استمع إلى الملخص
- تلجأ العائلات إلى الطب البديل والقابلات لتلبية احتياجاتهم الصحية، حيث تستخدم الأعشاب الطبية وتُقدم استشارات مجانية عبر "واتسآب"، مما يعكس روح التضامن.
- يُفعّل القضاء العشائري للحد من العنف وحل النزاعات، وتُبنى مساجد مؤقتة لاستمرار الصلوات الجماعية، مما يعكس التكيف والابتكار في مواجهة التحديات.
ينظّم المدنيون الغزيون أنفسهم ذاتياً، لمقاومة الاحتلال بما تيسر من إمكانيات شحيحة، بعضهم يزرع أمتاراً صغيرة إلى جوار خيم النزوح لمواجهة الجوع، وآخرون يبتكرون بدائل للكهرباء، كما عاد القضاء العشائري لمواجهة الفوضى.
- تبدأ الخمسينية الغزية مها عثمان يومها باكراً في رحلة شقاء تستمر حتى ساعات الغروب، إذ تُشعل فرن الطين الذي بنته في منطقة قريبة من مكان نزوحها بمواصي خانيونس، جنوب القطاع، لتستقبل السيدات اللواتي يرغبن بإعداد الخبز لأسرهن، بعدما وجدت نفسها مسؤولة عن إعالة الأسرة التي فقدت اثنين من الأبناء، بينما بقي زوجها محاصراً في مناطق شمال القطاع.
"لم يكن أمامنا سوى الصمود في وجه حياة النزوح والمجاعة والفقر" تقول عثمان الجالسة أمام النار ساعات طويلة ظهرت آثارها على وجهها الذي تحول لونه إلى الأحمر القاني، و"كل هذا حتى لا نرضخ للاحتلال الذي يريد قتلنا وتجويعنا، ورغم استشهاد اثنين من أبنائي، سأواصل الكفاح حتى أربي الأربعة الآخرين وأخرج بهم إلى بر الأمان" كما أضافت السيدة التي امتلأ وجهها بالإصرار، بينما تُخرج أرغفة الخبز الناضجة من قلب الفرن، وتضع أخرى بديلاً عنها، محاطة بأربع سيدات يشاركنها الحديث، ويثنين على ما تفعله.
مقاومة الجوع
ليس بعيداً عن عثمان، انهمك الأربعيني شريف سليم في رعاية الخضروات التي زرعها إلى جانب خيمته، محاولاً توفير بعض الأصناف الضرورية لأسرته، لمقاومة شبح المجاعة، الذي ينتشر في أرجاء القطاع، ما جعله مصراً على زراعة مساحة لا تزيد عن 30 متراً مربعاً، بذر فيها أصنافاً من الخضروات الشتوية، كالجرجير، والشبت، والبقدونس، والسبانخ، من أجل توفير عناصر غذائية هامة لأبنائه، حتى لا يصابوا بالنحافة وسوء التغذية، جراء الجوع.
يزرع لاجئون أمتاراً صغيرة إلى جانب خيمهم لتوفير الخضروات
"لا بد من مقاومة تجويع الاحتلال للغزيين بزراعة ما تيسر من بذور" كما يقول المهندس والخبير الزراعي نزار الوحيدي، المدير العام السابق للتنمية والإرشاد الزراعي بقطاع غزة، وحتى من لا يملكون مساحة كافية، عليهم الزراعة في القوارير، ومعلبات المواد الغذائية الفارغة، فالأطفال يعانون نقصاً غذائياً شديداً بخاصة فيتامينات أ، ب، ج، ولا يمكنهم الحصول على سكر اللاكتوز المتوفر في الفواكه، لذا فالزراعة بالخيم توفر بعض الأصناف التي تمنح مُغذيات للأطفال، حتى لا يصابوا بأمراض ناتجة عن سوء التغذية كما يقول الوحيدي.
يشاركه رأيه المهندس الزراعي منير أبو صالح، الذي يمتلك مشتلاً وبسطة لبيع البذور في مواصي خانيونس، وبات يرصد تزايد أعداد المترددين عليه لشراء البذور والأشتال، ويدعمهم عبر تقديم المشورة لهم، بطرق الزراعة الناجحة، وتواقيت الري، وغيرها من الإرشادات، لضمان الحصول على الثمار إذ باتت هذه الطريقة الوحيدة للحد من سوء التغذية الذي يهدد أطفال غزة ممن يعانون العديد من الأمراض الناتجة والمنتشرة بينهم بسبب حياة النزوح.
