الحرب السيبرانية... معركة مستعرة بين الصين وأميركا

09 مارس 2025
تقوض الهجمات الأميركية قطاعات حيوية صينية (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- اندلعت الحرب السيبرانية بين الولايات المتحدة والصين عام 1999 بعد قصف السفارة الصينية في بلغراد، مما أدى إلى هجمات إلكترونية متبادلة استهدفت مواقع حكومية وعسكرية حساسة.
- تسعى الولايات المتحدة لتقويض النظام الصيني سيبرانياً، بينما تركز الصين على سرقة التقنيات الحساسة، حيث تلعب الوحدة 61398 دوراً رئيسياً في هذه المواجهة.
- المواجهة السيبرانية تشمل استهداف المؤسسات وسرقة البيانات، مع اتهامات متبادلة بالتضليل، مما يهدد الأمن العالمي ويستدعي إدارة الخلافات عبر الحوار وآليات فعالة.

بينما أصدر وزير الدفاع الأميركي، قراراً مؤقتاً بوقف الأنشطة السيبرانية المعادية لروسيا، تستمر المعركة بلا هوادة بين بكين وواشنطن منذ اندلاعها عام 1999، وتهدف أميركا إلى ضرب قطاعات حيوية، وصولاً إلى محاولة تقويض النظام الصيني.

- لم يدر في خلد التاجر الصيني ماو جينغ، مالك منفذ لبيع المعدات الإلكترونية المستوردة في مدينة شينزن جنوبي البلاد، أن خبراً في موقع وزارة أمن الدولة، يتضمن تحذيراً للمواطنين من استخدام محركات الأقراص وUSB flash الغربية، سيكبده خسائر فادحة وصلت إلى حد التفكير جدياً في إعادة النظر بتجارته والتحول نحو منتجات أخرى، إذ كشفت الوزارة في أغسطس/آب الماضي، عن أجهزة تجسس خارجية مخفية داخل هذه الأجهزة، تشكل تهديداً للأمن القومي.

يفضل زبائن جينغ، المنتجات التكنولوجية الأميركية على المحلية الرديئة بالرغم من أنها أكثر تكلفة، كما يقول، لكنه لاحظ تراجعاً حاداً في عمليات بيع بضاعته المستوردة من متاجر شركة إتش بي، في هونغ كونغ، وحين تحرى الأمر اكتشف أن تحذير وزارة الأمن أثار مخاوف لدى العامة بالرغم من أن الوزارة لم تشر في بيانها بصورة مباشرة إلى الولايات المتحدة.

ويدخل ما جرى لجينغ، ضمن تداعيات الحرب السيبرانية التي لم تتوقف منذ اشتعالها بين أميركا والصين، كما يقول الباحث في معهد تشجيانغ للدراسات والعلوم الاجتماعية (مؤسسة خاصة تحظى بتمويل جزئي من الحكومة المحلية)، يانغ جين.

 

كيف اندلعت شرارة الحرب السيبرانية؟

اندلعت شرارة الحرب السيبرانية بين أميركا والصين عام 1999، عندما قصف الجيش الأميركي السفارة الصينية في بلغراد في مايو/أيار من ذلك العام، وقد بررت واشنطن الهجوم آنذاك، بأنه نتيجة تحديد إحداثيات خاطئة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية لهدف عسكري يوغسلافي يقع في المنطقة نفسها، ورداً على ذلك استهدف قراصنة صينيون بعض المواقع الحكومية الأميركية في يوليو/تموز من العام نفسه، بما في ذلك وزارة الطاقة، ووزارة الداخلية، وتم تثبيت العلم الصيني على واجهة هذه المواقع الحساسة، وأدى الهجوم إلى تعطيل موقع البيت الأبيض الإلكتروني لمدة ثلاثة أيام، بحسب جين، الذي لفت إلى أنّ وتيرة الهجمات الإلكترونية زادت في أعقاب حادثة جزيرة هاينان في الأول من إبريل/نيسان 2001، عندما اصطدمت طائرة استخبارية تابعة للبحرية الأميركية، بطائرة مقاتلة اعتراضية تابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني فوق بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي سبّب أزمة دبلوماسية بين البلدين تخللتها هجمات إلكترونية متبادلة بين شهري إبريل ومايو من العام نفسه، إذ أطلق قراصنة صينيون حملة استهدفت بشكل أساسي مواقع حكومية وعسكرية أميركية، بالإضافة إلى البيت الأبيض، وشملت أيضاً مواقع مكتب التحقيقات الفيدرالي، ووكالة ناسا، والكونغرس، وصحيفة نيويورك تايمز وموقعي لوس أنجليس تايمز و"سي أن أن". لذا رد عليهم قراصنة أميركيون باستهداف جميع الخوادم الصينية كما تم اختراق أكثر من ستمائة موقع صيني.

ولم تتوقف الهجمات المتبادلة بين الطرفين، إذ أحبطت أجهزة الأمن العام الصينية هجمات إلكترونية متفرقة على المؤسسات الحكومية من قبل وكالة الأمن القومي الأميركية ووكالة المخابرات المركزية.

