ماذا يأكل الأردنيون؟... لحوم فاسدة ومواد منتهية الصلاحية
استمع إلى الملخص
- تتنوع أساليب التلاعب، مثل طمس تواريخ الإنتاج وتعليب مواد تالفة، مما يضاعف الأرباح على حساب صحة المستهلكين. في 2024، أتلفت بلدية إربد ثلاثة آلاف كيلوغرام من اللحوم والأسماك غير الصالحة.
- تواجه الجهات الرقابية تحديات كبيرة بسبب استخدام مستودعات سرية، ويُنصح المستهلكون بتجنب الشراء من البسطات غير المرخصة لضمان سلامة الأغذية.
يتلاعب تجار بما يستهلكه الأردنيون من غذاء، إذ تجري عمليات تغيير تواريخ صلاحية المواد الفاسدة، واستبدالها بأخرى جديدة، ومن ثم بيعها ضمن ما يعرف بمحال العروض الدائمة التي يقبل عليها الفقراء تقنيناً لإنفاقهم.
- بالكاد تمكن الخمسيني الأردني أحمد صالح الخولي من الوقوف على قدميه بسبب شدة ألم البطن الذي لازمه بعد ساعة من تناول علبة من سمك السردين في سبتمبر/ أيلول الماضي، ليعاني بعدها من ارتفاع في درجة الحرارة واستفراغ مستمرين، وهي أعراض الإصابة بالتسمم، كما يقول الطبيب العام أحمد صلاح، الذي شخّص حالته في عيادته الخاصة بمدينة الزرقاء، شرق العاصمة.
وبالرغم من نيله العلاج الملائم، بالإضافة إلى مغذٍّ لتعويض الفاقد من السوائل، كما قال صلاح لـ"العربي الجديد"، تفاقمت حالة الخولي في اليوم التالي، وعانى من إسهال شديد أدى إلى جفاف وترتب عليه إجهاد عضلة القلب، بخاصة أن الخولي مصاب بأمراض مزمنة كارتفاع ضغط الدم والسكري، ولديه شبكات (دعامات) في القلب، ما يجعل مناعته ضعيفة مقارنة بالشخص السليم، فأدخل إلى مستشفى الزرقاء الحكومي لتلقي العلاج، وما زاد الطين بلة أن الفحوص المخبرية التي أجريت له هناك واطلع عليها "العربي الجديد"، أثبتت إصابته بالأميبا نتيجة دخول الطفيل المُسبب إلى الجسم عبر السردين الملوث، بحسب تشخيص الأطباء الذين أشرفوا على علاجه.
وتعكس حالة الخولي جانباً من ظاهرة متنامية للاتجار بالأغذية الفاسدة، إذ سجل قسم الرصد بمديرية الأمراض السارية في وزارة الصحة 46 حادثة تسمم في عام 2021، تضرر فيها 424 شخصاً، وارتفع العدد إلى 47 حادثة عام 2022 تضرر فيها 326 شخصاً، وقفز العدد في عام 2023 إلى 103 حوادث، تسمم فيها 1080 شخصاً، بحسب ما وثقته المؤسسة العامة للغذاء والدواء (حكومية)، ضمن آخر تقرير سنوي أصدرته لعام 2023، مؤكدة أنه على الرغم من اتباعها نهجاً شاملاً للرقابة، فإن تلوث الأغذية قد يحدث خلال أي مرحلة أثناء تصنيع وتداول المواد الغذائية، ويترتب على ذلك حصول حالات التسمم.
محال العروض الدائمة
"رقدت في المستشفى أسبوعين وتعطلت عن عملي بسبب علبة من السردين التي اشتريت مجموعة منها بسعر مخفّض في عرض من مؤسسة تموينية حكومية"، يروي الخولي بانفعال، مؤكداً أنه "بمجرد العودة إلى المنزل من المشفى، تخلص من بقية العلب، فلم يفكر حينها سوى بسلامة باقي أفراد أسرته، ولم يخطر بباله أن يحتفظ بها لتقديم شكوى بعد تفاقم حالته الصحية".
مؤسسة الغذاء والدواء: تسمم 1080 شخصاً في 2023
وكغيره من الأردنيين محدودي الدخل، يقبل الخولي على شراء المعلبات وبعض احتياجاته من الأغذية المعروضة بأسعار مخفضة في العروض التجارية، كاللحوم والدواجن والأسماك والألبان والأجبان، أو مما يسمى محال العروض الدائمة، والتي تنتشر في الأسواق الأردنية، وتجد إقبالاً كبيراً، وفق ما تظهره جولات ميدانية في العاصمة ومدينة إربد شمالاً، وفي الزرقاء، ويقول المستهلكون إنهم يلجأون إلى تلك المحال لتقنين إنفاقهم، ولا يتوقعون أن يبيعهم التاجر بضائع فاسدة أو منتهية الصلاحية.
