الحاجة"، الذي يبعد عن الرباط بضعة كيلومترات، يعد من أشهر الأحياء الشعبية الفقيرة التي تحيط بالعاصمة الإدارية، كانت بيوته تصنع من قوارير الزيت في السنوات الماضية، قبل أن تتحول إلى بيوت قصديرية، ثم إلى منازل طينية لا تخضع لقوانين التعمير.

جولة "العربي الجديد" في "دوار الحاجة" وأحياء مشابهة أخرى مرت عبر أزقة قصيرة لا يكاد الزقاق الواحد منها يسع لسيارة صغيرة الحجم، فيما المنازل مبنية بطريقة عشوائية ودون تصاميم قانونية، ويعاني شبابها من البطالة، كما أن أغلب مهن سكانها عبارة عن حرف بسيطة.   

الزائر لهذه الأحياء يشعر عن كثب بمظاهر الفقر المدقع الذي يضرب ساكني هذه المناطق الموغلة في الهشاشة والظلم الاجتماعي، وفق تعبير محمد زكوتي الناشط في جمعية النماء في الرباط.

وقال زكوتي لـ"العربي الجديد" إن أحياء الهامش في المدن المغربية الكبرى تعاني أكثر ما تعانيه من الفقر والحرمان الاجتماعي للسكان الذين لا يستفيدون من أية خدمات اجتماعية أو ثقافية أو ترفيهية، باعتبار أن "همهم الأساس هو لقمة عيش تطفئ جوعهم ومأوى يستر عورتهم".
"لا يخرج من هذا الحي سوى المجرمين والمنحرفين واللصوص".. بهذه العبارات الثقيلة عبّر عمر زوبير، أحد سكان "دوار الحاجة" في الرباط، والذي تحول اسمه في السنوات الأخيرة إلى "حي الفرح"، عن تذمره من الأحوال الأمنية في أحد أكبر الأحياء الشعبية والهامشية في المغرب.

شكوى هذا المواطن تجد لها نظيراً في العديد من الأحياء الفقيرة المحيطة بكبريات المدن المغربية، حيث تكثر حوادث النشل والسرقة والانحراف السلوكي بشتى أنواعه، من إدمان ومتاجرة بالمخدرات على مختلف أصنافها، وترويج للخمور، وبيع للأجساد، ودعارة، وعمالة الأطفال.
 

أرضية خصبة للتطرف
لم يكن أحد يربط في المغرب بين العيش في الأحياء الفقيرة والمهملة على هوامش المدن وبين نشوء الأفكار الدينية المتطرفة، إلى أن استفاق المغاربة ذات يوم من شهر مايو/أيار 2003 على وقع تفجيرات دموية استهدفت مطاعم وفنادق غربية قام بها شباب ينتمون إلى حي سيدي مومن المهمش في الدار البيضاء.

تلك الأحداث الإرهابية دفعت حينها فقط الباحثين والمهتمين إلى الربط بين الفقر المستفحل في "البراريك" ومدن الصفيح وبين بزوغ المعتقدات الدينية المتشددة، ويدلّون على ذلك بأن أغلب المعتقلين على خلفية قانون الإرهاب في المغرب ينتسبون إلى أحياء فقيرة بضواحي المدن.


حي "سيدي مؤمن" في الدار البيضاء تجاوزت شهرته المغرب حيث صار حديث الألسن ووسائل الإعلام الدولية بعدما خرج منه شباب انتحاريون يحملون أفكاراً متطرفة يعتقدون معها أن "قتل المخالفين لهم في تصوراتهم الإيديولوجية هو أقصر طريق نحو الجنة"، يؤكد محمد سليماني الواعظ الديني.

وتابع المتحدث لـ"العربي الجديد" بأن "عدداً من الشباب الذين يقطنون أحياء قصديرية ويقضون سحابة يومهم بين براثن الفقر، يحاولون التخلص من وضعهم المعيشي المزري من خلال التعلق بأفكار دينية يحاولون الوصول إليها بأية وسيلة كانت، وهو تطرف مرفوض جملة وتفصيلا". 

ولم يكن الحي الذي أخرج "الإرهابيين" الشباب سوى واحد من تلك البيوت القصديرية التي ظهر فيها لأول مرة تنظيم متطرف أطلق على نفسه "التكفير والهجرة" يتزعمه المدعو يوسف فكري الذي حكم عليه بالإعدام على خلفية أحداث الدار البيضاء، قبل أن يتوفى في السجن في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2007.

بين الفقر والتطرف 
الشيخ أبو حفص رفيقي، المعتقل السابق على ذمة قضايا ما سمي بالإرهاب، له رأي في هذا الصدد، موضحاً أن "التطرف أصله فكرة ومبدأ واقتناع، قد يؤمن بتلك الفكرة الفقير والغني"، مشيراً إلى أن بعض المتبنين لمثل هذه الأفكار من الميسورين، فالتلازم بين الفقر والتطرف غير صحيح".

واستدرك أبو حفص، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، قائلاً: "إن هذا لا يعني أن الفقر ليس له دور في الدفع نحو التطرف، بل له دور كبير في احتضانه والتشجيع عليه"، مضيفاً أن "غالب المتطرفين ممن عانوا الحرمان والفقر، فهو عامل احتضان وتغذية".

