موت القائد... غياب الكاريزما وآثارها على التنظيمات والدول

27 فبراير 2025
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه القائد الجديد تحديات كبيرة بعد رحيل القائد الكاريزمي، مثل المقارنات المستمرة والضغوط للحفاظ على استمرارية المشروع، مما قد يؤدي إلى انكماش النفوذ كما في حالات تاريخية مثل عبد الناصر والسادات.

- يؤدي غياب القائد الكاريزمي إلى تداعيات اجتماعية وسياسية، مثل انشقاقات داخل التنظيمات، كما حدث مع حزب الله بعد رحيل حسن نصر الله، بينما تساهم المؤسسات الفعالة في استمرارية المشروع كما في تجربة حركة حماس.

- بناء المؤسسات ضروري لضمان استمرارية المشروع بعد رحيل القائد الكاريزمي، حيث يسمح بظهور قادة جدد واستمرار المشروع، كما يظهر في نموذج حركة حماس ونظامها الديمقراطي الداخلي.

منذ الخطاب الأول يقع القائد الجديد تحت وطأة مقارنات صعبة وتقييم دقيق، خاصة عندما يخلف زعيماً كاريزمياً هيمن لأعوام على تنظيمه أو دولته، وكان خلالها الرجل الأول حضوراً وتأثيراً في الداخل والخارج طوال حياته، التي ما إن تنتهي، حتى يصبح كذلك الأخير في مشروعه الذي قد يختفي تماماً، أو يتقزم في أفضل السيناريوهات، لكن المؤكد أن مكانة تنظيمه أو دولته التي تعتمد هذا النمط من الإدارة أو ما يمكن وصفه بعرض الرجل الأوحد ONE MAN SHOW، تنكمش داخل حدودها بعدما كانت ملء السمع والبصر والفاعلية في الإقليم.

تحسباً لهذه المقارنات التي تفاقمها مخاوف الأتباع والمناصرين، من التداعيات المحتملة للانتقال من عهد القائد الكاريزمي الذي في كثير من الأحيان لا يعرفون غيره، كثيراً ما نجد في الخطاب التأسيسي للجديد المفتقد إلى حضور وجاذبية سلفه عبارة أننا "ماضون على نهج الراحل"، وقد قالها الرئيس أنور السادات بعد تولي منصبه خلفاً للرئيس عبد الناصر والشيخ نعيم قاسم الذي تلا السيد حسن نصر االله في قيادة حزب الله اللبناني، لكن بالتأكيد ما يجري بعدها ليس كما كان قبلها، وهو ما يذكره المنظر الألماني لعلم الاجتماع ماكس فيبر، في توصيفه مفهوم "سلطة الكاريزما"، إذ يحاول القائد أو الزعيم الجديد الحفاظ على استمرارية الأداء الروتيني ومن ثم يكون أقل جرأة، وأكثر محافظة في ممارسته لسلطات سابقه التي يظل يوسعها وينميها طوال حياته لتنمو معها قوة دولته أو تنظيمه، ويتضح ما سبق عبر نموذج الدور القيادي الذي اضطلع به نصر الله في قيادة ما سمي بـ "محور المقاومة"، والتنسيق ما بين أطرافه العربية وطهران، بينما الأمين العام الجديد للحزب توحي خطاباته بالتركيز على الوضع الداخلي والانكفاء إلى الداخل متوارياً خلف الحكومة اللبنانية التي عليها "القيام بدورها في تحرير البلاد من جيش الاحتلال، وإعادة الإعمار"، وهي القضايا الأكثر إلحاحاً لدى جمهور الحزب.

كما يقولون "بالمثال يتضح المقال"، وثمة نماذج لافتة بعضها تاريخي مثل عبد الناصر والسادات وحجم نفوذهما وتأثيره في الإقليم الذي تراجع تماماً بمجرد وفاة الزعيم ليجري مسح مشروعه على يد خليفته الذي اختاره، أو كوبا فيديل كاسترو التي امتد تأثيرها العسكري والاقتصادي إلى أفريقيا وقبلها أميركا اللاتينية، بينما في عهد شقيقه الذي خلفه والرئيس الحالي تواجه انحساراً وأزمات كبرى تهدد بقاء النظام، كذلك فنزويلا الرئيس هوغو تشافيز بما له من حضور وتأثير في محيطه، بينما انهارت البلاد في عهد خليفته نيكولاس مادورو اقتصادياً واجتماعياً، وظهرت فيها مجاعة كبرى رغم أنها دولة بترولية، وجوزيف تيتو الذي انهارت دولته بوفاته وتفككت إلى ستة كيانات متصارعة.

