نفوذ فرنسا الأفريقي... تدهور لم تجدِ مبادرات ماكرون نفعًا في إيقافه

07 ابريل 2025
تثير رموز الحقبة الاستعمارية حساسيات لدى الأفارقة (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تدهور النفوذ الفرنسي: فشلت جهود الرئيس ماكرون في وقف تدهور النفوذ الفرنسي في أفريقيا، حيث زادت المشاعر العدائية تجاه فرنسا بين الأجيال الجديدة، مما أدى إلى فقدان باريس لمكاسبها الجيوسياسية.

- السياسة العسكرية والاقتصادية: انسحبت فرنسا عسكريًا من دول مثل مالي والنيجر، وتراجعت سياستها "فرانس أفريك"، مما أدى إلى انخفاض التبادل التجاري وتأثيرها الاقتصادي في القارة.

- التحديات والمستقبل: تواجه فرنسا تحديات في إعادة بناء علاقاتها مع أفريقيا، وتحتاج إلى نهج جديد يعزز قوتها الناعمة والعلاقات الثقافية والتعليمية، مع الحفاظ على الروابط الأمنية والفرنك الأفريقي.

فشلت مبادرات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في وقف تدهور النفوذ الفرنسي بأفريقيا، ما أفقد باريس مكاسبها الجيوسياسية، وحولها عالميًا إلى دولة متوسطة التأثير، كذلك تتعاظم المشاعر العدائية تجاهها بين الأجيال الجديدة.

- في معرض رصدهما لواقع العلاقات الفرنسية الأفريقية، أعدّ النائبان برونو فوكس وميشال تابارو تقريرًا للجمعية الوطنية (البرلمان) بتاريخ الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، استنادًا إلى المادة الـ 145 من النظام الداخلي التي تمنح اللجان النيابية صلاحية تكليف أحد/أو مجموعة من أعضائها رفع تقرير بغرض تقييم سياسة ما، ووفقًا للمادة المذكورة، تساعد هذه التقارير على مراقبة عمل السلطة التنفيذية، وهو أمر له ما يبرره في الحالة الراهنة، إذ بينما ترى وزارة الخارجية الفرنسية، العلاقات مع أفريقيا متعددة الأوجه وراسخة، فباريس تمتلك "مصالح مشروعة في أفريقيا وتسعى لتعزيزها على نهج من الشراكة والشفافية والمعاملة بالمثل"، بحسب ما جاء على موقعها الرسمي، بالمقابل ورد في الصفحة الـ 64 من التقرير العبارة الآتية: "نحب فرنسا لكن نريدها مختلفة".

وهو موقف عبّر عنه معظم الأفارقة الذين التقوا فوكس وتابارو واستوقف مصادر التحقيق، الذين يرونه دليلًا على وجوب مراجعة باريس لتلك العلاقات التي شهدت تدهورًا ملحوظًا تحديدًا في عهد إيمانويل ماكرون.

 

مفارقات الانتكاسة في عهد ماكرون

لم يوجه إيمانويل ماكرون أية حملة عسكرية إلى أفريقيا. كذلك فإن الرئيس الفرنسي الحالي اتخذ خطوات لمصالحة فرنسا مع ماضيها الاستعماري، كإعادة المقتنيات المسروقة، وهي مبادرات لم تفلح في لجم شعور الأفارقة "العدائي" ضد فرنسا الذي تنامى في عهده، بحسب ما جاء في دراسة صادرة عن معهد مونتاني (مركز أبحاث مقره في باريس) في 21 سبتمبر/أيلول 2023 بعنوان "أي مستقبل لفرنسا في أفريقيا"، أعدها الدبلوماسي السابق في الخارجية الفرنسية، برنارد شابدولين Bernard Chappedelaine، الذي بدأ عمله في وزارة الخارجية عام 1985 وتنقل في عدة وظائف بين الإدارة المركزية وعدد من البعثات الدبلوماسية.

ما جاء في الدراسة السابقة تفسره الباحثة والخبيرة بالشؤون الأفريقية ليسلي فارين Leslie Varenne بأن الرئيس الفرنسي الحالي "لا يفقه في الشأن الأفريقي ولا يزال يعيش أوهام الماضي" معتقدًا أن الأفارقة غير قادرين عن الاستغناء عن فرنسا، بحسب ما جاء في كتابها المعنون "إيمانويل ماكرون في الساحل: مسار الهزيمة" والصادر في 17 مايو/أيار 2024، وبرأي فارين وإلى جانب أخطائه الذاتية، ورث ماكرون "تركة ثقيلة" من العلاقات الفرنسية - الأفريقية، ما يفسر "هشاشة" النفوذ الفرنسي الحالي مقارنة بما كان عليه. ففي 20 فبراير/شباط 2025 أخلت فرنسا قاعدة بورت-بوييه العسكرية في ساحل العاج، ما فتح الباب أمام شكل مختلف من العلاقات العسكرية بين البلدين.

