تدنيس الجثامين... جيش الاحتلال يسرق أعضاء الشهداء ويشوه أجسادهم

غزة
الصحافي محمد الجمل
محمد الجمل
صحافي فلسطيني، يكتب لقسم التحقيقات في "العربي الجديد" من غزة.
26 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 13:51 (توقيت القدس)
435
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعرضت جثامين الشهداء الفلسطينيين لتنكيل وتشويه وسرقة أعضاء من قبل الاحتلال الإسرائيلي، حيث فقدت بعض الجثامين قرنيات العيون وأحشاء داخلية، مما يشير إلى تعرضهم لتعذيب شديد وإعدامات ميدانية، وتعتبر هذه الممارسات جرائم حرب وفق القوانين الدولية.

- يعتمد الأطباء في غزة على وسائل بدائية لتحديد هويات الجثامين بسبب غياب التحاليل الحديثة، مثل الطول والبنية وشكل الأسنان، مع استخدام رابط تفاعلي لعرض صور الجثامين، مما يجعل عملية التعرف مؤلمة وصعبة.

- تحتجز إسرائيل 735 جثماناً لفلسطينيين في مقابر الأرقام، مما يسبب ألماً نفسياً كبيراً لذوي الشهداء الذين ينتظرون استلام جثامين أبنائهم لدفنهم بكرامة، ويعبر الأهالي عن مشاعر الغضب والحزن بسبب استمرار الاحتجاز.

دنس جيش الاحتلال أجساد الشهداء، إذ سرق أعضاءهم وشوه ملامحهم حتى بات من الصعب على الأهالي المكلومين التعرف عليهم، بينما تسعى وزارة الصحة عبر وسائل بدائية للتأكد من هوياتهم إذ لا يمكنها حفظ الجثامين أكثر من أسبوع.

- تحت أضواء باهتة في صالة مجمع ناصر الطبي بخان يونس جنوبي قطاع غزة، خيّم صمت ثقيل كأن المكان ينوح، حيث مئات العائلات تجمعت أمام شاشة تُعرض عليها صور جثامين أعادها الاحتلال إلى غزة، تدور الرؤوس وتتسابق العيون بين صورة وأخرى، فيحاول الحضور التعرف على ملامح الأبناء المفقودين منذ بداية الحرب، لكن عبثا يحاولون، فالاحتلال تعمد تشويه الوجوه والأجساد.

في الصفوف الأولى، جلس الخمسيني أنور أبو مصطفى، يحدّق في الصور بعيون أرهقها عامان من الفقد، يقول بصوت خافت لـ"العربي الجديد": "ثلاثة أيام وأنا أجي هنا، شاهدت أكثر من أربعين جثمان، لكني لم أجد ابني أحمد". يتحدث عن ولده الذي فقدت آثاره منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، حينها أبلغهم شهود عيان أنه استشهد داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 بينما لا تمتلك الأسرة أي معلومات مؤكدة حول مصيره حتى الآن، وما زالت تبحث عنه بين الجثامين التي يسلمها الاحتلال، لكن الصدمة، أن كل جثمان يمرّ أمام أبو مصطفى يزيد اشمئزازه من الاحتلال غير المكتفي بالقتل والعامد إلى تشويه الشهداء وإخفاء ملامحهم لتعذيب ذويهم، كما سرق أعضاءهم منكلا بهم حتى في موتهم.

مثل أبو مصطفى، وقفت أمهات وآباء يبحثون عن أثر صغير يربطهم بأحبتهم، لكن الصور المعروضة لا تحمل وجوها كما يُجمعون، بل جثثا متفحمة وجراحا مفتوحة وأعينا مقتلعة وآثار تعذيب شنيع، وهي بحد ذاتها أدلة جديدة على جرائم حرب لا تسقط بالتقادم.

