سورية والخروج من حالة "البين بين"

13 مارس 2025
تحتاج سورية إلى الخروج من حالة اللايقين (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد سقوط نظام بشار الأسد، تواجه سوريا تحديات في الانتقال من الثورة إلى بناء الدولة، مع استمرار عقلية الثأر والفوضى مما يعيق الاستقرار.
- تمر سوريا بمرحلة "المجاز" أو "البين بين"، حيث لم تكتمل عملية الانتقال، وتحتاج إلى ضوابط لحماية حقوق الضحايا وتأمين المواطنين لتجنب الأزمات.
- لتحقيق الاستقرار، يجب على القادة الجدد وضع خطط استراتيجية تركز على العدالة الانتقالية وحماية المواطنين، لضمان مستقبل أفضل للشعب السوري.

خَرّ بشار الأسد في أيام معدودات، عقب عقد ونيف من اندلاع الثورة ضده، واتسعت سريعاً آمال السوريين لتواكب السقوط المفاجئ، بالغة عنان السماء التي كأنها كافأتهم على صبرهم الطويل (53 عاماً من حكم العائلة)، بزوال للطغيان بالحد الأدنى من الدماء والدمار أثناء معركة ردع العدوان (ربما الأدق أن تسمى حالياً إسقاط النظام)، لتنتشر أجواء من التفاؤل مدعومة بتصريحات مبكرة للرئيس أحمد الشرع بـ"التحول من عقلية الثورة إلى الدولة"، كررها مرات عديدة وبصيغ مختلفة من أبرزها أن "عقلية الثأر والثورة لا تبني الدولة"، فهل هذا ما حدث؟  

ثمة مؤشرات على أن هذا الانتقال لم يحدث بعد، أكثرها خطورة ما جرى الأسبوع الماضي بعد اعتداء فلول النظام على قوات الأمن ومحاولتهم السيطرة على طرق أو مؤسسات وحتى مدن في الساحل السوري، فكيف كانت ردة فعل النظام الجديد؟ وقع في ما أكد الشرع على ضرورة الخلاص منه، عقلية الثأر التي كان عليه أن يتحسب لها قبل الإعلان عما سمي بـ"النفير العام"، وهو مصطلح ثوري بالأساس، فالدول تعلن التعبئة العامة، وإن كان لا مشاحة في الاصطلاح، لكن ما جرى جذب إلى جانب العاقل الخائف من انهيار النظام الجديد، كل من في نفسه غرض أو مرض، ليقتل أو يسرق مدنيين يشبهونه في كل شيء، بل منهم أبناء طائفتهم نفسها، وكذلك من كان معارضاً للنظام الذي هم من ضحاياه، في لحظة جنون دموية وفوضوية وطائفية تليق بعهد أسرة الأسد وليس سورية الجديدة التي يفترض أنها تقدم بديلاً مناقضاً لكل ما ثارت عليه. 

لفهم تلك الحالة وأسباب التحول الخطير في الوضع السوري، يمكن اللجوء إلى مقاربة أنثروبولوجية يراها الباحث والتر أرمبرست أستاذ دراسات الشرق الأوسط الحديث بكلية الدراسات الشرقية في جامعة أكسفورد في دراسة له عن الثورة المصرية، تمتلك كثيراً من الإمكانيات التفسيرية للثورات وتفاعلاتها المختلفة أكثر من المقاربات السياسية والسوسيولوجية، فسورية اليوم تمر بما يمكن وصفه بلحظة تحول مجتمعي رئيسية، وثمة ممارسات تطبع تلك الحالات، وهو ما يصفه الأنثروبولوجي الفرنسي أرنولد فان جينب بطقس العبور، الذي ينقسم إلى ثلاث مراحل، الأولى الانفصال أو ما قبل المجاز، والثانية المجاز وفيها يعلق الفرد أو المجتمع في وضعية وسيطة بين المرحلة الأولى والثالثة أي "بين بين"، حيث يكون قد انفصل تماماً عن الوضعية المجتمعية الأولى، ولكن لم يدخل في الوضعية الثانية وما يزال واقفاً على حافتها أو عتبتها، والثالثة هي إعادة الإدماج وفيها يدخل الشخص في المرحلة الجديدة ويعاد إدماجه في المجتمع، وهو ذات كلية جديدة تختلف عن تلك التي انفصل عنها. 