ورث ماكرون "تركة ثقيلة" من العلاقات الفرنسية – الأفريقية    

قبل هذا التاريخ، أجلت فرنسا آخر جنودها من تشاد في يناير/كانون الثاني 2025، كذلك تُنتظر مغادرة الجنود الفرنسيين الموجودين في السنغال واستكمال نقل المنشآت العسكرية الفرنسية من البلاد بحلول نهاية عام 2025، بناءً على طلب السلطات المحلية، ويأتي هذا بعد انسحاب القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، بين أغسطس/آب 2022 وديسمبر/كانون الأول 2023، بطلب من الأنظمة العسكرية التي انقلبت على السلطة في تلك البلدان.

وفي سياق منفصل، بادرت فرنسا إلى سحب قواتها من جمهورية أفريقيا الوسطى في ديسمبر 2022 بعد تباينات سياسية، وفي هذا الصدد، يشير الباحث في النزاعات الأفريقية تييري فيركولون إلى أن نهاية الاستعمار الفرنسي في أفريقيا ترافقت مع إبرام اتفاقيات تعاون عسكري بين فرنسا ومستعمراتها السابقة بغرض تأهيل القوات المسلحة الأفريقية.

لكن نهاية الستينيات بدأت فرنسا بإطلاق حملات عسكرية "لحماية الأنظمة من التهديدات" حتى طغى الطابع العسكري على العلاقات الفرنسية الأفريقية خلال السبعينيات، إذ نفذت فرنسا ما لا يقل عن 52 عملية عسكرية، لأهداف مختلفة، بين عامي 1964 و2014 لتوصف بـ"شرطي أفريقيا الفرنكوفونية" كما يقول فيركولون في دراسته المعنونة "معضلة العلاقات العسكرية الفرنسية - الأفريقية: هل تطوى الصفحة؟" المنشورة على موقع المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في نوفمبر 2024.

 

تداعيات سياسة "فرانس أفريك"

انطلاقًا من هذا الواقع، يعتبر الكاتب والباحث الفرنسي رفائيل غرانفو أنه بالرغم من استقلال الدول الأفريقية الفرنكوفونية منذ الستينيات، لكن طبيعة العلاقات بين الطرفين شكلت امتدادًا للحقبة الاستعمارية، ما اصطلح على تسميته بسياسة "فرانس أفريك".

غرانفو، وهو ناشط في منظمة سورفي (غير حكومية مقرها في باريس) التي تناهض ما تعتبره "الاستعمار الفرنسي الجديد في أفريقيا"، أضاف في حديثه لـ"العربي الجديد" أن باريس تدرك محدودية نفوذها الدولي إذا ما سلخت عنها "امبراطوريتها الاستعمارية"، وهو ما تناوله تقرير فوكس - تابارو بوضوح حين جاء على ذكر المكاسب الجيوسياسية التي تجنيها فرنسا من وجودها العسكري في أفريقيا: "فمن دون هذا الإرث تصبح فرنسا في خانة الدول متوسطة التأثير... فكل الأنظار، بما فيها الولايات المتحدة، كانت تتجه إلى فرنسا عندما يسود القلق الدولي من تطور الأحداث السياسية والأمنية في أفريقيا، لتتولى بذلك باريس زمام صياغة القرارات في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي".

يضيف التقرير أنه في فترة ما بعد الاستعمار، أُرسيَت القاعدة التالية "ضمان أمن الأنظمة الأفريقية مقابل ولائها السياسي (لفرنسا)، لا سيما خلال جلسات التصويت في الأمم المتحدة".

 

خطط إعادة التموضع

الأستاذ الجامعي المتخصص في التاريخ الأفريقي مامادو ضيوف Mamadou Diouf، مدير معهد الدراسات الأفريقية التابع لجامعة كولومبيا، توسع في هذه النقطة في اتصال مع "العربي الجديد"، قائلًا إن "الدول الأفريقية الفرنكوفونية باتت الحديقة الخلفية لفرنسا عبر شبكة عمل غير رسمية المعروفة بفرانس أفريك".

ضيوف الحائز درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، كان أستاذًا في جامعة "الشيخ أنتا ديوب" في السنغال قبل انتقاله في عام 1999 إلى الولايات المتحدة للعمل أستاذًا في جامعة كولومبيا، وبرأيه إن إيكال العلاقات الفرنسية الأفريقية إلى شبكة "فرانس أفريك"، التي لا تملك أية صفة رسمية، دليل على أن تلك العلاقات لم تسلك مسارها الطبيعي المفترض والاستقلال الذي نالته المستعمرات الأفريقية كان منقوصًا.

يضرب الأستاذ الجامعي مثالًا: عندما ساء الوضع الصحي للرئيس الغابوني ليون إمبا منتصف الستينيات، ضغطت فرنسا لإجراء تعديل دستوري كي تضمن انتقال السلطة إلى شخص موالٍ لها. وهكذا عيّن عمر بونغو نائبًا للرئيس في 20 فبراير 1967 ليتولى رئاسة الغابون في 28 نوفمبر 1967 عقب وفاة إمبا، منصب احتفظ به بونغو حتى وفاته في 8 يونيو/حزيران 2009.

