عن برنامج صاروخي عربي دمرته إسرائيل

19 يونيو 2025
وأدت هزيمة 1967 برنامج تصنيع عسكري مصري طموح
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعكس أسماء العمليات العسكرية هوية الحكومات، مثل اختيار إسرائيل لأسماء ذات دلالات دينية لحشد الدعم، بينما استخدمت أسماء مستوحاة من الأساطير في الماضي.
- في الستينيات، حاولت مصر تطوير برنامج صاروخي بمساعدة خبراء ألمان، لكن المشروع واجه عقبات مثل اغتيال العلماء وضغوط سياسية، وتوقف بعد هزيمة 1967.
- تسعى إسرائيل وأمريكا وأوروبا لمنع تطوير القدرات العسكرية في المنطقة، بينما نجحت دول مثل باكستان في تحقيق أهدافها النووية، وتواجه الدول العربية تحديات في هذا المجال.

للدول في أسماء عملياتها العسكرية منطلقات تعكس هوية حكوماتها وأيديولوجيتها المسيطرة على رؤى وخطاب وقرارات مسؤوليها. عادة ما تتكون من كلمتين تُختاران بعناية، عبر انخراط من أعلى المستويات القيادية، وقد كان ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني من الشغوفين برمزية تسميات المعارك الكبرى فاختارها بنفسه، طالباً من مساعديه قبل اقتراحها، الاعتماد على مبادئ توجيهية لانتقائها، أهمها ألا تكون كلماتٍ عادية تُستخدم في سياقاتٍ أخرى، فيُمكن استخدام أسماء أبطال العصور القديمة، وشخصياتٍ من الأساطير اليونانية والرومانية، ومن هذه المدرسة جاء دافيد بن غوريون؛ أوّل رئيس وزراء لإسرائيل، صاحب قرار عملية "ديموقليس" التي استهدفت علماء وفنيين ألماناً عملوا في البرنامج المصري لتصنيع الصواريخ الباليستية خلال ستينيات القرن الماضي.

تحاكي رمزية الاسم اليوناني للعملية، أسطورة تدور قصتها حول الخطر الدائم والوشيك الذي يهدد شخصاً ما، حتى في لحظات القوة أو الرفاهية، واختارته وقتها حكومة علمانية (تولى بن غوريون المنصب من 1955 وحتى 1963)، إذا ما شئت مقارنتها، بالحكومة الإسرائيلية الحالية بتصورتها المسيحانية المتطرفة وأفكارها التوراتية المتشددة المتبدية في اسم "الأسد الصاعد" للعملية الجارية منذ فجر الجمعة الماضي ضد إيران، كما سابقه مثل "عربات جدعون" وغيرها من الألقاب ذات الحمولات الدينية والعاطفية الموجهة لحشد الجبهة الداخلية والحفاظ على تأييد المسيحيين الإنجيليين المتطرفين المتنامي في الإدارة الأميركية، فكان استغلال بنيامين نتياهو الإصحاح 23/24 من العهد القديم ونصه القائل "شعب كالأسد يقوم، وكالليث يشرئب، لا ينام حتى يأكل فريسته ومن دم ضحاياه يشرب".

ثمة فوارق بين الحدثين والبرنامجين المصري والإيراني، لكن بينهما أمور مشتبهات، هذه المرة ذريعة العدوان على طهران أنها "طورت صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية وضرب إسرائيل في دقائق"، بينما قبل أكثر من ستين عاماً قالوا إن "الصواريخ المصرية جرى تطويرها لاستخدام النفايات المشعة والحصول على رؤوس حربية نووية". ولما تبين وهن الكذبة كان الادعاء بوجود خطط لتطوير رؤوس حربية كيميائية وبيولوجية ومجهزة بالغاز لهذه الصواريخ وهي كلها ترهات تكشف زيفها الشهادة النادرة والوحيدة الموثقة (لماذا؟!) على لسان أحد المشاركين في المشروع، الضابط محمد ضيائي نافع المكلف بالعمل في مكتب نائب القائد الأعلى للمشروعات الحربية الخاصة لتأمين مشروع الصواريخ والطائرات (هذه قصة أخرى) والخبراء الألمان القائمين عليه في عام 1962.

الصورة
الغلاف

في كتابه الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في عام 2007 يقول الضابط نافع، إنه تردد في الكتابة لحساسية الموضوع، ولكنه حسم أمره بعدما لم يجد أي كتاب في دار الكتب المصرية حول تلك الصناعة (تلك طامة أخرى)، ولأسفه الشديد على ما انتهت إليه تلك المشاريع العملاقة وما بذل فيها من جهد وما أنفق عليها من أموال، وما كان عليها من آمال، خاصة أن الجيوش الحديثة أصبحت تعتمد في المقام الأول على الطائرات والصواريخ، ومن هنا قررت القيادة السياسية في ذلك الوقت المضي قدماً في مشروع تصنيع محلي بالاعتماد على خبراء ألمان سبق أن عملوا في مشروع تصنيع صاروخ V-2  الباليستي الأول من نوعه عالمياً، والمستخدم في قصف بريطانيا وفرنسا وبلجيكا خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد انتهائها انتقل بعضهم إلى دول مثل الولايات المتحدة عبر عملية Paperclip وترجمتها "مشبك الورق" ومضى آخرون إلى منافسها الاتحاد السوفييتي، وبين الطرفين كانت مصر "عدم الانحياز" ولديها برنامجها الخاص، الهادف وقتها إلى مواجهة إسرائيل عسكرياً من دون الاعتماد على أي من الطرفين.