وعلى مستوى التنظيمات والجماعات، حزب الله في عهد حسن نصر الله وخليفته الحالي الشيخ نعيم قاسم، والأمثلة كثيرة خاصة في سياق منظومة الاستبداد الذي تأتي منطقتنا على رأسه عالمياً بإجادة صناعة وإنتاج هذا النمط من القادة الذين يمسكون بكل الخيوط ويتبعهم جمهور مسحور ومذعور من كل شيء إلا من "عبادة الشخصية" بحسب المصطلح السوفييتي الذي صكه نيكيتا خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عام 1956، مديناً الستالينية.

لا شك أن الحياة في ظل الرجل الأول ليست سهلة على جميع الأطراف، ابتداء من الجمهور، الذي يرفع القائد الكاريزمي سقف تطلعاته كثيراً، ولا يمكنه غير ذلك، لأن الأمر مرتبط بصورته وإشعاع نفوذه على من حوله حتى يبدوا جميعاً إعجابهم بقدراته ويتناقلوها بينهم، لذا ما إن يغيب حتى ينتشر الخوف بينهم من خسارة المكتسبات أو النفوذ المرتبط بزعيمهم الراحل، وهو ما ينتقل إلى خليفته الذي عليه الحفاظ على ولاء الكوادر التنظيمية والأتباع، إلا أنه يعرف جيداً أنه بلا مؤهلات من حيث الفعل والقول إذ كانا حكراً على سابقه، فقد تبدأ الانشقاقات في الظهور لدى إحساس القيادات أن من صار في السلطة لا يزيد عنهم شيئاً ومن ثم يستهينون به، وهو ما واجهه أنور السادات، لذلك دخل صراعاً مفتوحاً ضد أتباع الرئيس عبد الناصر، وحسمه عسكرياً عبر قائد الحرس الجمهوري الفريق محمد الليثي ناصف، الذي ألقى القبض على كبار القيادات والمسؤولين في الدولة فيما عرف بثورة التصحيح في 15 مايو/أيار 1971.

على المقلب الآخر، يخلق رحيل القائد الكاريزماتي تداعيات كبرى توازي تأثيره الهائل خلال حياته، لكن أخطرها ضرب الهوية الجماعية وتراجع الشعور بالانتماء وتبعاته بما لها من مخاطر وتداعيات خاصة في غياب دولة المؤسسات مثل الحالات الآنف ذكرها، أو قلة فعاليتها في حالة التنظيمات كما بدا في أداء حزب الله مؤخراً، والذي ربما لو كانت به معارضة فعالة لقائده ورمزه الراحل، لما ضعفت قدراته التحليلية وتورط في قرارات مثل مواجهة الثورة السورية وقمعها أو الانشغال بالمصالح الذاتية على حساب الوضع الداخلي المتردي في لبنان، وهو ما حصر تأييده في الطائفة وانعكس على مختلف تصوراته ومخياله وخياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لكن ثمة نموذج لافت من إنتاج القادة الكاريزميين في منطقتنا أفقياً وليس رأسياً، إذ نجحت حركة حماس في إخراج العديد منهم بداية من المؤسس الشيخ أحمد ياسين ثم الدكتور عبد العزيز الرنتيسي والقادة إسماعيل هنية ويحيى السنوار وخالد مشعل، وهو عدد لافت لتنظيم حديث النشأة نسبياً، وربما يعود هذا إلى إجراء الانتخابات داخل التنظيم بشكل مستمر وتبادل الأدوار والمناصب بين أجيال مختلفة بحكم التصفيات التي تقوم بها دولة الاحتلال لمن على رأس العمل المقاوم ومن حوله، ما يستدعي وصول غيرهم إلى سدة القرار وامتلاكهم ناصية القول والفعل، ليخلقوا بأنفسهم هالة الحضور وجاذبيته والتأثير على الآخرين عبر منصة قضية تحظى بإجماع عربي وإسلامي وترمز من يعمل لأجلها.

في ضوء النموذج السابق يمكن القول إنه ليس حتمياً أن يؤدي هذا النمط القيادي إلى انهيار المشروع الذي يحمله القائد الكاريزمي، لكن الأمر مرهون بأن يستحوذ على تفكيره ما يمكن وصفه بـ"هوس" خلق المؤسسات وتفعيلها ضمن الدولة أو التنظيم، بما يسمح بظهور غيره ضمن حالة ديمقراطية حقيقية تستوعب كل الآراء حتى يتمكن هو قبل غيره من اتخاذ القرارات السليمة ويستمر مشروعه بعد وفاته أو يتطور للأفضل، ولا يتراجع إلى الوراء خطوات عديدة دون أي تقدم إلى الأمام مثلما نرى حولنا في عالمنا العربي منذ 70 عاماً.