يتوقف ضيوف عند الأرقام الواردة في دراسة فيركولون، لا سيما انخفاض عدد الجنود الفرنسيين في أفريقيا من 20 ألفًا إلى 6 آلاف جندي بين عامي 1970 و2022، ليقول: "الشق العسكري شكل عماد العلاقات الفرنسية - الأفريقية، من الطبيعي إذًا أن تكون الانسحابات العسكرية مؤشرًا على تراجع نفوذ فرنسا وعدم قدرتها على التأثير في مجريات الأحداث".

لكن بخلاف ضيوف، يقلل السفير السابق نيكولا نورمان، من أهمية انحسار الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا، بحسب ما جاء في إفادته لـ"العربي الجديد"، ومن وجهة نظر الدبلوماسي المتقاعد، الذي عيّن بين عامي 2002 و2013 سفيرًا لفرنسا في مالي والكونغو والسنغال، فإن إعادة تموضع القوات الفرنسية في أفريقيا قيد التداول في أروقة باريس منذ نحو 20 عامًا: "عندما كنت سفيرًا في السنغال، انخفض عدد الجنود الفرنسيين من 1500 إلى 350 خلال عام 2012".

يضيف نورمان: "منذ عام 1987 تغيرت مهمة تلك القوات، وبات مطلوبًا منها التركيز على تأهيل الجيوش الأفريقية وإجلاء الفرنسيين عند الحاجة، وليس حماية الأنظمة مهمات لا تستدعي إقامة قواعد عسكرية كبيرة الحجم"، يتابع: "لكن انفراد دول أفريقية، كالسنغال، في إعلان القرار دون تنسيق مع الجانب الفرنسي ينطوي على نيات دعائية".

لتوضيح هذه المسألة، يتوقف نورمان عند نقطة محورية برأيه: "مجرد وجود قواعد عسكرية على الأراضي الأفريقية، وإن كان تأثيرها محدودًا، يبقى مسألة رمزية يصعب تقبلها في الشارع الأفريقي، إذ تعد من مخلفات الحقبة الاستعمارية. بالتالي، لا يجب الاستخفاف بالرمزية وما تثيره من حساسية لدى الأفارقة".

 

آخر الرموز الاستعمارية

من الرموز الإشكالية التي تطرّق إليها نورمان، منطقة الفرنك الأفريقي، فخلال استعمارها لأفريقيا، أصدرت فرنسا عملة "الفرنك الأفريقي"، واستمر التداول بها حتى مع نيل البلدان استقلالها.

وترتبط فرنسا باتفاقيات تعاون نقدي مع ثلاث مناطق نقدية أفريقية، هي منطقة الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (بينين، بوركينا فاسو، ساحل العاج، غينيا بيساو، مالي، النيجر، السنغال وتوغو)، ومنطقة الاتحاد النقدي لوسط أفريقيا (الكاميرون، الكونغو، الغابون، غينيا الاستوائية، جمهورية أفريقيا الوسطى، وتشاد) واتحاد جزر القمر. ولكل منطقة نقدية مصرفها المركزي وعملتها الخاصة المرتبطة باليورو على أساس سعر صرف ثابت، وفق الموقع الرسمي للمديرية العامة للخزانة الفرنسية.

واستنادًا للموقع ذاته، يقوم التعاون النقدي بين فرنسا والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا، وهي واحدة من ثلاث جهات تستخدم تلك العملة، على 4 آليات، أبرزها إيداع المصرف المركزي لمنطقة الاتحاد النقدي لوسط أفريقيا 50% من احتياطاته من العملة الأجنبية لدى الخزانة العامة الفرنسية، نسبة ترتفع إلى 65% للمصرف المركزي لاتحاد جزر القمر. وحتى عام 2019 كان المصرف المركزي منطقة الاتحاد النقدي لغرب أفريقيا ملزمًا بدوره بنسبة الـ 50%.

وينتقد مامادو ضيوف بشدة هذه الآليات التي تحرم الأفارقة رسم سياستهم النقدية بحرية، كلام أيده الباحثان فاني بيجو Fanny Pigeaud وندونغو سامبا سيلا Ndongo Samba Sylla بعدما وصفا الفرنك الأفريقي بـ "العملة الاستعمارية".

بيجو، كاتبة وباحثة فرنسية عملت قبلها مراسلةً صحافيةً في دول أفريقية عدة، وسيلا، باحث اقتصادي سنغالي يرأس وحدة الأبحاث والسياسات في الرابطة الدولية للتنمية/فرع داكار (وهي شبكة عالمية من خبراء الاقتصاد تعمل على تعزيز المعرفة الاقتصادية البديلة)، نشرا كتاباً في عام 2018 حمل عنوان "السلاح غير المرئي لفرانس أفريك: تاريخ الفرنك الأفريقي"، وعليه توسّعا في حديثهما لـ"العربي الجديد" من خلال رد مشترك مكتوب، قائلين إن الدول الأفريقية المنضوية في منطقة الفرنك الأفريقي مسلوبة الإرادة لجهة رسم سياستها النقدية، ما ينعكس تلقائياً على سياستها المالية. 

