الاكتظاظ السكاني في غزة... ترد صحي واشتعال الحرائق في منازل القطاع

الاكتظاظ السكاني في غزة... ترد صحي ونفسي واشتعال الحرائق في منازل القطاع

غزة
الصحافي محمد الجمل
محمد الجمل
صحافي فلسطيني، يكتب لقسم التحقيقات في "العربي الجديد" من غزة.
27 نوفمبر 2022
+ الخط -

يعاني الغزيون من تداعيات اجتماعية وصحية بسبب نسبة الكثافة السكانية المرتفعة والاكتظاظ الذي يجعل بيئتهم غير آمنة، إذ تتزايد الحرائق الناجمة عن تبعات الحصار في بقعة ضيقة وتكدس الأسر الفقيرة وسط بنى تحتية متهالكة.

- فوجئ الثلاثيني الغزي يوسف الهمص، باتصال من جيرانه في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، يخبرونه باندلاع النيران في منزله الذي لا تتجاوز مساحته 75 مترا مربعا، ما أدى إلى إصابة أفراد أسرته الستة بحروق متفاوتة وخسائر مادية كبيرة، وتبين لاحقا أن سبب الحادث تسرب غاز الطهي، لكن ما سبق لا يقارن بما وقع للعائلة عقب شهرين فقط، إذ توفي ابنها البالغ من العمر خمسة أعوام دهساً بينما كان يقف أمام بوابة المنزل الواقع في حي شديد الاكتظاظ بمدينة رفح جنوب القطاع.

ويعاني القطاع المحاصر من تبعات التكدس السكاني الشديد ومن بينها حرائق المنازل والتي تحتل النسبة العليا ضمن هذا النوع من الحوادث، بحسب مراجعة البيانات الشهرية والسنوية لإدارة الإطفاء والإنقاذ في جهاز الدفاع المدني كما يفيد مسؤول الدائرة المقدم محمد أبو جلمبو، مشيرا إلى أن عام 2020 شهد اندلاع 1513 حريقاً في قطاع غزة، 36% منها بالمنازل، بينما في 2021 اندلع 2197 حريقاً 38% منها وقعت داخل منازل ومنها 616 حريقا بسبب العدوان الاسرائيلي على القطاع في مايو/أيار.

كثافة هائلة في غزة

بلغت الكثافة السكانية في القطاع 5853 فرداً لكل كيلومتر مربع خلال العام الماضي، بحسب ما جاء في التقرير السنوي للصحة والسكان الصادر عن الوزارة المختصة في شهر إبريل/نيسان الماضي، بينما يصل متوسط الكثافة السكانية عالميا إلى 101.8 نسمة لكل كيلومتر مربع كما يقول الدكتور أحمد حلس رئيس المعهد الوطني للبيئة والتنمية، والذي يحذر من أن الكثافة الضخمة أعلى بكثير من قدرة النظام البيئي والعمراني والخدماتي.

الصورة
الكثافة السكانية غزة
تحتل مخيمات اللاجئين 35% من إجمالي مساحة قطاع غزة (العربي الجديد)

وتحتل مخيمات اللاجئين الثمانية المنتشرة في القطاع، 35% من إجمالي مساحته المقدرة بـ 365 كيلومترا مربعا، ويقطنها 65% من اللاجئين البالغ عددهم 1.4 مليون من أصل 2 مليون غزي، ويتراوح متوسط حجم المنزل في المخيم بين 65 و80 متراً مربعا، ويقطنه ما بين 8 و12 فرداً، كما يقول أحمد عدوان مسؤول الإعلام باللجنة الشعبية للاجئين (تتبع منظمة التحرير) في مخيم رفح.

ويزيد عدد الأفراد المتواجدين في منازل القطاع بضعفين عن النسب العالمية، إذ يجب ألا يتخطى عدد القاطنين في مساحة 100 متر مربع 4 أو 5 أشخاص، كما يوضح الدكتور حلس المحاضر في برنامج ماجستير علوم البيئة بجامعة الأزهر.