 

تشويه وسرقة أعضاء الشهداء

سلّم الاحتلال الإسرائيلي 195جثمانا لشهداء من أبناء قطاع غزة على دفعات بين 14 و22 أكتوبر الجاري، وبعد معاينة الجثامين، تبيّن أنها تعرضت لعمليات تنكيل وتشويه وحرق وسرقة أعضاء وإعدامات ميدانية، وفق ما أكده المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، في إفادته لـ"العربي الجديد". ويتهم الاحتلال بسرقة أعضاء من جثامين الشهداء، خاصة قرنيات العيون، موضحا أنه تم رصد خمسة شهداء على الأقل فقدوا قرنياتهم، إضافة إلى أحشاء داخلية، مشيرا إلى أن عشرة جثامين جرى حشوها بالقطن بعد تفريغ أعضائها، ولا سيما الكبد والكليتين. وبحسب مصادر طبية، يُستخدم القطن لملء التجويف مكان الأعضاء المفقودة لتجنّب تغور الصدر والبطن، والحفاظ على شكل الجسد ومنع التعفن. كما أشار الثوابتة إلى وجود عمليات جراحية غير معروفة أُجريت لخمسة شهداء وهم على قيد الحياة، تعذّر تحديد طبيعتها بسبب طول فترة حفظ الجثامين في درجات حرارة متدنية جداً.

سلم الاحتلال الإسرائيلي 195 جثماناً لشهداء خلال أكتوبر الجاري

كما أظهرت المعاينات آثار جنازير دبابات وطلقات نارية من مسافة قريبة جداً على أجساد شهداء وُجدوا مكبّلين ومعصوبي الأعين بأصفاد بلاستيكية، إضافة إلى حبال ملتفة حول الأعناق وآثار سحل على الأرض، ما يرجّح تعرّض بعضهم لربط وسحل متعمد بمركبات عسكرية.

ووفق الثوابتة، فإن ما لا يقل عن 20 جثمانا بدت عليها آثار تعذيب شديد، شملت كسورا في الأطراف، وحروقا في الوجه والكفين، وجروحا غائرة، فضلا عن تسلّخات ناتجة عن الأصفاد البلاستيكية التي مزقت أيدي عشرين آخرين.

واستنادا إلى صور حصل عليها "العربي الجديد"، فإن أكثر من 120 جثمانا تعود لمقاتلي نخبة كتائب القسام، وهو ما ظهر جليا من الزي العسكري وعصبات الرأس التي كُتب عليها اسم الكتائب، وفق مصادر مطلعة رفضت الكشف عن هويتها كونها غير مخولة بالتصريح لوسائل الإعلام.

435

حدث هذا دونما اعتبار لاتفاقيات لاهاي وجنيف التي تحظر المساس بكرامة الموتى، بما في ذلك التشويه والنهب والعبث بالأعضاء، وفق ليما بسطامي، مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، التي تصنف هذه الممارسات بانتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم حرب وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. موضحة أن قتل المقاتلين بعد أسرهم يشكّل جريمة حرب واضحة بموجب اتفاقية جنيف الثالثة ونظام روما الأساسي، لأنه قتل متعمّد لأشخاص خرجوا من القتال وفقدوا صفتهم كأهداف عسكرية، فاحتجاز الأسير يهدف فقط لعزله عن القتال وضمان أمن القوة الآسِرة، لا لمعاقبته أو الانتقام منه، وأن أي إعدام ميداني يفتقر لأي أساس قانوني أو أخلاقي. وتشير إلى أن إسرائيل، بصفتها قوة احتلال في غزة، ملزمة بالبحث عن القتلى وتوثيق هوياتهم وتسليم رفاتهم لعائلاتهم، بينما احتجاز الجثامين أو إخفاء أماكن دفنها أو حرمان العائلات من وداع أبنائها يمثل معاملة قاسية ومهينة قد ترقى إلى تعذيب نفسي لذوي الشهداء.

 

رموز غامضة

في قاعة الطب الشرعي بمجمع ناصر الطبي، تتراص الجثامين داخل أكياس عليها رموز غامضة، بلا أسماء ولا دلائل واضحة على هوية أصحابها، وحاول الأطباء فهم الرموز التي وضعها الاحتلال عند تسليم الجثامين، بحثا عن أي خيط يساعدهم على تحديد هويات أصحابها، لكن المهمة تكاد تكون مستحيلة بحسب مدير دائرة الطب الشرعي في المجمع الطبيب أحمد ضهير، مؤكدا أن الاحتلال سلّم الجانب الفلسطيني الجثامين من دون أي معلومات تُعين في الكشف عن هويات أصحابها، مكتفيا بوضع رموز وأرقام دون تفسير لمعناها أو دلالتها. ويقول ضهير في حديثه لـ"العربي الجديد": "نضطر لاستخدام وسائل بدائية جدا في ظل غياب التحاليل والأجهزة الحديثة، نعتمد على الطول والبنية، شكل الأسنان، الإصابات الظاهرة، والعلامات الفارقة".