على سبيل المثال، ليس بوسع دول الفرنك الأفريقي خفض قيمة عملتها كي تصبح صادراتها أكثر تنافسية، كذلك لن تتمكن من تمويل عجز ميزانيتها عبر زيادة "المعروض النقدي". بالتالي افتقاد هذه الدول لأدوات التأثير في الاقتصاد يحد من استقلاليتها عن القرار الفرنسي لينحصر دورها في تنفيذ مشاريع تنموية متواضعة، ما يوازي انعدام استقلالها الوطني، وفق بيجو وسيلا، اللذين قللا من أهمية عدم إلزام المصرف المركزي لمنطقة الاتحاد النقدي لغرب أفريقيا بإيداع 50% من احتياطاته في فرنسا، إذ اعتبرا أن تأثيره الإيجابي محدود لوجود آليات أخرى لا تزال سارية المفعول، كتثبيت سعر الصرف مع اليورو والقيود المفروضة على حرية نقل الرساميل و"وصاية" المديرية العامة للخزينة الفرنسية على منطقة الفرنك الإفريقي.

لكن بنظر السلطات الفرنسية، توفر هذه الآلية للاقتصاديات الأفريقية مزايا متعددة، أبرزها الاستقرار النقدي والتحكم بمعدلات التضخم والقدرة على استيعاب الصدمات الاقتصادية، وفق ما نشره الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية الفرنسية في ديسمبر 2021، يجري التداول بالكثير من المغالطات حيال هذا الملف، كالحديث عن تحكم فرنسا بالقرار النقدي الأفريقي، فيما التمثيل الفرنسي محدود في مجالس إدارة المصارف المركزية ولجان السياسة النقدية.

لا تزال باريس مهيمنة على المصارف المركزية لمستعمراتها السابقة

حجة يوافق عليها نيكولا نورمان، متسائلاً: "إذا كان الفرنك الأفريقي بهذا السوء، فلماذا لم تبادر تلك الدول إلى إصدار عملات خاصة بها طوال تلك السنوات؟ لأنها ببساطة تدرك الضمانة النقدية التي يوفرها الفرنك الأفريقي، وهي غير مستعدة للمجازفة بتلك المزايا".

عارض الثنائي بيجو - سيلا حجة نورمان، ليستندا إلى كتاب آخر صدر لهما في عام 2024 بعنوان "الديمقراطية في فرنسا وأفريقيا.. تاريخ الإمبريالية الانتخابية"، أوضحا فيه أن فرنسا أرست أنظمة موالية لها في أفريقيا، ما منع "التغريد خارج سرب المصالح الفرنسية بفعل تلك التبعية السياسية" ليختار القادة الأفارقة الإبقاء على الوضع الحالي بدلاً من المجازفة بإطلاق تحولات قد ينتج منها "انتقام فرنسي".

علاوة على ذلك، فإن التأثير الأكاديمي الفرنسي حاضر في الفضاء الاقتصادي الأفريقي، حيث يهيمن على المشهد اقتصاديون أفارقة يتبنون نظريات "المدرسة التقليدية المحدثة" التي لا تنظر إلى العملة كأداة سيادية. وختم الثنائي هذه الفكرة بالإشارة إلى وجود بوادر جديدة قد ينتج منها موازين قوى مختلفة، كانتخاب بشير جمعة فاي رئيساً للسنغال، الذي لم يحظ بتزكية فرنسية. 

وفي سياق منفصل، أوضح بيجو وسيلا في حديثهما لـ"العربي الجديد" أن فرنسا تلعب دوراً خفياً عبر صندوق النقد الدولي لحثه على فرض شروط معينة على الدول الأفريقية ما يصب في مصلحة الشركات الفرنسية، دور متاح لعدة أسباب: أولاً الانسجام في الرؤى بين فرنسا وتلك المؤسسة الدولية، ولا سيما على صعيد خصخصة مؤسسات القطاع العام. يضاف إليها ثقل الكادر الفرنسي في مركز القرار داخل صندوق النقد الدولي.

يتوسع بيجو وسيلا من خلال المثال الآتي: عند تدني احتياطات الدول الأفريقية من العملات الخارجية، يفترض أن تقوم فرنسا بإقراضهم استناداً إلى آليات منطقة الفرنك الأفريقي. لكن وفقاً للباحثين، امتنعت فرنسا عن ذلك، ما عبّد طريق صندوق النقد لدخول المشهد الأفريقي وإقراض الدول المتعثرة وفق دفتر شروط.

 

تراجع التبادل التجاري

رغم الإجماع على عدم وجود جدوى اقتصادية كبيرة في العمل بأفريقيا، يشير تقرير فوكس – تابارو إلى انخفاض حصة فرنسا من السوق الأفريقية (حجم أعمال الشركات الفرنسية في أفريقيا) من 15% إلى 7.5% بين عامي 2000 و2020.

