قمع نشطاء البيئة... تكميم أفواه المدافعين عن الطبيعة في مصر

26 مايو 2025
استهداف النشطاء قوّض العمل البيئي في مصر (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تواجه المنظمات البيئية في مصر تضييقات حكومية وبيروقراطية أمنية، مما يعرقل المبادرات البيئية ويدفع الناشطين للتوقف أو مغادرة البلاد، كما حدث مع الناشط مهاب شريف.
- تفتقر الجهات الحكومية إلى الشفافية في المعلومات البيئية، مما يعيق مشاركة المجتمع في القرارات ويحد من فعالية العمل البيئي.
- تتداخل القضايا البيئية مع الأبعاد الاقتصادية والسياسية، مما يؤدي إلى تضييقات وإطالة أمد التقاضي، كما في قضية مصنع تيتان بالإسكندرية.

قوّضت الحكومة المصرية عمل جماعات البيئة المستقلة، رغم سلمية أهدافها وابتعادها عن كل ما يثير قلق الأجهزة الأمنية، التي تتذرع بالخوف على الأمن القومي من الاختراق، ما أسفر عن ثني الناشطين ووقف المبادرات وغلق المنظمات.

- يواصل الناشط المصري، مهاب شريف، رحلته في النضال البيئي، والتي بدأت مبكرا عام 2019 قبل مغادرته إلى كندا، بعد انضمامه إلى حركة "Fridays for Future" (مبادرة عالمية للحفاظ على المناخ)، مدفوعا بحماسه لتغيير الواقع في بلاده، التي تواجه مثل سائر دول العالم تهديدات بفعل التغير المناخي، ومع سلمية الهدف وابتعاده عن كل ما يثير قلق الأجهزة الأمنية، إلا أن طريقه لم يكن معبّدا في وطنه، إذ واجه مضايقات من الأجهزة الأمنية أثناء محاولته وزملائه الحصول على موافقات قبل تنظيم حملات توعوية ووقفات احتجاجية على تداعيات تآكل السواحل وارتفاع منسوب البحر في مدينة الإسكندرية.

أنهكت العرقلة المستمرة فريق شريف، ودفعت العديدين منهم إلى الانسحاب، خوفا ويأسا، ومع الوقت، وجد نفسه يعمل وحيدا، فنقل معركته إلى الفضاء الرقمي وحوّل صفحته على "فيسبوك" إلى منبر يبث من خلاله مقاطع مصورة وينشر المقالات المحذرة من خطر تغير المناخ على مصر، لكن كل ذلك بدا باهتا واصطدم بجدار من الصمت الرسمي وانعدام التفاعل الشعبي، وغياب المعلومات البيئية من مصادرها الأساسية، ما ثناه عن الاستمرار، ورغم انتقاله لاحقا إلى كندا، حيث يواصل نشاطه، بقيت في قلبه غصّة لأنه لم ينجح في إحداث التغيير الذي حلم به.

تعكس تجربة شريف صورة عن واقع العمل البيئي في مصر، والذي يتسم بالقمع والتضييق كما وصفته منظمة "هيومان رايتس ووتش" في تقريرها بعنوان "مصر: الحكومة تقوّض المجموعات البيئية"، وصدر في 12 سبتمبر/أيلول 2022، ليرصد تراجعا حادا في مساحة العمل المعني بالحفاظ على البيئة والمناخ منذ تولي حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في عام 2014، وتعرُّض الناشطين في هذا المجال لأساليب ترهيب تشمل الاعتقالات وقيودا على السفر، ما خلق جوا عاما من الخوف.

