عن مقاربات فاسدة في مقاومة الاحتلال مصرياً وفلسطينياً 

20 مارس 2025
لوحة تُصوّر إعدام المقاومين الهنود على يد الاحتلال البريطاني (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أثار عز الدين شكري فشير الجدل بمنشور ساخر حول المقاومة المسلحة، محذراً من حروب لا يمكن تحمل تبعاتها، وداعياً لمراجعة أساليب المقاومة غير المسلحة.
- يعارض فشير تاريخياً المقاومة المسلحة، مستشهداً بتجربة أحمد عرابي، ويفضل الخضوع للواقع، متجاهلاً تعقيدات الصراعات الكولونيالية وتجارب المقاومة التاريخية.
- يعيش فشير في الولايات المتحدة، مما يثير تساؤلات حول موقفه من المقاومة المسلحة، وتعكس آراؤه أزمة النخب المصرية والعربية في تقديم تحليلات متماسكة للواقع.

بخفة مفرطة تلائم سطحية العوام لا عمق النخب، برز أستاذ العلوم السياسية عز الدين شكري فشير، في ثياب الساخرين من فكرة المقاومة المسلحة، عبر منشور أسماه "من دليل إرشادات المقاومة المسلحة للأولاد والبنات"، وعلى اعتبار أن ما تفضل به يشكل إضافة وإثراء للنقاش العام وإنقاذاً له من براثن الجهل والتطرف، ألقى الرجل علينا وصاياه الخمس، قائلاً "لا تبدأ حرباً وتنتظر من عدوك ألا يقاتل، ولا تبدأ حرباً وتنتظر من عدوك أن يقاتل بالطريقة التي تريدها، أو وفقاً للقانون، ولا تبدأ حرباً لا تستطيع إنهاءها، ولا تبدأ حرباً لا تستطيع حماية مدنييك من آثارها، وباختصار لا تبدأ حرباً لا تستطيع تحمل تبعاتها، والجماعة بتوع "أمال عايزهم يعملوا إيه؟"، والجماعة بتوع "ما هو من غلبهم": يرجى مراجعة الفصل الخاص بإرشادات المقاومة غير المسلحة، والجماعة بتوع "بس هم أعادوا القضية إلى الصدارة"، والجماعة بتوع "المقاومة تنتصر": يرجى مراجعة الطبيب فوراً".

يحمل فشير ألقاباً عديدة، فإلى جانب عمله الأكاديمي محاضراً أول في قسم دراسات الشرق الأوسط لدى كلية دارتموث في الولايات المتحدة الأميركية منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2019. سبق له العمل سكرتيراً أول في السفارة المصرية بإسرائيل حتى عام 2001، ومن بعدها انتقل للعمل مستشاراً سياسيّاً لمبعوث الأمم المتحدة في الشرق الأوسط في القدس، كما أنه روائي وكاتب، وغيرها من الخبرات الشخصية التي لا يبدو لها أثر في تقييمه "السوشيلي" شديد التهافت في تناوله لأفكار كبرى مثل لماذا وكيف ومتى تقاوم الشعوب محتليها؟ وطبيعة ونوع الاحتلال الذي يواجهه الفلسطينيون وأدواته في الهيمنة التي لا بد أنه احتك بها خلال عمله السابق، وهي أسئلة سبق أن أجاب عنها مرات بلا عدد، قبل العرب وغيرهم، إسرائيليون بأفعالهم وتصريحاتهم وكتبهم، سواء من جنود المشروع الاستيطاني الجاري بكل همة لاقتلاع ما تبقى من فلسطين، أو من غادروه بعد قناعتهم بأن ما يجري هدفه النهائي التطهير العرقي للسكان الأصليين الذين جربوا المقاومة غير المسلحة فقتلهم جيش الاحتلال بالعشرات أو تسلى جنوده باستهداف مفاصل أطفالهم المشاركين في تلك الفعاليات التي يبدو أن فشير يتغافل عنها، كما أن من يقاومون حالياً سبق لغيرهم أن وقعوا اتفاقيات السلام فالتهم العدو أرضهم، وما تبقى حوله إلى معازل تضيق بأهلها ويحاصرها بحواجز وبوابات جعلت منها سجوناً كبرى في الهواء الطلق.