علاوة على ذلك، أشار تقرير صادر عن وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية في إبريل/نيسان 2019، بعنوان "الفرنسيون في أفريقيا: إلحاح طموح طويل الأمد"، أنه وإن كانت قيمة الصادرات الفرنسية إلى أفريقيا تضاعفت بين عامي 2000 و2017، من 13 إلى 28 مليار دولار. فقد ارتفعت بالمقابل قيمة ما استوردته أفريقيا من جميع دول العالم من 100 إلى 400 مليار دولار، ما يشير إلى تغلغل شركاء جدد في الأسواق الأفريقية. فالصادرات الفرنسية إلى أفريقيا تضاعفت مرتين، بينما تضاعف إجمالي الصادرات العالمية إلى أفريقيا أربع مرات.

وبين عامي 1994 و2022، بلغت نسبة صادرات دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى فرنسا 1.85%، بينما بلغت نسبة صادرات باقي دول العالم إلى فرنسا في الفترة نفسها 98.15%. وبلغت صادرات فرنسا إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء خلال تلك الفترة 2.44%. فيما بلغت صادرات باقي دول العالم إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء 97.56%، حسب قاعدة بيانات صندوق البنك الدولي.

الصورة
تغلغل شركاء جدد في الأسواق الأفريقية
تغلغل شركاء جدد في الأسواق الأفريقية (البنك الدولي)

واستناداً إلى البيانات الجمركية التي نشرتها وزارة الاقتصاد الفرنسية، في 11 إبريل 2024، شكل التبادل التجاري بين فرنسا ودول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 24.5 مليار يورو (11 مليار يورو في الصادرات و13.5 مليار يورو في الواردات) ما نسبته 1.9% من مجمل التبادلات التجارية الفرنسية في عام 2023. بعدما كانت في عام 2022 بنسبة 2% من إجمالي التبادل التجاري الفرنسي البالغ 26.7 مليار يورو، 15.9 ملياراً في الواردات و10.8 مليارات في الصادرات.

الصورة
تراجع التبادل التجاري بين فرنسا ودول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى
تراجع التبادل التجاري بين فرنسا ودول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية)

وبرأي المؤرخ الفرنسي المتخصص بالتاريخ الأفريقي، برنارد لوغان، فإن الدول الأفريقية، وبخاصة التي خضعت للاستعمار الفرنسي، "كانت شريكاً اقتصادياً هامشياً بالنسبة إلى فرنسا".

لوغان الذي عمل في جامعة جان مولان ليون 3 الحكومية، ثم في كلية سان سير العسكرية قبل تقاعده، يستند في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى الأرقام الواردة أعلاه. يضاف إليها التعويل الفرنسي على نسج علاقات اقتصادية مع نيجيريا وجنوب أفريقيا وسواها من البلدان التي كانت مستعمرات بريطانية، حسب لوغان، الذي تناول في جزء كبير من أبحاثه وكتبه الشأن الأفريقي والعلاقات الفرنسية الأفريقية، ويُعَدّ من الباحثين الذين لا يقاربون بسلبية ماضي فرنسا الاستعماري.

يتفق غرانفو مع لوغان لجهة تفوق المكاسب الجيوسياسية الفرنسية من مستعمراتها السابقة، على المكاسب الاقتصادية، يوضح أنه يقارب المسألة من زاوية الاقتصاد الكلي إذ لا ينفي مصالح كبرى الشركات الفرنسية مثل "توتال" في مجال الطاقة و"بويغ" في مجال الإنشاءات و"أورانج" في قطاع الاتصالات، مشيراً إلى تأثير تلك الشركات بمركز القرار الفرنسي، ما يوحي أن مصلحة فرنسا الاقتصادية لا تنفصل عن مصالح تلك الشركات.

بالعودة إلى العلاقة بين كبرى الشركات الفرنسية ومركز القرار في باريس، توقفت منظمة سورفي في أكثر من مناسبة عند دور رجل الأعمال فانسان بولوريه في الهيمنة على عدد من المرافق الأفريقية (موانئ، شبكة السكك الحديدية...) وتورطه في عدد من قضايا الفساد.

بولوريه مقرب من دوائر القرار الفرنسي وفقاً لغرانفو وأعماله موزعة، بحسب سورفي، على نحو 40 بلداً أفريقياً بفضل شبكة علاقاته الواسعة الممتدة من باريس إلى أفريقيا، ما يوحي أن تجاوزاته تحظى بمباركة رسمية فرنسية.

تستند منظمة سورفي، كما غرانفو، إلى الملفات القضائية التي تلاحق بولوريه، ولا سيما محاكمته أمام المحاكم الفرنسية لشبهة حصوله على حق استثمار مينائي "لومي" في توغو و"كوناكري" في غينيا، لقاء توفيره خدمات إعلامية لرئيسي البلدين، فور غناسينغبي وألفا كونديه، خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت في هذين البلدين عام 2010. صفقة صنفها المدعي المالي الفرنسي في خانة "الفساد".