إلا أن ما تكشفه الحوادث سابقة الذكر تشي بعكس ذلك، وهو ما يؤكده الطبيب صلاح الذي يستقبل في عيادته شهرياً ما بين حالتين إلى ثلاث حالات مصابة بالتسمم الغذائي، ولكن عدد هذه الحالات أكثر بكثير في قضاء الظليل، شمال شرقي الزرقاء، وفق ما رصده خلال عمله في عيادة خاصة هناك قبل عام ونصف، وكانت تراوح بين 15 و20 حالة شهرياً، مرجعاً ذلك إلى ضعف الرقابة على المحال والأسواق في مثل تلك المناطق البعيدة عن مركز المدينة.
"ويعد التلاعب بتاريخ الإنتاج والصلاحية، التحدي الأكبر الذي تواجهه المؤسسة العامة للغذاء والدواء في الأسواق الأردنية"، بحسب إفادة المدير السابق لمديرية شؤون المناطق (مختصة بالرقابة والتفتيش) بالمؤسسة الدكتور هادي خيطان، مستدركاً بأن نسبة هذه التجاوزات لا تتخطى 1% سواء للمواد الغذائية التي يتم استيرادها أو تلك المصنعة محلياً.
وأكثر المواد الغذائية التي يتم التلاعب بها هي المعلبات، ويكون ذلك بواحد من أسلوبين، الأول يتمثل في طمس تاريخ الإنتاج لعبوات منتهية الصلاحية ثم يضاف تاريخ جديد لطرحها في الأسواق، والثاني تعليب مواد تالفة في منشآت محلية وإضافة تاريخ صلاحية جديد، وغالباً ما يكون تم استيرادها مجمدة وتفسد بسبب عدم حفظها بالطريقة المناسبة، يقول خيطان، ويضرب مثالاً بواقعة ضبط فرق الرقابة والتفتيش في مديرية المناطق 120 طناً من لحم سمك التونا المجمد، وتبين بعد المعاينة والكشف الحسي أنه فاسد وتنبعث منه رائحة كريهة إلى جانب تغيرات في لونه، رغم ذلك كان يجري العمل على تعليبه داخل إحدى المنشآت في العاصمة. ويؤكد أن المؤسسة في سبيل التغلب على مسألة التلاعب بتواريخ الصلاحية، تعكف على استحداث نظام لتتبع الأغذية منذ دخولها الأسواق وحتى وصولها للتجار إلى حين أن يتم بيعها.
ويقع تجار في فخ الخداع أيضاً، كما حصل مع بلال ملاح، الذي ابتاع أثناء الاستعداد لشهر رمضان قبل عامين علب لحم مُصنّع (مرتديلا)، من أحد تجار الجملة في مدينة سحاب الصناعية بالعاصمة، بقيمة 1850 ديناراً أردنياً (2610 دولارات)، وعقب ترتيبها بمعاونة شريكه في المستودع، فوجئا بانتشار لون ذهبي على يديهما، ما أثار استغرابهما، وتولدت شكوك لديهما دفعتهما لفحص المعلبات بتأنٍ، وإذ بطبقة من الدهان السطحي المشابهة للون العبوة الأصلي تنجلي ويتبين أنها كانت تخفي تاريخ صلاحية قديماً، جرى طمسه واستبداله بآخر لتصريف علب "المرتديلا" التي تبين من رائحتها ولونها بمجرد فتح واحدة منها أنها تالفة.
الصدفة وحدها، كما يقول التاجر ملاح كشفت التلاعب بالمادة الغذائية، وحمد ربه أنها لم تصل إلى أيدي المستهلكين، وما كان منه إلا أن أعاد البضاعة للتاجر وألزمه برد ماله، قائلاً إنه "بحكم تجربته، فإن التلاعب يحصل من قبل من أسماهم بتجار ضعاف نفوس ولديهم كميات كبيرة من المواد الغذائية التي شارفت على الانتهاء أو منتهية الصلاحية فعلا، يعاد تغليفها وتعبئتها مجدداً كالتمور أو المعلبات، خاصة أنه ليس من الصعب شطب تواريخ الإنتاج واستبدالها بتواريخ جديدة، وفي نفس الوقت تُخفَّض الأسعار أو "تُحرق" كما هو متعارف عليه، لتشجيع صغار التجار على شرائها وطرحها بالأسواق".