تبعات صحية وبيئية

يعاني القطاع عجزا يصل إلى 140 ألف وحدة سكنية، ويحتاج سنوياً إلى 14 ألف وحدة جديدة، كما يقول ناجي سرحان وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان، والذي أكد أن قرابة 25 ألف وحدة مأهولة مهترئة وتحتاج إلى إعادة بناء فوراً وقرابة 60 ألف وحدة تحتاج إلى ترميم وإعادة تأهيل حتى تلبي معايير الحد الأدنى الملائم للسكن.

يعاني القطاع عجزاً يصل إلى 140 ألف وحدة سكنية

ويحذر حلس وعدوان من خطورة اتجاه العائلات الغزية إلى تزويج أبنائها الشباب في غرفة داخل منزل العائلة المكتظ أصلا، وبالتالي يزداد الازدحام والكثافة وتتراجع جودة الخدمات وتتفاقم المشكلات الصحية والنفسية.

ويتوقع أن يصل عدد سكان غزة إلى 3.3 ملايين نسمة بحلول عام 2030، و4.2 ملايين نسمة في عام 2050، بحسب تقرير عام 2016 الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان، وهو ما يعني وفق حلس وعدوان أن البيت الذي لا تزيد مساحته عن 75 متراً مربعا ويستوعب ما بين 8 إلى 10 أفراد سيعيش فيه 15 فردا وربما أكثر. 

ويضيف حلس أن مشكلة الاكتظاظ السكاني في طريقها إلى التفاقم، وبالتالي يترتب عليها مشاكل صحية وبيئية في مقدمتها الحرائق وتهالك شبكات المياه والصرف الصحي، ما يؤدي إلى تزايد إمكانية الإصابة بأمراض جلدية وتنفسية، وبالمقابل على بعد كيلومترات معدودة من غزة، يعيش "الإسرائيليون" في وضع سكاني متميز، ويتم إنشاء مدن وقرى بأحدث المواصفات، وبلا تكدس، كما تكشف صور الأقمار الصناعية الملتقطة عبر تطبيق غوغل إيرث لمنطقة زكيم التي تقع على بعد 12 كيلومترا من مدينة غزة.

الصورة
مستوطنة زكيم
صورة عبر غوغل إيرث تبين تزايد التكدس العمراني في رفح جنوب غزة (يميناً)، بينما يعيش "الإسرائيليون" في وضع سكاني متميز في مستوطنة "زكيم" (يساراً) على بعد 12 كم من غزة (العربي الجديد)

وتنعكس تبعات التكدس السكاني على الوضع الصحي المتراجع في القطاع، إذ سجل عام 2021 ارتفاعا في الامراض التنفسية، خاصة السل والذي أصيبت به 25 حالة جديدة، مقارنة بـ8 حالات في عام 2020، في حين ارتفع عدد المصابين بالإسهال من بين الأطفال ممن هم أقل من 3 أعوام بـ110%، وعند الأطفال ممن تزيد أعمارهم على 3 أعوام، 119%، مقارنة مع عام 2020، بحسب ما جاء في تقرير الصحة والسكان، وهو ما يعد مؤشرا على ارتفاع نسب تلوث الماء والغذاء والبيئة المحيطة بالأفراد كما يقول الدكتور حلس.

الصورة
حرائق في منازل القطاع

 

لماذا تشتعل منازل القطاع ؟

تسبب التماس الكهربائي في 15% من الحرائق بالقطاع، بينما أدى العبث في تمديدات الكهرباء إلى 21.5% من الحرائق، وكان الاهمال سبباً في اندلاع 15% من حوادث الحريق كما يقول المقدم أبو جلمبو الذي يوضح أن أزمة الكهرباء دفعت الغزيين إلى تمديد شبكات بديلة وعشوائية متشابكة ومتداخلة، إذ يوجد خط لشركة توزيع الكهرباء وخطوط لمولدات الأحياء، وتمديدات للمصابيح الصغيرة "ليدات"، وأغلبها خارجية، ما أدى الى ظهور شبكات عنكبوتية في مساحات ضيقة وجدران متهالكة، بالإضافة إلى بطاريات تخزين الطاقة ووسائل شحنها والتي تعد سببا رئيسيا للحرائق في حال انفجارها لكن الغزيين لا يمكنهم التخلي عنها إذ تستخدم لإنارة المنازل في حال انقطاع خطي الشركة ومولدات الأحياء.