الصورة
انسحاب القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر
انسحاب القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر (Getty)

 

مبادرات فرنسية أدت إلى خسارة مضاعفة

أمام هذه البيانات والدلائل التي تشير إلى تراجع النفوذ الاقتصادي والسياسي الفرنسي في أفريقيا، من الطبيعي التساؤل عن الأسباب. تقرير فوكس – تابارو، توقف بدوره عند إدارة فرنسا الخاطئة لعملية برخان العسكرية لمكافحة التمرد في منطقة الساحل الأفريقي: "فلم تكن القوات المسلحة المالية مؤهلة للتعامل مع هذه الأزمة، كذلك رفضت فرنسا وجود الجنود الماليين في بعض المناطق، تجنباً لتنفيذهم عمليات انتقامية. واقع ميداني دفعها إلى أخذ الأمور على عاتقها، ما ترك انطباعاً بمصادرتها للقرار الأفريقي". يتوقف التقرير عند الخطأ الفرنسي في التركيز على الحل الأمني، فيما كان يجب الأخذ بالاعتبار العوامل البنيوية، الاجتماعية – الاقتصادية، التي أدت إلى هذا النزاع ويفترض معالجتها كذلك.

في كتابها "إيمانويل ماكرون في الساحل: مسار الهزيمة"، قالت فارين: "فشلت فرنسا في تحقيق أهداف عملية برخان العسكرية، إذ لم تتمكن من القضاء على المجموعات الجهادية"، ما ولد تكهنات عن تقاعس فرنسي متعمد بغرض الهيمنة أكثر على أفريقيا. ترافق هذا مع ظهور تيار فكري أفريقي من "السياديين الجدد" المروج لضرورة "طرد القوى الاستعمارية القديمة من القارة، وعلى رأسها فرنسا" كي يصبح الأفارقة أسياد قرارهم، وفق الكتاب ذاته. 

تكمن خلفيات هذا التوجه "السيادي الأفريقي" في الأسس التي قامت عليها العلاقات الفرنسية – الأفريقية، بحسب ضيوف، قائلاً: "في عام 1959 استحدثت فرنسا وزارة التعاون التي أنيط بها ملف العلاقات الفرنسية – الأفريقية"، ويضيف: "عدم إسناد هذا الملف إلى وزارة الخارجية ولد شعوراً بالإهانة، وكأن باريس لا تساوي الأفارقة بباقي دول العالم، وهو شعور تنامى على مرّ السنوات".

بخلاف ضيوف، قارب لوغان بإيجابية عمل وزارة التعاون، بالقول: "كان العاملون في تلك الوزارة مدركين لطبيعة النسيج السياسي والاجتماعي الأفريقي ويتقنون اللغات المحلية. وعليه، نجحوا بإدارة المرحلة الأولى من العلاقات الفرنسية – الأفريقية. وهي مرحلة كان عنوانها إرساء مؤسسات الدولة. لكن منتصف الثمانينيات دخل جيل جديد معترك السياسة الفرنسية، ويتصف بكونه غير ملمّ بديناميكيات الدول الأفريقية ليصل به الحد إلى حل وزارة التعاون وإلحاقها بوزارة الخارجية عام 1998، ما أدى إلى تدهور في العلاقات"، معتبراً أن التدهور بدأ في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران الذي افتتح المرحلة الثانية من العلاقات الفرنسية - الأفريقية، مع مطالبته الأفارقة بإجراء إصلاحات سياسية، وهو ما تجلى في خطابه خلال القمة الفرنسية – الأفريقية عام 1990.

برأي لوغان، سارت فرنسا على هذا الدرب بنفَس استعلائي بعيداً عن الواقعية السياسية واستُكمِلَ بمحاولة فرض نموذج اجتماعي دون الأخذ بالاعتبار خصوصية البيئة الأفريقية، كانتقاد القوانين المحلية المتعلقة بالمثليين. لكن اصطدام باريس بالواقع جعلها تدفع الثمن مضاعفاً وفقاً للوغان، قائلاً: "من جهة أثارت تلك العناوين ريبة القادة الأفارقة، ومن جهة أخرى فشلت باريس في استمالة الرأي العام الأفريقي إذ لم تقترن دعواتها بأية إجراءات عملانية".

تقرير فوكس – تابارو وضع هذه المسألة في زاوية "ازدواجية المعايير"، مذكراً بدعم فرنسا لعمليات توريث الحكم في الغابون ومالي وتشاد. موقف تبنته نياغاليه باغايوكو، وهي باحثة فرنسية من أصول مالية، وترأس الشبكة الأفريقية لقطاع الأمن ASSN (منظمة مقرها في غانا، تنشط في مجال الحوكمة الديمقراطية والإصلاح الأمني في القارة الأفريقية)، قائلة، إن بعض المبادرات الفرنسية أدت إلى خسارة مضاعفة. على سبيل المثال، قرار إيمانويل ماكرون استبعاد القادة الأفارقة عن القمة الفرنسية – الأفريقية عام 2021 لصالح ممثلين عن المجتمع المدني الأفريقي، أغضب الزعماء الأفارقة من جهة ولم يلقَ استحسان الشارع الأفريقي، إذ تفتقد العديد من تلك المنظمات للشرعية والمصداقية.