كيف يجري غش اللحوم؟
تتبع معد التحقيق بيانات المؤسسة العامة للغذاء والدواء، وفرق التفتيش والرقابة التابعة لبلديات المملكة، بشأن إتلاف كميات لحوم غير صالحة للاستهلاك، المنشورة على مدار عام، وكان أكبرها ما أعلنت عن ضبطه في يناير/ كانون الثاني الماضي بإتلاف 25 ألف كيلوغرام من اللحوم بالعاصمة جراء تغيير تاريخ إنتاجها، ما يؤكد أن ظاهرة التلاعب بما يتناوله الأردنيون مستمرة وآخذة بالتفاقم، وهو ما وثقه "العربي الجديد" عبر جولة ميدانية في الثامن عشر من مارس/ آذار 2025، رافق فيها فرق التفتيش بمديرية الشؤون الصحية والبيئية في بلدية إربد الكبرى، شمالي المملكة، وشملت محال بيع اللحوم والأسماك والدواجن في شهر رمضان الذي يشهد عادة زيادة في نسبة التلاعب بالأغذية على أنواعها نظراً لزيادة الطلب عليها من المستهلكين، كما يقول يحيى العمري، مدير دائرة الشؤون الصحية والبيئية في البلدية، والذي وقف ممسكاً بين يديه قطعاً من اللحم البقري "المتفحم"، نتيجة لتجميده وتذويبه عدة مرات وعرضه للبيع رغم كونه غير صالح للاستهلاك.
ولم يكن ذلك المشهد الوحيد الذي وثقته كاميرا معد التحقيق لممارسات صادمة وخطيرة، إذ ضبطت الفرق 848 كيلوغراماً من المواد الغذائية منتهية الصلاحية، و210 كيلوغرامات من الأسماك غير الصالحة للاستهلاك كانت مجمدة وجرى تذويبها وبيعها باعتبارها طازجة، وهو ما تأكدت منه فرق البلدية، "وهذا غش تجاري وتحايل مستمر تحاول الجهات المختصة مكافحته"، كما يقول العمري، موضحاً أن اللحوم ثلاثة أنواع، طازجة وتذبح في المسالخ، وأخرى مجمدة، والصنف الثالث مبردة، وعندما نقول: لحوم غير صالحة للاستهلاك البشري، فذلك يعني أنها لحوم منتهية الصلاحية، أو جرى خلط المبردة منها بالمجمدة وتذويب المجمدة وعرضها باعتبارها طازجة وإزالة تغليف اللحوم المجمدة، ما أدى إلى فقدان المواد الحافظة التي من شأنها حمايتها من التلف.
وخلال عام 2024 أتلفت فرق الرقابة في بلدية إربد ثلاثة آلاف كيلوغرام من اللحوم والأسماك غير الصالحة للاستهلاك البشري، من خلال جولاتها الرقابية أو بالاستناد إلى شكاوى المستهلكين التي تصل إلى المديرية، وبلغت خلال العام الماضي 713 شكوى.
ويمثل التلاعب بسوق اللحوم في إربد جزءاً من ظاهرة منتشرة في باقي مدن المملكة، وفق تقارير أعمال فرق الرقابة والتفتيش على الغذاء في مديرية شؤون المناطق، التي كشفت أن إجمالي كمية المواد الصلبة التي جرى إتلافها عام 2023 (تشمل اللحوم)، بلغت 882.316 كيلوغراماً، ووجهت 36 ألف إنذار لمنشآت غذائية بشأن تجاوزات، بينما أغلقت 543 منشأة. وخلال الثلث الأول من عام 2024، أُغلقت 249 منشأة لوجود تجاوزات حرجة كاستخدام مواد فاسدة ومنتهية الصلاحية، بالإضافة إلى إيقاف 1332 منشأة بشكل جزئي أو كلي إلى حين تصويب الخلل، وفق خيطان.
مستودعات تذويب اللحوم
تذاب لحوم مجمدة وتباع باعتبارها طازجة لتحقيق أرباح مُضاعفة
"ويختار المحتالون مخازن بعيدة عن أماكن محالهم لإجراء عملية التذويب تجنباً لاكتشاف أمرهم في حال فتشت أي جهة رقابية المحل، وللحيلولة دون إثارة انتباه الزبائن"، يقول عياش، مشيراً إلى أن اللحوم المجمدة المعاد تذويبها يتغير لونها ويصبح غامقاً، "إلا أن تمييزها ليس سهلاً، وغالبية المستهلكين لا يمكنهم ملاحظة التغيرات عليها".