وعلى سبيل المثال، أعلنت أجهزة الأمن العام في مقاطعة شاندونغ شرقي الصين، ضبط 300 منصة على شبكة الإنترنت تبين أن لها علاقة بمسح بيانات وتشفير ملفات مهمة في مؤسسات وقطاعات حيوية حكومية خاصة خلال عام 2023.

الصورة
حرب سيبرانية بين الصين وأميركا (Getty)
قد تتطور المواجهة السيبرانية بين الصين والولايات المتحدة إلى عسكرية حقيقية (Getty)

محاولة تقويض النظام سيبرانياً

يقول أستاذ العلاقات الدولية في معهد "وان تشاي" للأبحاث والدراسات (قطاع خاص) في هونغ كونغ، ليو مينغ، إن عمليات القرصنة الأميركية تهدف إلى تقويض النظام سيبرانياً، إذ تعمل على تدمير نظام تشغيل اقتصاد السوق وكذلك النظام الضريبي الوطني، واختراق أنظمة المعلومات الوطنية والصناعية المهمة وتدمرها في بعض الحالات، وقد مكن ذلك الجهات المتسللة من الحصول على معلومات وبيانات حساسة لها علاقة بالصناعة الوطنية والتكنولوجية العسكرية، فضلاً عن اختراق المعلومات الشخصية للمواطنين المخزنة في هذه الأنظمة.

عمليات القرصنة الأميركية تهدف إلى تقويض النظام سيبرانياً

في المقابل، تركز بكين على سرقة العديد من التقنيات والتصاميم الحساسة من الشركات الأميركية، الأمر الذي سبّب نشوء نقاط ضعف استراتيجية في بعض شبكات الإنترنت وأنظمة الحاسوب الأميركية، والتي ساعدت قراصنة صينيين في وقت لاحق على اختراق البريد الإلكتروني للعديد من الشخصيات السياسية البارزة بمن فيهم أصحاب قرار وأعضاء في الكونغرس الأميركي، بحسب مينغ.

 

الوحدة 61398

داخل مبنى يقع بمنطقة بودونغ الجديدة في مدينة شنغهاي، تعمل الوحدة 61398 التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني، على مواجهة الولايات المتحدة سيبرانياً، إذ تستقطب طلاب الدراسات العليا في مجال تكنولوجيا المعلومات بالجامعات الصينية. وتشارك الوحدة في أنشطة القرصنة ذات الصلة، بحسب تقرير نشرته شركة مانديانت المتخصصة في أمن الحاسوب (أميركية تابعة لشركة جوجل) في عام 2013 بعنوان "كشف إحدى وحدات التجسس الإلكتروني في الصين" أشارت فيه إلى أن الوحدة تعمل تحت قيادة المكتب الثاني في دائرة الأركان العامة لجيش التحرير الشعبي، وأنها جزء من التهديد المتقدم الذي هاجم عدداً كبيراً من الشركات والكيانات الحكومية حول العالم منذ عام 2006.

الوحدة 61398 التابعة لجيش التحرير الشعبي مسؤولة عن المواجهة مع أميركا

وينشط أفراد الوحدة ضمن مجموعات أو أفراد، يستهدفون عادة في عمليات القرصنة أداة الحزم المتقدمة المعروفة بـ"APT  إي بي تي" Advanced Packaging Tool المعتمدة للتعامل مع تركيب وإزالة وتحديث البرامج واعتماداتها في برامج الحاسوب التي تستخدمها الجهات المستهدفة.

وعلى هذا النحو، فإن الطريقة الأكثر شيوعاً للاختراق الأولي هي التصيد الاحتيالي، وقد تحتوي رسائل التصيد على مرفقات ضارة أو رابط إلى موقع ويب ضار، وفي حالات أقل شيوعاً، قد يحاولون الاتصال بالضحايا المحتملين وإرسال محتوى ضار عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو الرسائل الفورية.

وهناك تكتيك شائع آخر وهو اختراق الويب الاستراتيجي، حيث يضع المهاجم رمزاً ضاراً على مواقع الويب التي من المرجح أن يزورها الأشخاص في المنظمات المستهدفة، وعندما يزورون هذه المواقع في سياق واجباتهم العادية، سوف يتعرضون للخطر إذا كانت أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم عرضة لرمز الاستغلال الخاص بالمهاجم. وقد يبحثون أيضاً عن خوادم ويب هشة من أجل الوصول إلى شبكة داخلية مستهدفة، وكذلك يبحثون عن ثغرات تقنية أخرى في البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات IT، وبسبب تلك الأنشطة وجهت وزارة العدل الأميركية الاتهام في عام 2014، إلى خمسة ضباط من الوحدة 61398 بالتجسس.