تسبب التماس الكهربائي في 15% من الحرائق بالقطاع

واندلع 125 حريقا في القطاع، بسبب "الإهمال وعدم تغطية أسلاك الكهرباء الخارجية أو تأمينها، و"التماس الكهربائي" في شهر سبتمبر/أيلول الماضي كما يقول أبو جلمبو الذي يواجه وزملاءه في الدفاع المدني مشكلات كبيرة تعيقهم عن الوصول إلى بعض أماكن الحرائق، جراء الكثافة السكانية العالية وضيق الشوارع، كما خلق عدد الحوادث الكبير تحديات واجهت جهاز الدفاع المدني الذي يمتلك 18 مركزاً، و27 سيارة إطفاء أحدثها يزيد عمرها عن 27 عاماً، بسبب منع الاحتلال إدخال سيارات جديدة ومعدات إنقاذ وإطفاء، ونتج عن ذلك ضعف قدرة الجهاز كما يقول أبو جلبمو.

وتفتقر 95% من  منازل القطاع خاصة في المخيمات إلى شروط الأمن والسلامة، كما يقول مدير دائرة الإطفاء والإنقاذ وعدوان والدكتور حلس والذي يوضح أن شبكات الكهرباء لا بد أن تكون موحدة ومصممة بطريقة آمنة غير ظاهرة، وأن يكون المنزل جيد التهوية، ومتوافقا مع عناصر التخطيط العمراني. ويشير حلس إلى أن البيوت المتكدسة يخرج منها كم أكبر من النفايات الصلبة، كما أن شبكات الصرف الصحي غير قادرة على خدمة هذا العدد الكبير من السكان القاطنين في بقعة جغرافية صغيرة، وبالتالي تتراجع الظروف الصحية في القطاع.

في حين يقول الطبيب الاختصاصي جمال العصار الذي يعمل في قسم الحروق بمستشفى الشفاء الحكومي، إنهم يستقبلون أعداداً متزايدة من إصابات الحروق، أغلبهم ضحايا أزمة الكهرباء المستمرة.

ويلجأ 5500 مصاب بالحروق لمنظمة أطباء بلا حدود الفرنسية سنوياً، 60% من بينهم أطفال دون 15 عاماً، إذ تمتلك المنظمة أربع عيادات ثابتة في غزة، وقسمين متخصصين بعلاج وتأهيل الحروق في مستشفيي الشفاء وناصر الحكوميين، كما يقول مراد الحلاق الأخصائي النفسي والاجتماعي بالمنظمة.

وتقدم المؤسسة ثلاثة أشكال من علاج الحروق للأطفال المصابين بشكل مجاني وهي التكميلي، والوظيفي، والرقع الجلدية، والتي تفتقر إليها مشافي غزة، وفي حال لجأ المصابون إلى عيادات خارجية لن يمكنهم تحمل تكلفتها الباهظة، وبحسب الحلاق فإنه وبمراجعة الحوادث اتضح أن ثمة ثلاثة أسباب رئيسية للحرائق في غزة، أولها الإهمال، ثم استخدام وسائل طاقة غير آمنة في ظل أزمة الكهرباء المستمرة، إضافة للسبب الثالث والذي يكمن في ضيق المنازل واكتظاظها وهي إحدى نتائج حالة الفقر في القطاع، وتزداد الحوادث في فصل الشتاء إذ يلجأ الغزيون إلى وسائل تدفئة غير آمنة ما يشكل عبئا إضافيا على المؤسسة، التي تسعى جاهدة لتقديم خدماتها للمصابين دون توقف.