 

لاعبون جدد في المشهد الأفريقي

بحسب باغايوكو، لم تبادر المؤسسات الرسمية الفرنسية إلى إجراء دراسة معمقة لفهم طبيعة المجتمع المدني الأفريقي. ويوافق الباحث المتخصص في الشأن الأفريقي أنطوان غلاسير، على ما قالته باغايوكو لجهة عجز فرنسا عن استيعاب المتغيرات الدولية ومواكبتها، ما يشكل برأيه سبباً لتراجع الحضور الفرنسي في أفريقيا. وهو ما عبّر عنه غلاسير في كتابه "أفريقيا – فرنسا: عندما يصبح القادة الأفارقة سادة اللعبة"، وأشار فيه إلى أن فرنسا ظلت عالقة في زمن الحرب الباردة، معتقدة أنها لا تزال شرطي أفريقيا، لم تفهم أبعاد العولمة ولا صعود الصين وروسيا وتركيا. بالتالي، الموضوع لا ينحصر بالماضي الاستعماري، بل بالتغيرات التي يشهدها العالم وتسعى أفريقيا لتجييرها من خلال تنويع شركائها.

يعطي غرانفو من جهته مثالاً توضيحياً لقصر النظر الرسمي الفرنسي: "في خضم تصاعد المشاعر العدائية لفرنسا بعد الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ظلت باريس مصرة على أنها نتيجة لتحريض من الكرملين وأذرعه الدعائية لتترسخ هذه القناعة بعد رفع أعلام روسيا خلال المظاهرات التي توجهت إلى مقار السفارات الفرنسية. "تأخرت باريس في إدراك وجود عوامل أفريقية داخلية لا علاقة لها بالتوتر الذي تشهده العلاقات الفرنسية – الروسية" يقول غرانفو.

وفقاً للباحث والمؤرخ الفرنسي البينيني أمزات بوكاري يابارا، لا تقارن الإمكانات الفرنسية الحالية بالصينية، حتى الأهداف الصينية تبقى أكثر طموحاً من الغايات الفرنسية، يضيف يابارا لـ"العربي الجديد"، ويتابع: "باتت فرنسا أقل توهجاً بسبب دخول لاعبين آخرين إلى المشهد".

يتطرق ضيوف بدوره إلى هذه النقطة، قائلاً: "القوى الصاعدة كالصين وروسيا تمتلك أفضلية على فرنسا، إذ لا تحسب في خانة القوى الغربية الاستعمارية ولا تزايد في مسألة الديمقراطية، ما يعطي انطباعاً بأنهم شركاء طبيعيون للدول الأفريقية". 

يتناول ضيوف تحولاً آخر في المشهد الأفريقي لا تزال فرنسا عاجزة عن استيعابه: "أنا من جيل احتك بالثقافة الفرنسية وتشبع بالنموذج الأكاديمي الفرنسي، لكن ليس هو حال الجيل الشاب الذي تتغلغل في أوساطه الثقافة الأنغلوساكسونية، حقيقة لم تدركها فرنسا بعد، وتظن أنها لا تزال المرجع والنموذج في أفريقيا". لا ينكر ضيوف أن هذا التوجه لم يبلغ مداه بعد، وهو ما يؤكده المؤشر العالمي لمهارات اللغة الإنكليزية لعام 2024، لكنها تبقى ظاهرة في طور التمدد، برأي ضيوف، الذي يستند في كلامه إلى الارتفاع التدريجي لأعداد الطلاب الجامعيين الأفارقة الذين يختارون مساراً أكاديمياً باللغة الإنكليزية.  

هذا العجز عن قراءة المتغيرات جرى التطرق إليه طويلاً في تقرير فوكس – تابارو عند الإشارة إلى "الغموض المؤسساتي، والذي أوضح": "تقليدياً، قصر الإليزيه هو الذي يرسم معالم السياسة الفرنسية في أفريقيا، لكن أطرافاً أخرى تشارك في القرار كوزارتي الدفاع والخارجية والمستشار العسكري الخاص لرئيس الجمهورية، بالإضافة إلى مختلف الوزارات المعنية كل منها بمجال عملها".

لكن "المشكلة ليست في تعدد الأطراف، بل في انعدام التنسيق والتعاون فيما بينهم وغياب ضابط إيقاع. على سبيل المثال، عند شن عملية عسكرية يتراجع حضور الدبلوماسيين لصالح الشخصيات العسكرية، ما يمنع من تشخيص المشهد بأبعاده كافة. يضاف إلى ذلك غياب السلطة التشريعية عن القرار، رغم كل جلسات النقاش والمساءلة والمتابعة الدقيقة"، وفق التقرير ذاته.

في هذا السياق يعطي لوغان مثالاً على التخبط وسوء التقدير الفرنسيين، قائلاً: "خلال عملي في كلية سان سير العسكرية، تسنى لي الاحتكاك بضباط أفارقة مستعدون للتعاون مع فرنسا. لكن باريس لم تلاقِهم في منتصف الطريق عبر إصرارها مثلاً على دعم الرئيس النيجري المخلوع محمد بازوم والتلويح باستخدام القوة، ما استفز الانقلابين، فيما كان المطلوب حيزاً أكبر من المرونة والبراغماتية".