البداية من مكاتب الأجهزة الأمنية

"في مصر، يبدأ العمل البيئي من مكاتب الجهات الأمنية ووزارة الداخلية التي تتحكم فعليا في مصير أي نوع من العمل الأهلي، وقبل أن تنطلق أي جهة في مسارها، عليها أن تمر عبر حلقة طويلة من الموافقات الرسمية، يصل عددها إلى 13 جهة، هي بمعظمها أمنية، تعرض عليها كل وثائق ترخيص الجمعية قبل إعطائها صك العمل، ولا بد أن توافق على التمويل، كما أن الترتيب لإعداد أي بحث بيئي يبدأ بتحصيل الموافقات ذاتها، ثم تُطلب موافقات جديدة للسماح بنشره"، هكذا يصف مناخ العمل، الناشط أحمد عبد الكريم (اسم مستعار حفاظا على أمنه الشخصي)، بعد أعوام من التفاعل الميداني بدأت في 2010 مع جمعية محلية شارك من خلالها في تطوير خطط للحفاظ على الشعاب المرجانية، كما أسهم في تأسيس حركة مناهضة لقرار حكومي باستخدام الفحم مصدرا للطاقة في الصناعات كثيفة الاستهلاك، لكن هذه المسيرة توقفت بسبب الجدار البيروقراطي الأمني الذي يفرض شروطا خانقة جعلت العمل البيئي المستقل مسألة شاقة، وفق روايته لـ"العربي الجديد".

13 جهة، أكثرها أمني، تتحكم بعمل الجمعيات البيئية بمصر

العوائق لم تقف عند حد البيروقراطية، بل امتدت إلى الملاحقات الشخصية، يقول عبد الكريم: "عانيت كثيرا من التضييقات، مثل التفتيش في المطار أثناء العودة من السفر وزيادة أوقات الاحتجاز بدعوى فحص الأوراق ومراجعتها". في النهاية دفعته هذه التدخلات الأمنية المتكررة إلى العزوف عن أي نشاط ميداني داخل البلاد منذ عام 2016، رغم إيمانه العميق بضرورة العمل المحلي، ولكن الضغوط أقوى كما يقول: "نفسي أشتغل في مصر، لكن مع الظروف الحالية، هذا شبه مستحيل".

حالة عبد الكريم ليست استثناء، بل تعكس اتجاها أوسع لقمع العمل الحقوقي ومن ضمنه البيئي، لذلك ما زال حسام بهجت، المدير التنفيذي ومؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (غير حكومية)، يدفع ثمن نشاطه في الدفاع عن الحريات المدنية والعدالة الجنائية وحق الناس في بيئة نظيفة، وبدأت القصة في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، حين اعتُقل لمدة ثلاثة أيام بتهم تتعلق بنشر أخبار كاذبة تضر بالمصالح الوطنية، وفي عام 2016، تم منعه من السفر وتجميد أصوله لأن المبادرة أدرجت ضمن "القضية 173" المتعلقة بتمويل منظمات المجتمع المدني، والتي استخدمتها السلطات لتقييد عمل المنظمات الحقوقية.

 

الخوف على الأمن القومي

عمل الدكتور حسام محرم، في اختصاص التفتيش بوزارة البيئة لأعوام عديدة، قبل أن يتولى منصب مستشار وزاري سابقا، ومن خلال رحلته الحكومية، يرى أن تفعيل المجتمع المدني لا غنى عنه لمصر، إذ يعد الجناح الثالث للتنمية بعد القطاعين الحكومي والخاص، فلا بد من تشجيعه بدلا من تقييده، منتقدا الرقابة على العمل الأهلي التي تظهر بوضوح عند محاولة إجراء بحوث أو استقصاءات ميدانية، حول مواضيع تُعتبر "حساسة" من وجهة نظر الدولة، كما تزداد القيود لدى ارتباط بعض الجمعيات بجهات أجنبية، لتكون الذريعة "القلق من جمعها معلومات قد تُستخدم ضد الأمن القومي"، والمشكلة الأعمق، يقول محرم مستدركا، أن غياب الكفاءة الإدارية يصعب الموازنة بين تقييم العمل المسموح وما قد يشكل خطرا، ليتنامى الخوف من أن جهات أجنبية قد تجمع بيانات لمصلحتها، وما يفاقم الأمر كون مفهوم "الأمن القومي" في مصر غير واضح المعالم، بينما تسمح دول أوروبية بإجراء بحوث بحرية دون قيود، لأنها تمتلك الثقة في مؤسساتها وقدرتها على الاستفادة من المعرفة وحماية أمنها في آنٍ واحد. في المقابل، تُنتج الجامعات ومراكز البحوث المصرية كمّا هائلًا من الدراسات، لكن لا يلتفت إليها أحد ولا تستفيد منها الدولة، لذلك "ما نحتاجه هو توازن واقعي بين حماية الأمن القومي وتشجيع العمل الأهلي حلا لمشاكل البلاد".