الصورة
جثامين شهداء غزة (Getty)
شيّعت الأسر المكلومة 68 جثمانا عقب التعرف عليها (Getty)

هذه الطرق، كما يوضح الطبيب، ليست سوى محاولات يائسة للإمساك بأثر من الملامح في جثامين شوهها القصف والاحتجاز، وغالبا ما تكون النتيجة أقرب إلى التخمين منها إلى اليقين. ويضيف ضهير أن الاحتلال زوّد وزارة الصحة بستة أسماء قال إنها تخص جثامين لفلسطينيين مفقودين منذ السابع من أكتوبر، لكن بعد الفحص تبيّن أن اسمين منها لا يعودان لأصحابهما، ويجري التدقيق في الأربعة المتبقية، مؤكدا أن المعلومات التي يقدمها الاحتلال "غير دقيقة، بل ومضللة في بعض الحالات".

كما وصلت نتائج فحوص الحمض النووي (DNA) مع تسعين جثمانا، لكنها بلا فائدة حقيقية، كما يقول ضهير، لأنها تحتاج لمقارنتها بفحوص مشابهة لعائلات الشهداء، وهو ما أصبح غير ممكن بعد تدمير المختبرات والمعامل في غزة.

وسائل بسيطة وبدائية

في هذه الظروف، يعتمد الأطباء على ما يتوفر لديهم من وسائل بسيطة، وعلى شهادات العائلات التي تُستدعى إلى المستشفى في حال وجود اشتباه أو تطابق محتمل، ليجري التعرف الميداني قبل استكمال الإجراءات لدى النيابة العامة والأدلة الجنائية.

وتسهيلا للمهمة، أنشأت الإدارة العامة للحاسوب بوزارة الصحة بقطاع غزة رابطا تفاعليا، وقامت بتعميمه، بحيث يمكن لذوي المفقودين الدخول للرابط، ومشاهدة صورة الشهداء التي جرى تحميلها، وفي حال تعرف البعض على هويات جثامين، أو راودتهم شكوك يمكنهم التبليغ عن الصورة من خلال رمز خاص بها، وفق ما أكده المهندس محمد القريناوي والمهندسة نارين النحال التي قامت ببرمجة الموقع المخصص للعمل، وهما يعملان في الإدارة العامة للحاسوب بالوزارة.

الصورة
`ذوو الشهداء في غزة (العربي الجديد)
مئات من ذوي المفقودين يحاولون التعرف على أحبابهم عبر شاشات مخصصة لعرض صور الجثامين (العربي الجديد)

ووفق القريناوي فإن عرض صور الجثامين عبر شاشات من زوايا مختلفة، ساعد حتى 26 أكتوبر بالتعرف على هويات 68 جثمانا، وفق ما أعلنته الوزارة. في حين تلقت حتى صباح 19 أكتوبر الجاري 236 بلاغا من الأسر، بعضها لها علاقة بالجثامين، وأخرى تُبلغ عن مفقودين، بحسب النحال.

وتعد عملية التعرف على الجثامين نفسها مؤلمة وصعبة، وكثير من العائلات تظن أنها وجدت أبناءها، ثم يتبين لاحقا أن الجثمان لا يعود لهم كما حصل مع عائلة الزاملي، حين ظنّ أفرادها أن أحد الجثامين المعروضة على الشاشة يعود لابنهم المفقود عز الدين، بعدما تطابقت البنية الجسدية والكتفان والرقبة والطول وفق رواية شقيقه حسن: "كان كل شيء يشبهه، لكن وجهه لم يعد واضحا، مشوّه بالكامل"، موضحا أنه استُدعي والعائلة لمعاينة الجثمان مباشرة، وكادوا يجمعون على أنه يعود لابنهم، غير أن تفصيلا صغيرا غيّر يقينهم وهو لون الملابس الداخلية التي لم يكن يستخدمها عز الدين، عندها تراجعوا في اللحظة الأخيرة، وعادوا إلى الصالة، إلى الشاشة، وإلى الانتظار من جديد، في رحلة بحث لا تنتهي.