مع ذلك، لا يخلو الأمر من مصاعب كالحصار الذي يلقي بظلاله على مشروع أبو صالح، إذ يمنع وصول البذور وجميع مُدخلات الإنتاج، حتى أن أسعارها ارتفعت أكثر من 1000%.
وبالابتعاد قليلاً والتوجه إلى شاطئ البحر، التقى "العربي الجديد" بالثلاثيني هيثم خالد، وقد بدت علامات الفرح واضحة على وجهه حين أخرج صنارته وفيها سمكتان من نوع "الدنيس" وضعهما في سلته، ثم أضاف الطعم وألقاها مجدداً في البحر، فقد باتت تنجد عائلته وتُوفر لهم بعض الأيام وجبة مغذية مليئة بالبروتين الذي لا يجدونه بسبب المجاعة الحادة، والافتقار إلى اللحوم والدواجن، وكثير من الأصناف الغذائية الغائبة عن الأسواق.
ويمنع الاحتلال الصيادين من دخول البحر، ليقتصر الصيد على الشاطئ، باستخدام الصنارة وشباك يدوية بدائية، وبالرغم من ذلك يتعرضون لإطلاق نار شبه يومي من زوارق الجيش الإسرائيلي، حتى أن خالد كاد يفقد حياته بعد ارتطام رصاص بالأرض بالقرب من مكان بحثه عن الأسماك، "لكن لن نتوقف عن المحاولة، فتوفير وجبة طعام للأسرة جيدة أمر يستحق المغامرة".
اللجوء إلى الطب البديل والقابلة
تقتني الجدة الستينية ليلى جمعة، أكثر من 20 نوعاً من البذور والأعشاب الجافة لنباتات طبية، وتضع كلاً منها في علبة بلاستيكية صغيرة، تحتفظ بها في خيمتها بمواصي رفح في أقصى شمال المدينة جنوب القطاع، إذ يعاني عدد من أولادها العشرة وأحفادها الثلاثين، من آلام متنوعة نتجت عن حياة النزوح وشح الأدوية، وصعوبة الوصول إلى الأطباء.
تقول جمعة بينما يجلس إلى جوارها عدد من الأحفاد، أنها تعلمت من والدتها وجدتها كيفية استخدام الأعشاب، وفائدة كل نوع، مثلا زهرة البابونج، تستخدم لعلاج الأمراض التنفسية والصدرية، بينما تُستخدم أوراق الشيح للمغص، وكذلك الميرمية للمغص وآلام المعدة، وبذور الشبت والشومر لعلاج مشاكل القولون، موضحة أنها أصبحت تنقل خبراتها إلى جيرانها النازحين الذين يترددون على صيدلية الأعشاب الطبية الصغيرة التي تمتلكها بحثا عن علاج مما أصابهم وأطفالهم او تخفيف آلامهم.
ولمقاومة المرض ونقص الدواء أنشأ اختصاصي التغذية والطب البديل، ناصر حسنين، مع مجموعة من خبراء الأعشاب في فلسطين والعالم مجموعة على "واتسآب" يقدمون من خلالها استشارات مجانية للعلاج بالأعشاب. يسعى الخبراء إلى توعية الأهالي بكيفية استخدام الأعشاب، للوقاية من الأمراض أو علاج بعضها بما تيسر إلى أن يتمكن النازح من مراجعة عيادة أو طبيب متخصص.
أما خروج المشافي عن العمل ونقص الأطباء وعدم قدرة من تبقى على تلبية احتياجات العدد الكبير من النازحين، أدى إلى تدخل الأربعينية سوما الفيراني، النازحة من مدينة غزة، لمساعدة سيدتين خلال ولادتهن، بعد ما تعذر نقلهما إلى المستشفى بسبب الحصار والعدوان، ليضعا مولودين بصحة جيدة، كما تقول القابلة (الداية) التي جهزت حقيبة طبية تستخدمها في حال تدخلت لمساعدة سيدة خلال الوضع، ومع ذلك فهي ليست بديلاً عن المستشفى والطبيب، لكنّ الظروف الصعبة، تضطرها لمحاولة إنقاذ روحين كما تقول.