يتفق بهجت مع ما سبق، لكنه صار على قناعة كما يقول في حديثه لـ"العربي الجديد"، بـ"أن المضايقات التي نعاني منها تدخل ضمن "سياسة عقابية" تستهدف الحركة الحقوقية بأكملها، وهو نهج متصاعد منذ عام 2014"، في محاولات منظمة للقضاء على العمل الحقوقي ضمن استراتيجية تهدف إلى تفكيك الفضاء المدني وإسكات الأصوات المستقلة، عبر الملاحقات القضائية الجائرة والمضايقات. وكنتيجة حتمية لهذه الممارسات، تقلّص عدد المنظمات الحقوقية المستقلة من 30 إلى خمس، بعدما أجبر معظمها على الإغلاق أو العمل من الخارج، بحسب تقديرات بهجت. كما أن هذه الحال أجبرت مؤسسات المجتمع المدني على أن تصرف نظرها عن المشاكل البيئية الحقيقية، مثل قضايا التلوث الناتج عن المصانع التي تمتلكها جهات سيادية وارتفاع نسب تلوث الهواء أو تلوث مياه النيل أو الصادر عن المصانع غير المرخصة والتركيز على قضايا صغيرة مثل إعادة تدوير القمامة والمخلفات الصلبة، بحسب الناشط عبد الكريم.

حجب المعلومات البيئية

لا تتعامل الجهات الحكومية مع المعلومات البيئية بشفافية رغم أنها بحكم طبيعتها ينبغي أن تكون متاحة للعامة، باعتبار أن المواطنين معنيون مباشرة بالمشاركة في القرارات التي تؤثر على حياتهم ومحيطهم، إلا أن الواقع، كما يرصده المحامي أحمد الصعيدي المتخصص في القانون البيئي وعضو برنامج الحقوق البيئية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، يكشف عن تغييب متعمد لها، ما يكرّس فجوة متزايدة بين المجتمع وصنّاع القرار في هذا الشأن، ومن أبرز الأمثلة على ذلك التغاضي عن دراسات تقييم الأثر البيئي للمشاريع الحكومية، إذ تصنف الأعمال من حيث تأثيرها على البيئة إلى ثلاث فئات هي (أ، ب، ج)، والأولى تشمل صناعات ليس لها أي أثر بيئي، أما الثانية هي مشروعات ذات أثر بيئي متوسط مثل مصانع الأسلاك، والثالثة أخطرها على المنظومة البيئية مثل مصانع الأسمنت والسماد وكذلك مشاريع التوسع في شبكة الطرق دون أي تقييم للأثر البيئي، ومن المفترض، بحسب الصعيدي، أن يعقد جهاز شؤون البيئة (يتبع وزارة البيئة) جلستي استماع مجتمعيتين لكل مشروع وتضم كل الأطراف المعنية التي يحتمل تأثرها من الأضرار البيئية قبل أن يصدر القرار بشأن المشروع، "وهذا للأسف يتم بشكل صوري"، ولا توجد منظمات أو مؤسسات بيئية تشارك في التقييم بل ويستثنى المتضررون والمعنيون، ولا يتم نشر الملخص التنفيذي لجلستي الاستماع، ما يقلص العمل الحقيقي.

أدت البيروقراطية إلى هروب المنظمات البيئية من البلاد

ما سبق يظهر جليّا في تهميش دور المنظمات البيئية وأصحاب المصلحة بالمناطق التي تشهد تطويرا للبنية التحتية بالعاصمة، لذا تمت إزالة 90 فدانا (353 ألف متر مربع) من المساحات الخضراء، تشمل 2500 شجرة مئوية عتيقة في مناطق متعددة، كما يقول المحامي الصعيدي، الذي خاض ورفاقه في مارس/آذار 2022 معركة قضائية دفاعا عن الأشجار والحدائق العامة التي تمحى دون دراسة تأثير هذه الإزالات على البيئة أو الصحة العامة، وفق ما جاء في أوراق الدعوى رقم 33167 المقامة ضد سبع جهات منها رئيس الجمهورية ووزير الدولة لشؤون البيئة.