 

هل فات القطار باريس؟

حيال كل هذه التحولات، يطرح تساؤل عن مستقبل العلاقات الفرنسية - الأفريقية، خصوصاً مع الحديث الدائم في الإعلام الفرنسي عن ضرورة مراجعة تلك السياسة لرسم خريطة طريق بأهداف معاصرة.

للرد على ذلك، قدم تقرير فوكس – تابارو، تصوراً عاماً عن الأسس المفترض أن تقوم عليها تلك العلاقات. أول ما جرى التطرق إليه هو الاستثمار الفرنسي في القوة الناعمة عبر تعزيز المؤسسات الفرنكوفونية، وأوصى بزيادة الاهتمام بالجانب الإعلامي، إذ لاحظ أداءً إعلامياً سيئاً في تصدير الإنجازات الفرنسية، إلى جانب ضرورة "عدم الخجل في الاعتراف بوجود مصالح لفرنسا في أفريقيا" والتصالح مع ماضيها الاستعماري، ما يقطع الطريق على الدعايات المضادة.

وطالب التقرير باعتماد مقاربة مختلفة للعلاقات مع الدول الأفريقية، منها الكف عن محاولة فرض النموذج الفرنسي واستيعاب الأولويات الخاصة بالأفارقة، ذات البعد الاقتصادي – الاجتماعي، إلى جانب ضرورة تبني نهج سياسي واضح كي لا تتهم فرنسا بازدواجية المعايير. كذلك طالب على نحو عاجل بمراجعة وإصلاح آلية منح التأشيرات التي "تغذي مشاعر السخط لدى مئات الآلاف"، مشدداً على أهمية مد جسور التواصل مع الأفارقة، ولا سيما الكفاءات العلمية. في الختام، اقترح التقرير توسيع الآفاق الفرنسية وعدم حصر التواصل مع المستعمرات السابقة والمضي في تعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية الانغلوساكسونية كجنوب أفريقيا وغانا ونيجيريا.

يوافق أمزات بوكاري يابارا مع ما ورد في تقرير فوكس – يابارا لجهة توجه فرنسا إلى تعزيز مصالحها مع الدول الأفريقية الانغلوساكسونية، لكنه لا يضع هذا التحول في خانة المرونة والبراغماتية بقدر ما يعتبره إدانة لفرنسا التي "فشلت في تنمية حديقتها الخلفية لتصبح شريكاً اقتصادياً". لكن نورمان لا يتفق مع تلك المقاربة التي تضمنها تقرير فوكس – يابارا، بقوله: "مراجعة فرنسا لسياستها الأفريقية هو قيد التداول منذ أكثر من 20 عاماً. وعليه، فإن المطلوب من الأفارقة ترتيب أولوياتهم وتوجهاتهم كي يبنى على الشيء مقتضاه".

يتفق ضيوف مع هذه الفكرة، لكنه يقاربها من زاوية مختلفة، قائلاً: "القطار قد فات الفرنسيين بعدما بات الأفارقة بالفعل أصحاب القرار". بالمقابل، يطرح غرانفو شرطاً إلزامياً لعلاقات فرنسية – أفريقية صحية، بقوله: "القطع مع العقلية الفرنسية الاستعمارية".

بالمقابل، وفقاً ليابارا، لم تفقد فرنسا نفوذها في أفريقيا الفرنكوفونية ولا تزال تملك العديد من أوراق القوة للتأثير في المشهد الأفريقي. فالفرنك الأفريقي لا يزال قيد التداول، والروابط الأمنية لا تتأثر كثيراً بالتقلبات السياسية، والأهم أن الماضي الاستعماري لا يُمحى بجرة قلم، وهو جزء من التاريخ المشترك بين الجانبين. "تاريخ لم تُطوَ كامل صفحاته بعد"، يقول يابارا، الذي شارك في إعداد كتاب "تاريخ فرنسا وأفريقيا: الإمبراطورية التي لن تموت"، الصادر في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2021، تناول فيه الهاجس الفرنسي من تراجع النفوذ في أفريقيا.

وهو هاجس أقلق باريس خلال الحرب الباردة، إذ كانت تخشى من تمدد النفوذ السوفياتي وحتى ما قبل نهاية الاستعمار وخشيتها من الإمبراطورية البريطانية المنافسة لها. بالرغم من ذلك "أظهرت فرنسا قدرة على التأقلم بما يحول دون موتها"، يضيف يابارا في كتابه الذي لا ينفي التحديات والصعوبات التي تعترض فرنسا، لكنه اعتبر أن العديد من الآراء تنظر إلى النفوذ الفرنسي في أفريقيا على نحو مجتزئ، وهو ما وُصِفَ "بتأثير العدسة المكبرة"، أي التركيز على جزء من الصورة وليس على المشهد بشموليته "ما يفضي إلى قراءة ظرفية فيما المطلوب تحليل بنيوي. ففي الماضي، جرى تهويل بعض الأحداث، لكن النتائج كانت أقل كارثية من المتوقع".