وفي أروقة متجر مخصص لبيع الأسماك في مدينة إربد، وصل "العربي الجديد" إلى مستودع خلفي يحتوي على كراتين من سمك الفيليه المجمد المجهزة لتذويبها قبل عرضها للبيع باعتبارها طازجة، إلى جانب كميات من السمك المذاب والمرتب في سلات العرض، وتبدو عليها انبعاجات وتغيير في اللون، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر التصوير.
شكل آخر من التجاوزات يكشفه موزع لحوم مجمدة في محافظة إربد، فضل عدم كشف هويته حتى لا يُفصل من عمله في شركة تختص ببيع اللحوم المجمدة، وتبيع بضاعتها لمحال جزارة متخصصة ببيع اللحوم المذبوحة "طازجة"، وهو يوصلها بنفسه لأنها مهمته الأساسية، مشيرا أن الشركة تقدم خصومات كبيرة لمن يشتري منها بكميات، "وبلا شك فإن محال القصابة التي تشتري المجمدة ترمي إلى التلاعب باللحوم إما عبر خلطها بالطازجة، أو تباع باعتبارها طازجة لتحقيق ربح وفير" وفقا لقوله.
الغذاء والدواء تردّ
"لا يعد التلاعب باللحوم على أنواعها ظاهرة جديدة، وهي مستمرة حتى الآن" وفق ما يرصده مدير الشؤون الصحية في بلدية إربد الكبرى السابق محمود الشياب، حتى بعد مغادرته الخدمة التي استمرت 30 عاماً، مؤكداً على أنه يرى في الأسواق لحوما وأسماكا غير صالحة للاستهلاك ويمكنه معرفة ذلك عبر الفحص الحسيّ مستفيدا من خبرته الطويلة في هذا المجال، والذي شهد فيه على ضبط لحوم مجمدة بشكل متكرر في أحواض ساخنة معدة لتذويبها ليلاً، وفي الصباح تعرض باعتبارها طازجة، وحُررت بحقهم مخالفات وأُحيل المتورطون إلى المحكمة.
مشدداً على خطورة هذه اللحوم لسميتها العالية، لأنه من المفترض حفظها بدرجة حرارة 18 تحت الصفر، وعند تذويبها تصبح مرتعاً لتكاثر بكتيريا السالمونيلا والشيغيلا اللتين تتسببا في مشاكل واضطرابات معوية وإسهال وجفاف، قد تتطور مسببة الوفاة. وهو ما يؤكده الطبيب صلاح بتوضيحه أن البكتيريا الإشريكية القولونية والسالمونيلا تتكاثر في درجة حرارة الغرفة لدى التذويب المتكرر، وفي حال طبخ اللحم أو السمك بشكل جيد، تتدنى احتمالية انتقالها إلى الجسم، لكن يمكن أن تكون هذه البكتيريا عالقة في أدوات الطبخ والتجهيز والتقطيع الملوثة بها وتدخل إلى جسم الإنسان، عدا أن اللحوم المجمدة والمذوبة هذه فقدت قيمتها الغذائية، ومع ذلك، يشتريها الأردني بسعر مرتفع.
وسط هذه التجاوزات، يوضح الدكتور نزار مهيدات، مدير المؤسسة العامة للغذاء والدواء في رده على "العربي الجديد" أن المنشآت الغذائية المرخصة تخضع للرقابة والكشف الدوري للتأكد من تحقق كل الشروط الصحية، ويشترك في هذه العملية فرق رقابية من وزارة الصحة والغذاء والدواء والإدارة المحلية (البلديات)، إذ يجري التأكد من مطابقة المواد الغذائية للمواصفات والمقاييس الأردنية، وتُسحب عينات من الأغذية المتداولة في السوق لتحليلها وكذلك من المواد المستوردة، التي يمنع دخولها إلى الأردن إن أظهرت النتائج أنها غير مطابقة للمواصفة أو فيها أي خلل.
ومحليا، تركز الفرق الرقابية على الألبان والأجبان المنتجة في مصانع أردنية، لضمان عدم التلاعب بصلاحيتها، محذرا من الشراء من "البسطات" والأكشاك غير المرخصة وغير الخاضعة للرقابة والتي تكثر فيها التجاوزات كونها لا تطبق الاشتراطات الصحية.