ويعلق مينغ، على ما سبق بأن بكين وإن نفت علاقة الوحدة بعمليات القرصنة، لكنها لم تنف وجودها، فضلاً عن أنها تنشر في صحفها الرسمية إعلانات واضحة بشأن استقطاب الطلاب الأكفاء للانضمام إلى فريقها السيبراني. واعتبر وحدة 61398 القوة السيبرانية الضاربة للصين والمسؤولة عن جميع الهجمات الخارجية، بالنظر إلى تخصص العاملين بها، والرقابة التي تفرضها السلطات حول المكان الذي توجد فيه بمنطقة بودونغ الجديدة في مدينة شنغهاي.

تطور المواجهة

اتخذت المواجهة السيبرانية بين بكين وواشنطن أوجهاً مختلفة، سواء في مجال استهداف المؤسسات الحيوية وسرقة البيانات والأسرار الصناعية والعسكرية، أو في محاولة التأثير على القرارات واتجاهات الرأي العام ومن صور ذلك، "شبكة سباموفلاج المرتبطة بالصين والمكونة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي المزيفين للتأثير على النقاش السياسي الأميركي"، إذ اتهمت واشنطن، الصين بتنظيم حملات تضليل تستهدف الناخبين الأميركيين من خلال حسابات وهمية لأشخاص يتم تعديل صورهم باستخدام الذكاء الاصطناعي للتأثير على النقاش السياسي في أميركا وإفساده.

ومن بين ضحايا المواجهة، عضو الكونغرس الأميركي عن الحزب الجمهوري دون بيكون، إذ اخترق قراصنة صينيون في أغسطس 2023 بريده الإلكتروني عبر خطأ في نظام مايكروسوفت ويندوز. ووقع الاختراق بين منتصف مايو ويونيو/حزيران 2023 بالتزامن مع خروقات أخرى تم الإبلاغ عنها. ولفت بيكون في بيان نشره في صفحته الحكومية أن الحملة الاختراقية شملت وزيرة التجارة السابقة جينا رايموندو، وموظفين في وزارة الخارجية، ومدافعين عن حقوق الإنسان، وكذلك مراكز أبحاث، لكن الأخطر من ذلك هو ما يجري من أجل التنافس في بحر الصين الجنوبي الغني بالموارد الطبيعية.

يشير مينغ في هذا السياق إلى اكتشاف فريق من الباحثين من جامعة هندسة المعلومات التابعة لقوات الدعم الاستراتيجي في الجيش الصيني، في شهر مايو الماضي، روابط رادار سرية بين بحر الصين الجنوبي وولاية ألاسكا وجزيرة غوام، بعد رصد إشارات غامضة تظهر بشكل متكرر في بحر الصين الجنوبي وغوام وجزر مارشال وجزر ألوشيان بالقرب من ألاسكا، وكشفت خصائص الإشارات الكهرومغناطيسية عن "تنسيق تكتيكي" بين الرادارات العسكرية المنتشرة في هذه المناطق عبر المحيط الهادئ.

 

آفاق الصراع

يعتقد أستاذ تكنولوجيا المعلومات والاتصالات السابق في معهد التعليم العالي والتكنولوجي (مقره هونغ كونغ) دانغ لو، على ما سبق بأن الفضاء السيبراني مجال عام ومفتوح ويفترض أن لا يكون ساحة معركة وميداناً عسكرياً لإظهار القوة، منتقداً عسكرة الفضاء السيبراني والسعي إلى الهيمنة لأنهما سيؤديان حتماً إلى تدهور بيئة الأمن العالمية، وسيهددان استقرار النظام الدولي برمته.

وتكمن المشكلة في الفوضى التي تعم المجتمع الدولي وما تجلبه من عدم اليقين، بحسب لو، الذي أضاف موضحا أنه مع ظهور الفضاء السيبراني، لم ينحسر هذا النوع من الفوضى بل أصبح أكثر خطورة، خاصة أن الفضاء السيبراني باعتباره مجالاً حديثاً يعاني من نقص كبير في اللوائح التنظيمية، فضلاً عن تعامل القوى الدولية معه باعتباره ميداناً للصراع واستعراض القوة. ولفت أنه في ميزان القوة لا تزال الولايات المتحدة متقدمة على الصين بخطوات بعيدة، بالرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها الأخيرة لتطوير قدراتها السيبرانية.

لكن مع إنشاء القيادة السيبرانية من قبل الجيش الأميركي، أصبحت عسكرة الشبكة أمراً مفروغاً منه، يقول لو، لك أن تتصور إذا خرجت المواجهة السيبرانية بين الصين والولايات المتحدة عن السيطرة، فإنها ستتصاعد حتما إلى مواجهة أكثر خطورة تهدف إلى مهاجمة البنية التحتية الوطنية الحيوية، أو حتى قد تتصاعد إلى مواجهة عسكرية حقيقية، وتؤدي إلى مواجهة نووية. وانطلاقاً من هذه المخاوف بلا شك من الأهمية بمكان بالنسبة للصين والولايات المتحدة الاهتمام بالمصالح الأساسية الرئيسية لبعضهما البعض، وإدارة خلافاتهما عبر قنوات الحوار، وإنشاء آلية فعالة لإدارة الأزمات السيبرانية والسيطرة عليها قبل فوات الأوان.