مشكلات نفسية وسلوكية

تربط علاقة قوية بين الكثافة السكانية العالية، وغياب المسكن الملائم من جهة، وبين مشكلات عدة أبرزها الاضطراب النفسي والعاطفي الذي يعاني منه 80% من أطفال غزة، إضافة لمعاناة أكثر من نصف الأطفال من مشاكل أخرى مثل قلة التركيز، ومشكلات سلوكية، وفقدان الشغف للحياة، والتبول اللإرادي، وفق ما توصلت إليه دراسة بعنوان "تأثير 15 عامًا من الحصار على الصحة النفسية لأطفال غزة" ، أعدتها مؤسسة إنقاذ الطفل (أهلية) ونُشرت في شهر مارس/آذار الماضي.

الصورة
غزة حرائق

ويوضح الطبيب والمعالج النفسي الدكتور يوسف عوض الله، مدير عيادة رفح النفسية، أن السكن في بيوت ضيقة ومناطق مكتظة، وبعدد أفراد كبير يؤدي إلى مشاكل نفسية وسلوكية، مؤكدا أن هذا الواقع غير الطبيعي يخلق بيئة غير صحية، وينتج عنه أمراض ومشكلات نفسية، قد تتحول لأشكال من الصراعات الخطيرة، تهدد بنية المجتمع، خاصة في المناطق المزدحمة مثل المخيمات، ذات المنازل المتلاصقة، كما تتحول تلك المناطق تدريجياً إلى بيئة حاضنة للعنف، ومسببة لما يعرف محلياً بـ "مناطق البلطجة"، وهو ما يفسر الشجارات المستمرة، والتي أودت بحياة 11 مواطناً في غزة، وأكثر من 120 مصابا، منذ بداية العام الحالي، وفق توثيق الهيئة الفلسطينية لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" (حكومية) والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان (أهلي).

وسجلت 90 ألف زيارة ومراجعة لمستشفى الطب النفسي الوحيد في غزة، والعيادات النفسية الحكومية المنتشرة في القطاع، خلال العام المنصرم 2021، وتعد الفئة العمرية بين 30 و39 عامًا الأكثر عرضة للاضطرابات النفسية بنسبة 35%، تليها الفئة العمرية بين 20 و29 عامًا، بحسب آخر إحصائية غير منشورة وحصل عليها معد التحقيق من دائرة الصحية النفسية بوزارة الصحة ويعلق مدير عام إدارة الصحة النفسية بالقطاع الدكتور جميل سليمان، على ما سبق قائلا :"أكثر من نصف سكان قطاع غزة يعانون من مشاكل نفسية نتيجة تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية والظروف القاسية التي تعيشها العائلات".

ذات صلة

الصورة
معرض

منوعات

شهدت مدينة أوتريخت الهولندية، أمس الأحد، عرض 14 ألف حذاء لطفل بغرض لفت الأنظار إلى شهداء قطاع غزة من الأطفال الذين سقطوا على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي.
الصورة

مجتمع

قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، الخميس، إن آلافاً من أصحاب الأمراض المزمنة والخطيرة في قطاع غزة يواجهون حكماً بالموت البطيء، ومنهم مرضى الفشل الكلوي.
الصورة
أسواق الضفة الغربية/الأناضول

اقتصاد

يُجبر الفلسطينيون في غزة على صوم طويل بلا إفطار في شهر رمضان وسط حصار قاتل، في الوقت الذي تعاني أسواق الضفة الغربية من قطع الأرزاق.
الصورة
الطفل الفلسطيني يزن الكفارنة في مستشفى في رفح في قطاع غزة (جهاد الشرافي/ الأناضول)

مجتمع

في اليوم الـ150 من الحرب على قطاع غزة، توفي الطفل الفلسطيني يزن الكفارنة البالغ من العمر 10 أعوام، نتيجة إصابته بسوء تغذية حاد وسط نقص كبير في الإمدادات.