مداً للخط على استقامته وبحثاً في سياق أفكار المتكلم يتضح أنه يرفض تاريخياً مقاومة الاحتلال حتى داخل بلده، فواحد من تعليقاته المكثفة وصف فيه القائد العسكري والزعيم المصري أحمد عرابي بأنه "من أتى بالإحتلال الإنجليزي ولم يكن يقاومه وفشل فشلاً ذريعاً في مواجهته بما يستحق عليه المحاكمة"، وهي ذات الحجج التي راجت وقتها على يد مؤيدي الخضوع والتبعية الباحثين عن تأقلم مع كل "واقع" والاستفادة منه متناسين، كما فشير، أن ما يطلق عليه مجازاً "الثورة العرابية" ليست سبب احتلال مصر، الذي كان مخططاً له من قبل ذلك بكثير ضمن صراع كولونيالي بين باريس ولندن اشتعل في القرن الثامن عشر، فبريطانيا سبق أن أرسلت حملة بقيادة الميجور جنرال ألكسندر ماكنزي فريزر عام 1807 لاحتلال مصر وتنصيب دمية تابعة لها لا تختلف كثيراً عن الخديوي توفيق الذي ثار عليه الشعب المصري بقيادة عرابي بعد 74 عاماً من تلك المحاولة، طلباً للحياة النيابية الدستورية ورفضاً للتمييز العنصري ضد سواد المصريين المنهوبين والمحتقرين من جانب الطغمة الحاكمة التي أفقرت البلاد والعباد جراء استدانتها أموالاً طائلة أنفقتها بلا حسيب ولا رقيب. 

قبل ذلك تعرضت مصر للاحتلال الفرنسي (1798) المتشابه في وحشيته وإحلاليته مع الإسرائيلي، ومن ذلك حرق وذبح أهالي قرى بكاملها وغير ذلك من الفظائع التي نساها المصريون المحدثون، ومن المفارقات أن تعداداً سكانياً جزئياً أجري وقتها وتوصل إلى تقدير عدد سكان مصر بحوالي 2.5 مليون، أي عدد الغزيين الحالي ذاته، فكم كان عدد ضحايا حكومة "جمهورية مصر الفرنسية" كما كان يطلق عليها في ذروة بروباغندا شعارات "الحرية والمساواة والأخوة"؟ نعم كما توقعت ما يفوق الخمسين ألفاً وقرابة 15 ألف مصاب ومعاق، بينما تذهب الدكتورة ليلى عنان في كتابها المهم "الحملة الفرنسية في محكمة التاريخ" إلى أن الضحايا المباشرين وغير المباشرين يصل عددهم إلى 300 ألف مصري.

لذا وفقاً للمنطق "الفيشري" ما كان يجب على المصريين أن يقاوموا الفرنسيين، وعليهم أن يستسلموا أمامهم بسبب فارق القوة المهول وعدم القدرة على تحمل تبعات ما نتج عن ثوراتهم، وبالتأكيد وقتها كان هناك من يقول الحجج ذاتها التي يرددها اليوم فشير وتيار لا ننكر أن له مؤيديه في كل عصر وحين بعضهم عبر حجج دينية من قبيل "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، والبعض الآخر يتذرع بالسلامة حتى لو كانت بلا كرامة ونهايتها الندامة، لكن أجدادنا المشتركين، وهو من مدينتي المنصورة، كان لهم رأي آخر، فقد نظموا مقاومة كبيرة في إقليم شرق الدلتا الذي اشتعل بثورات مستمرة، ضمن حركة واسعة من النضال والمقاومة الشعبية بطلها الفلاح المصري البسيط، أثمرت بعد ذلك عن ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد آلة عسكرية رهيبة حرقت وقتلت الآلاف من المصريين عبر قصف مدفعي شبهوه بيوم القيامة، في مشهد يعيشه اليوم الغزيون الذين يواجهون العدو ذاته في معركة تعد امتداداً لمحاولة لم تتوقف منذ قرنين سعياً للهيمنة على المنطقة ونهب أرضها ومواردها. 

بما أن الدكتور عز الدين يعيش في أميركا، ويدرس في جامعاتها، هل يمكن أن يسأل طلابه عن جدوى وأهمية وكيف كان يمكن أن يقاوم الآباء المؤسسون الاحتلال البريطاني دون عنف؟ هل كان شعارهم الحرية أو الموت، يحتاج إلى أن يراجعوا الأطباء مثلما يطالبنا؟ فقد كانوا مجرد مليشيات غير مدربة ويعانون نقص التسليح والتمويل، بينما البريطانيون يمتلكون جيشاً محترفاً وأسطولاً إمبراطورياً بحرياً هو الأقوى عالمياً وموارد اقتصادية ضخمة، لكنهم قاموا متسلحين بـ"الأمل المتعارض مع حسابات العقل" والاقتباس من رواية لفشير بعنوان "باب الخروج"، تعكس وغيرها من إنتاجاته الفكرية، أنه عاش تجربة حياتية ثرية وحصل على تعليم متميز لم ينله كثير من المصريين، لكنّ آراءه المتهافتة عقلاً ومنطقاً توضح جانباً من أزمة النخب المصرية والعربية إن شئت، غير القادرة على صياغة تقديرات متماسكة لواقعها عبر حجج ومنطق سليمين، وبدلاً من ذلك يستسهلون لوم الضحية التي تشبههم ومن دمهم، فعليها أن تموت بصمت ولا تزعجهم، عوضاً عن مواجهة القاتل التي قد تكلفهم مناصبهم أو عملهم، وفي زمن ترامب قد يصل الأمر إلى ترحيلهم والتنكيل بهم وهو لا نتمناه لأحد.