الصورة
قضية قطع الأشجار (العربي الجديد)
قرار المحكمة في الدعوى رقم 33167 ضد إزالة المساحات الخضراء من مناطق بمصر الجديدة (العربي الجديد)

ورغم خطورة القضية التي قادتها المحامية هدى نصر الله، مديرة الوحدة القانونية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إلا أن محكمة القضاء الإداري رفضتها، معتبرة أن "قبول الدعوى رهين بتوافر شرط المصلحة الشخصية المباشرة وقيام شرط المصلحة بتوافر صفة المدعي بحسبان أن المصلحة والصفة متلازمتان، فلا تُقبل الدعوى إلا ممن له مصلحة شخصية مباشرة فيها". وتعلق نصر الله بقولها: "نحن لا ندافع فقط عن الأشجار، بل عن الحق في بيئة نظيفة، عن حق الناس في التنفس". والأمرّ، أن عملية التطوير ترافقت مع استغلال تجاري للمساحات تحت الجسور (الكباري) في مصر الجديدة، مثل إنشاء استراحات صغيرة "كافتيريات" أو مطاعم وكافيهات، فوق المساحات الخضراء عن طريق تأجير أجزاء من الحدائق، مثل ميدان قصر عابدين الواقع في قلب القاهرة، وهو ما وثقه الصعيدي في ورقة بعنوان "حتى لا يزول الأخضر"، وشارك في إعدادها لصالح المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.

تضيف المحامية نصر الله أن القضايا البيئية لها أبعاد اقتصادية لذلك تقابل بالتضييقات وتستغرق سنوات طويلة، مثل إجراءات التقاضي ضد مصنع تيتان (مصنع إسمنت بورتلاند) في منطقة وادي القمر في الإسكندرية، حيث استخدم المصنع الفحم كوقود من دون الالتزام بالمعايير البيئية، مما أدى إلى تلوث الهواء وتضرر صحة السكان الذين تقدموا بشكوى في أغسطس/آب 2015 بحسب ما جاء في خطاب حصل عليه "العربي الجديد" موجه من جهاز شؤون البيئة بالإسكندرية إلى المستشار رئيس نيابة الدخيلة غربي المحافظة، مؤكدا أنه بعد التفتيش على المنشأة تبين أنها تخالف أحكام المادة 43 من قانون رقم 4 لعام 1994 والمعدل بالقانون رقم 6 لعام 2009 وتنص على أن "يلتزم صاحب المنشأة باتخاذ الاحتياطات والتدابير لعدم التسرب أو انبعاث ملوثات الهواء داخل مكان العمل إلا في الحدود المسموح بها"، ومثلت المبادرة المصرية المتضررين أمام القضاء بصفة الوكيل عنهم في القضية رقم 8815 لسنة 70، وبعد أعوام صدرت أحكام قضائية بتعويض المتضررين كان أولها في 7 نوفمبر 2023.

الصورة
وثيقة خاصة /مصنع تيتان اسكندرية
استخدام الفحم كوقود يخالف المعايير البيئية (العربي الجديد)

لكن خلال سنوات التقاضي الطويلة، واجهت القضية منعطفات كبيرة حتى أن أعمار الشاكين تغيرت، فمثلا تحول من كانوا أطفالا عند رفع الدعوى ويعانون الأمراض الناجمة عن التلوث إلى أفراد تتجاوز أعمارهم السن القانوني، ما غير مسار إجراءات التقاضي، ليصار إلى الاستناد لقانون البيئة بدلا من قانون الطفل الذي يأخذ بعين الاعتبار مصلحة الطفل كأولوية قصوى، في حين أن قانون البيئة تختلف منطلقاته وآليات علاجه للمشكلة، وفي الوقت ذاته يأخذ القانون بعين الاعتبار حماية الاستثمار، "لذا للأسف تم حفظ الشكاوى وغض الطرف عن معاناة الأهالي في مقابل استمرار الوضع كما هو"، تقول نصر الله، التي لا تتفق مع ما انتهى إلى المسار القانوني :"فاللجوء إلى القضاء لم يكن بغرض حصول المتضررين على تعويضات بل إجبار الشركة على الالتزام بتطبيق الاشتراطات البيئية، خاصة أن أي تعويضات للمتضررين لن ترمم خسائرهم الصحية كما أن تلك المبالغ لا تمثل سوى "ملاليم" بالنسبة لأرباح الشركة".