واستطرد أبو حفص بأن "الفرد حين تسوء أحواله الاجتماعية، ويحس بالقهر، ويعاني من التسلط المجتمعي بكل أنواعه، من السهل إقناعه بأي فكرة ينفّس من خلالها سخطه على هذا المجتمع، أو يرى فيها خلاصاً من واقعه البئيس، أو يجد فيها مشروعية لهروبه وانعزاله عن هذا العالم الذي ظلمه وجعله يحس بالدونية والاحتقار". 

وشدد أبو حفص على أنه "من أعظم الوسائل التي يمكن بها محاربة التطرف الديني في المغرب التقليل من مستوى الفقر، والعناية بمثل هذه البيئات التي من شأنها إنتاج التطرف واحتضانه وتغذيته".  

  
 إجرام وانحراف  
"الرابط بين الأحياء الهامشية التي توجد في ضواحي المدن والميول إلى الإجرام والانحراف أمر اجتماعي ملحوظ ومسجل"، قالت الباحثة الاجتماعية ابتسام العوفير لـ"العربي الجديد"، مشيرة إلى أن أغلب الشبان الذين يرتكبون الجنح والجرائم المختلفة هم قاطنو الأحياء المهملة أساساً.

وتابعت العوفير بأن "سرقة الأشخاص أو الممتلكات بالقوة تظل أكثر الاعتداءات التي يرتكبها شباب الأحياء الصفيحية التي تحيط بالمدن، لأنها بالنسبة لهم هي البديل المتاح أمام واقع الفقر والحرمان اليومي الذي يعيشونه، في خضم انسداد آفاق تنمية هذه المناطق المقصية".

وكان تقرير لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة قد صنف المغرب في المرتبة الثانية عربياً في ارتكاب جرائم القتل، بمعدل 2.2 جريمة قتل لكل 100 ألف من السكان، معتبراً أن مدينة الدار البيضاء تعد في صدارة المدن الكبرى المكتظة من حيث نسبة الجريمة.


صيد انتخابي
وتعد البيوت القصديرية والأحياء الصفيحية المناطق المفضلة لمحترفي السياسة والانتخابات، سواء منها البرلمانية أو البلدية، وغالبا ما تطأها أقدام المسؤولين طلباً لأصوات السكان مرة كل خمس سنوات، وهي الفترة الزمنية التي تُنظم فيها الانتخابات في المغرب.

"لا نشاهد وجوه الوزراء والمسؤولين سوى مرة واحدة طوال سنوات"، تقول السيدة نجية إحدى قاطنات دوار "الكورة" في هوامش العاصمة الرباط، قبل أن تضيف "هم يأتون إلينا بحثاً عن التصويت لهم، والناس يحصلون مقابل ذلك على تعويضات مالية تساعدهم على العيش".

الأحياء الشعبية المتناسلة على هوامش المدن الكبرى أضحت صيداً ثميناً للمرشحين في الانتخابات بالمغرب، حيث لا يستغرب مواطنون فقراء وبسطاء من مشاهدة ومصافحة وزراء ومسؤولين حكوميين كبار، كانوا لا يرونهم في العادة سوى في نشرات الأخبار على التلفزيون.

وبحسب محمد زكوتي، فإن الأحياء التي توجد على هامش المدن الكبرى تعتبر صيداً ثميناً لمحترفي الانتخابات لعاملين اثنين، الأول أنها مناطق ذات كثافة تصويتية عالية، وثانياً لأن هؤلاء المرشحين "يستغلون فقر الشباب فيدفعونهم للدعاية لفائدتهم".

مجهودات الدولة في الميزان
فطنت الدولة إلى المخاطر المحدقة بالسلم الاجتماعي بسبب انتشار المساكن غير اللائقة، حيث عمدت إلى تدشين مخطط يعنى بمحاربة مدن الصفيح بدأت تطبيقه منذ 2004، بهدف تلافي التداعيات الاجتماعية والأمنية الخطيرة التي تفرزها هذه المناطق.

ويرى محمد نبيل بنعبد الله، وزير السكن والتعمير وسياسة المدينة، أن المغرب حقق ما يفوق 70 في المائة من مجمل أهداف برنامج "مدن بدون صفيح"، حيث تعتزم الحكومة القضاء نهائيا على مدن الصفيح في المغرب في أفق سنة 2020.

ويرمي برنامج "مدن بدون صفيح،٬ الذي بدأته حكومات سابقة وتتبعه الحكومة الحالية، إلى تحسين ظروف عيش أكثر من مليون و800 ألف شخص في 85 مدينة تعاني من هذه الظاهرة.

هذه الأرقام الرسمية انتقدها، أخيراً، نواب برلمانيون أكدوا أن عدد "البراريك والبيوت القصديرية تضاعف في السنوات الأخيرة بحوالى 200 في المائة، عوض أن يتم القضاء على المساكن العشوائية، وذلك لأسباب انتخابية وتنموية بالأساس، معتبرين أن عدد دور الصفيح يزيد حالياً عل 375 ألف "براكة".

تظل مدن الصفيح أحد التحديات الكبرى للمغرب، وهو تحد يحتاج إلى تضافر للجهود الرسمية والشعبية حتى يمكن لسكان هذه المناطق أن يكونوا عامل بناء لا معول هدم في النسيج الاجتماعي والوطني للبلاد.