منذ اليوم الأول لعمله عرف نافع، أمد الله في عمره إن كان على قيد الحياة، بمحاولة اغتيال فاشلة استهدف خلالها الموساد، كبير الخبراء الألمان والعالم البارز، فولفغانغ بيلز (Wolfgang Pilz)، بواسطة قنبلة بريدية في نوفمبر/تشرين الثاني 1962 أدت إلى إصابة سكرتيرته وقتلت خمسة أشخاص في مكتبه، وسبقتها أخرى استهدفت هاينز كروغ (Heinz Krug) وكان يدير شركة وهمية مصرية تعمل في ميونخ على تزويد مصر بالمعدات العسكرية، لكنه اختفى في سبتمبر/أيلول 1962، ويُعتقد أنه قُتل على يد الموساد، بينما فشلت محاولة اغتيال هانز كلاينفاختر (Hans Kleinwächter) عالم الصواريخ المتخصص في توجيهها ضمن مشروع V-2، إذ استُهدف في فبراير/شباط 1963 لكن محاولة اغتياله انتهت لحسن الحظ بسبب عطل في السلاح، واستمرت الضغوط عبر إرسال طرود مفخخة للعملاء وعائلاتهم بواسطة جاسوس ألماني يدعى فولفغانغ سيغموند لوتز، كان قد انتقل إلى القاهرة واندمج وسط نخبتها وجمع معلومات حول العاملين في المشروع من خلال حفلات استمر في إقامتها بفيلته إلى أن ألقت المخابرات المصرية القبض عليه في 5 مارس/آذار 1965.

لم تتوقف التهديدات ووصلت إلى عائلات العلماء لإقناعهم بالعودة إلى أوروبا حتى أنه وقعت محاولة اختطاف لهايدي ابنة البروفيسور جيرك الرجل الثاني في المشروع واليد اليمنى للبروفيسور بيلز والعشرات من محاولات الترهيب داخل مصر وخارجها، مما أثر على قرارات بعضهم بمغادرة مصر، لكن المشروع استمر إلى أن وقعت هزيمة يونيو 1967 الوائدة لأحلام عديدة أجهزت على اندفاعة مصرية في مجالات كالتصنيع العسكري وتراجعت أهميته وإمكانياته فليس وقته حتى "نحرر الأرض" ومن وقتها لم تعد مرة ثانية.

بين ثنايا الشهادة تكتشف أن القطاع الخاص المصري كان ينتج لصالح القوات الجوية صواريخ عرفت بـ"فاب 12"، لكن التأميم الناصري وتبعاته القاتلة للاقتصاد وصلت إلى المؤسسة واستولت على مصنع سيرفا (الشركة المصرية لصناعة الصواريخ ذات الطيران السريع)، وسمي بعدها بمصنع 333 وفيه عمل الخبراء الألمان والمهندسون المصريون على المشروع، كما أن الإعلان في يوليو/تموز (ذكرى الثورة) عن إطلاق أول صاروخ مصري تم دون وضع خطط تأمين كافية للمصريين أو الألمان، كما يقول الضابط نافع، وهذه معضلة عدم الانتباه إلى التفاصيل الدقيقة ورسم الخطط المتكاملة بين الجهات المسؤولة عن تلك المشاريع الحساسة، وترافق ذلك مع استعجال (كالعادة) أحاط بكل ما يخص المشروع كلما حلت ذكرى ثورة يوليو 1952 التي جاءت بالفريق الحاكم وقتها، لذا فشلت بعض تجارب الإطلاق وفي إحداها أصيب كبير خبراء منطقة التجارب الألماني، ما أصاب العاملين بالإحباط وخيبة الأمل، وتفاقم المشكلات بسبب قرارات سياسية مثل اعتراف مصر بألمانيا الشرقية، فأصدرت حكومة ألمانيا الغربية نداء للعلماء بالعودة إلى بلادهم وترك العمل في مصر وأعلنت عن فرص بديلة لهم، ليتوقف المشروع خلال عام 1969 خاصة بعد الضغوط السوفييتية والتأثير البالغ على الصناعة الحربية، وكما يقول الفريق سعد الدين الشاذلي للضابط نافع كانت قيمة الصاروخ الروسي ربع تكلفة المصري.

ضمن صفحات الكتاب العديد من التفاصيل الهامة لا تكفي لها هذه السطور، وما يستدعي التأمل في ما وثقه من أحداث هو كيف أن ما يجري اليوم في طهران امتداد لما سبق أن تعرضت له مصر في الستينيات والسبعينيات، ثم البرنامج النووي العراقي عام 1981، والبرنامج النووي الليبي في عام 2003، والبرنامج النووي السوري عام 2007، على يد حكومات إسرائيل المتوالية وأميركا وأوروبا من ورائها، اعتماداً لعقيدة عدم السماح لأي دولة في المنطقة بتهديد التفوق النوعي الحربي للإسرائيليين، وهذا وإن كان طبيعياً من العدو، لكن غير المنطقي هو عدم النهوض بعد السقوط والاستسلام بدون التعلم من إصراره على الوصول إلى هدفه مهما كانت التضحيات، وليس بمفرده، فالباكستانيون وقد مر عليهم أنظمة عديدة وانقلابات عسكرية وأزمات اقتصادية متوالية لم يستسلموا ويتراجعوا عن حلمهم في امتلاك برنامج صاروخي ونووي حتى نجحوا في الوصول إليه بعدما رفعوا شعار "سنأكل العشب لو كان الثمن تصنيع القنبلة"، بينما نحن نفسنا قصير وطموحاتنا محدودة سرعان ما نتخلى عنها.