ابتكار البدائل
برع الغزيون في اللجوء إلى بدائل عن الكهرباء في محاولة لاستمرار عملهم وتيسيرا لأمور حياتهم، بما هو متاح من إمكانات، إذ أوصل الثلاثيني ياسر صالح ماكينة الخياطة التي يمتلكها بدولاب دراجة هوائية، وفور تحريك الدواسات تبدأ الماكينة بالدوران ما يمكنه من حياكة الملابس، والأغطية، وغيرها من الأمور، كما يقول لـ"العربي الجديد"، موضحاً أن الناس في مواصي خانيونس تحديداً بحاجة ماسة إلى حياكة ملابسهم، ووصل قطع من القماش ببعضها لتغطية خيامهم، وفي ظل انقطاع الكهرباء بشكل كامل عن القطاع منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتوقف ماكينة الخياطة الكهربائية عن العمل، وجد فكرة الدولاب مناسبة، لكن الأمر يحتاج إلى شخصين أحدهما يعمل على الماكينة والآخر لتحريك دولاب الدراجة، مضيفا:" يتهافت النازحون علينا، ونعمل على تلبية احتياجاتهم، مقابل أجور بسيطة".
أما محمد القدرة، فقد استخدم مضخة صغيرة تعمل على التيار الكهربائي المندفع من بطارية "12 فولت" مثل المستخدمة في المركبات، لرفع المياه إلى الطوابق العلوية، ما يريحه وأبناءه من مشقة حملها بواسطة أوعية (جراكل) ثقيلة عليهم.
مواجهة الفوضى عبر القضاء العشائري
يعيش قطاع غزة حالة من الفوضى في ظل تغييب الاحتلال للشرطة والقضاء واستهداف كل محاولات إعادتهم للعمل، ما أدى إلى شجارات تندلع يوميا وينتج عنها قتلى وجرحى، وفي حال عدم التدخل بشكل عاجل، تتدهور الأمور، وتنتشر دائرة الصراع، لذلك "كان لا بد أن تُفعّل لجان الإصلاح العشائري التي تعمل كمحاكم عرفية وتمارس دورها الوطني والاجتماعي، وتعمل على الحد من استشراء العنف، ووأد الشجارات في مهدها"، كما يقول المختار أحمد شعت، مدير شؤون العشائر في محافظة رفح.
ينشط رجال الإصلاح والقضاء العشائري لوأد فوضى الاحتلال
شعت النازح من جنوب القطاع، ينشط مع 30 رجل إصلاح عشائري كخلية نحل في محافظة خانيونس ومدينة دير البلح جنوب ووسط القطاع، ولا يتوقفون عن التنقل بين الخيام والبيوت لأخذ "وجه أو عطوة"، من أجل خلق "هدنة مؤقتة قابلة للتجديد، كخطوة أولى للحل النهائي"، وبالفعل نجحوا خلال أكتوبر، في علاج وإنهاء 100 مشكلة في خانيونس وحدها، بعضها شجارات سالت فيها دماء، كما قال لـ"العربي الجديد"، موضحاً أنهم يستغلون الاحترام الكبير الذي يتمتعون به بين الناس، وانصياع العائلات لمطالبهم، فمن المعيب أن يتم رد وفد الوجهاء، وعدم تلبية مطالبهم، لذا يحاولون تعزيز السلم الأهلي، ويواجهون مخططات الاحتلال لنشر الفوضى في القطاع، وتحويل غزة إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، بخاصة بعد تدمير السجون، وخروج اللصوص والقتلة وأصحاب السوابق منها.
مساجد من البلاستيك
دمر الاحتلال الإسرائيلي 814 مسجداً، من أصل 1245 مسجداً في قطاع غزة بما نسبته 79 بالمائة، كما تضرر 150 مسجداً، و"وصل إجرام جيش الاحتلال إلى قصف عدد من المساجد والمصليات وتدميرها على رؤوس المصلين، كما في مصلى مدرسة التابعين بمدينة غزة" بحسب إفادة محمد الغلبان مدير أوقاف محافظة خانيونس، والتي وزعت شوادر بلاستيكية على النازحين جرى استخدامها لإقامة مصليات صغيرة، انتشرت بعدها في مخيمات النزوح عبر وزارة الأوقاف ومؤسسات وجمعيات أهلية وخيرية حتى وصل عددها إلى 100 مصلى.
يقول الغلبان إنّ عدداً من المواطنين يساهمون في توفير ما يستطيعون من بلاستيك أو نايلون أو مصاحف وأجهزة الصوت "ميكروفونات" التي تعمل على البطاريات، وثمة خطط للمزيد خاصة في الفترة المقبلة، مع اقتراب شهر رمضان، حتى لا تتوقف صلوات الجماعة في القطاع، كما يضيف.