أي أن حالة المجاز أو البين بين، هي مرحلة وسيطة بين وضعيتين مجتمعيتين، ولا تنتمي إلى أي منهما، وفيها يكون الشخص منسلخاً تماماً عن الوضعية الأولى (الثورة في الحالة السورية)، ولكن لم يدخل في الوضعية الثانية (الدولة)، فهو عالق بينهما، ويتضح ما سبق عبر تفكيك فكرة النفير العام المناسبة للثورة أكثر منها الدولة، ففي جوهرها طريقة غير منظمة لمواجهة الخطر، لأنها غير مؤطرة بقاعدة احتكار الدولة للعنف، والسيطرة على من يقومون به واختيارهم وتأهيلهم لأداء مهام محددة دون زيادة أو نقصان، وكل ما سبق جرى التغاضي عنه، ما أسفر عن حشد من المدنيين غير المحترفين عسكرياً، وهؤلاء لا توجد ضوابط على سلوكهم وأدائهم، لذلك تورطوا في الجرائم والانتهاكات والاعتداءات، خاصة أنهم مشحونون طائفياً ضد مناطق بكل ما عليها من بشر وحجر. 

وفعل النفير هذا من الأصل يناسب كيانات ما دون الدولة كالجماعات المسلحة والمليشيات، وهو ما قامت به "قسد" قبل أيام عبر طلبها من المدنيين في مناطق سيطرتها التوجه إلى المنطقة الحدودية مع تركيا، فما الذي سيكون في وسع مدني في تلك المنطقة سوى أن يكون ضحية لأي من الطرفين؟ كما فعلت من قبل عند نقل المدنيين إلى سد تشرين بذريعة التنديد بهجوم الجيش الوطني السوري، ما يهدد حياتهم  جراء المخاطر واستمرار الاشتباكات والقصف على السد وفي محطيه، وهو ما يثبت حقيقة "قسد"، كونها قناع إدارة ترفع شعارات ديمقراطية لتخفي بها وجه مليشيا، وهذا على عكس ما يرجوه السوريون في وضع دولتهم الجديدة، بعدما انسلخوا من وضعية الثورة، لكنهم لم يعبئوا فراغ الدولة، "فهم بين بين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"، وهذه الوضعية الانتقالية بجب أن تكون مؤقتة وإلا دخل المجتمع في أزمات مريرة، لأنها تتسم بالخطورة والفوضى والغموض واللايقين والتشويش، باختصار هي غير مريحة لأفراد المجتمع وجماعاته، كما يقول أرمبرست في كتابه حاوي الثورة المصرية. 

"إذن في وضعية المجاز يتحرر الجميع من المعايير والتقاليد الحاكمة، وكما تتحرر إرادات الأفراد وإمكاناتهم الخيّرة، وقدراتهم الإبداعية والخلاقة ومن ثم يرتجَى منهم القدرة على تأسيس وتطوير المجتمع بعد الخروج من وضعية المجاز، وهذا هو ما ينتظره السوريون حالياً ويحلمون به؛ تشهد تلك الوضعية أيضاً تحرر إمكاناتهم الشريرة، ومن ثم يخشى منهم أن يطيحوا المجتمع في هوة سحيقة بدلاً من إنقاذه"، كما يرى الأنثروبولوجي الإنكليزي فيكتور تيرنر، وهذا الخطر الكبير بدا في تلك اللحظات الموثقة عبر مقاطع الفيديو المصورة لاعتداءات ستبقى آثارها والانطباعات حولها في الأذهان مدة طويلة، وتسهل من مهمة النظام المخلوع في ضرب الوحدة الوطنية، ما يصعب من محاولة تنظيم المجتمع الجارية ومعالجة الفوضى الموروثة عن آل الأسد، لذا لا يمكن التخلص من تلك المرحلة إلا عبر وضع ضوابط وكوابح تحمي أولاً حقوق الضحايا (العدالة الانتقالية)، وثانياً تؤمن المواطنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وتمنع أي فرصة لتكرار ما جرى. 

بمعايير الأنثربولوجيا يحتاج السوريون إلى أن يقبضوا على معنى الدولة، إذ يوقنون بوجوده، لكنه غير واضح ومشوش وملتبس، وحتى لا تنكص سورية على عقبيها، وتنقض آمال بناء دولتها الوليدة من بعد قوة أنكاثا، على قادتها الجدد بناء خطط تكتيكية استباقية وسيناريوهات مستقبلية تستشرف جميع التحديات التي قد تهدد البلاد والعباد (لعل مجلس الأمن القومي الجديد ينوء بها)، وإليها يضاف استراتيجية كبرى معلنة لمستقبل وشكل الدولة وفق المعطيات الواقعية الحالية والإمكانيات والمقدرات التي يمكن تفعليها وصولاً إلى حالة نجاح مكافئة لحجم الدم والتضحيات الرهيبة التي دفعها مواطنوها ومقدار آمالهم الواسعة في مستقبل ينسيهم بلاء الأسد.