ذوو الشهداء أمام شاشة لعرض صور الجثامين في مجمع ناصر الطبي/خانيونس

والمؤلم، أن ثلاجات الموتى في مجمع ناصر الطبي يمكنها الحفاظ على جثامين الشهداء لأسبوع فقط، لذلك أعلنت وزارة الصحة أن الجثامين التي لا يتم التعرف عليها خلال 10 أيام من وصولها، ستدفن وفق إجراءات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وبخريطة مكانية تحفظ موقع كل جثمان وفق الرقم المخصص له، لضمان إمكانية الاستدلال عليه مستقبلا، بحسب مدير عام المستشفيات في وزارة الصحة بالقطاع الدكتور محمد زقوت.

 

محتجزون في مقابر الأرقام

رغم تسلم 195 جثمانا، حصل معد التحقيق على بيانات متطابقة من المكتب الإعلامي الحكومي، وهيئات تعني بالأسرى والمفقودين منها مكتب إعلام الأسرى والحملة الوطنية الفلسطينية لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين، تفيد بأن إسرائيل لا تزال تحتجز 735 جثمانا لفلسطينيين، بينهم 67 طفلا، إضافة إلى 256 جثمانا في مقابر الأرقام، وهي وفق تعريف هيئة شؤون الأسرى الحكومية مقابر سرية أنشأتها إسرائيل لدفن جثث الضحايا والأسرى الفلسطينيين والمتوفين في السجون الإسرائيلية، تم تسميتها بهذا الاسم لأنها لا تحتوي على أسماء لأصحاب الجثث، بل يتم دفنهم بعد ترقيم الجثامين.

5 جثامين بلا قرنيات و10 أخرى فقدت أحشاءً داخلية

ولن يهدأ بال ذوي الشهداء الذين ما زال الاحتلال يحتجز جثامينهم حتى يستلموها، وهو ما تعبر عنه الستينية فاطمة إبراهيم التي لم تجد أي أثر لابنها محمد المفقود منذ عامين، وتصف مشاعرها وهي تشاهد الصور على الشاشة بالغضب الممزوج بالحزن والقهر، مؤكدة أنها ستواصل التردد على المستشفى  حتى تحتضن جثمانه، وتدفنه، وتزور قبره باستمرار، فبقاء جثمان نجلها محتجزا لدى الاحتلال أمر بالغ الصعوبة عليها قائلة: "لن تنطفئ نار قلبي حتى أرى رمال القبر تنهال على جسده".

المشاعر ذاتها يشاطرها إياها الخمسيني طلعت أبو مصطفى، الذي يعرف جيدا كل الدلالات والعلامات التي يمكن من خلالها التعرف على ابنه العشريني عبد الرحمن، الذي دخل غلاف غزة في السابع من أكتوبر بدافع الفضول، وجرى استهدافه مع مجموعة من الشبان من مروحية إسرائيلية، وفي حينها وصلت صور للأسرة من شبان كانوا معه تؤكد استشهاده، لكنه الأب لم يجد له أثرا بين الجثامين، حتى بعد مشاهدة العشرات منها.

ذات صلة

الصورة

منوعات

أطلق أكثر من 300 كاتب ومثقف من حول العالم حملة جماعية لمقاطعة قسم الرأي في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، متهمين إياها بـ"التواطؤ" ضد الفلسطينيين.
الصورة
وقفة تضامنية مع فلسطين في أوكلاند، نيوزيلندا 25 أكتوبر 2025 (العربي الجديد)

سياسة

شهدت ساحة بريتومارت الشهيرة في قلب أوكلاند، كبرى مدن نيوزيلندا وعاصمتها الاقتصادية، السبت، وقفة تضامنية مع الشعب الفلسطيني للمطالبة بمعاقبة إسرائيل
الصورة
أنتوني أغيلار في مقابلة مع العربي الجديد

سياسة

يكشف الجندي الأميركي السابق أنتوني أغيلار، في حوار مع "العربي الجديد"، تجربته بصفة متعاقد لصالح "مؤسسة غزة الإنسانية"، والانتهاكات التي ارتُكبت بحق المدنيين.
الصورة
طفل يجلس على قذيفة غير منفجرة بمدينة غزة، 16 إبريل 2025 (Getty)

سياسة

حذر مركز غزة لحقوق الإنسان، اليوم الجمعة، من الخطر المتصاعد لعشرات آلاف الأطنان من المخلفات غير المنفجرة التي خلّفها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.