الأبواب الموصدة... دعم الدولة يحول بين المهاجرين والسكن اللائق بالنرويج

21 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 13:54 (توقيت القدس)
عراقيل تجابه المهاجرين الباحثين عن مسكن لاستئجاره (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعاني سهى الأحمد، أم سورية عازبة في النرويج، من صعوبة في العثور على سكن لائق بسبب اعتمادها على مساعدات NAV ورفض الملاك للمستأجرين غير ذوي الدخل الثابت.
- يواجه المستفيدون من مساعدات NAV، خاصة الأمهات العازبات واللاجئين، تحديات في الحصول على سكن مناسب، حيث يفضل الملاك المستأجرين ذوي الدخل الثابت، مما يزيد من معاناتهم.
- التمييز في سوق الإيجار بالنرويج يؤثر على المهاجرين وذوي الدخل المحدود، حيث يواجهون رفضًا متكررًا ويدفعون إيجارات أعلى، مما يحد من فرصهم في الحصول على سكن لائق.

تجلس الثلاثينية السورية سهى الأحمد، أسفل ضوء خافت يتسلل من نافذة صغيرة في قبو بالكاد تدخله الشمس، وبين ذراعيها طفلها الرضيع، تتمتم بحسرة: "أريد بيتا صحيا لطفلي، ومجرد نافذة نرى منها الحياة".

تعيش الأحمد في مدينة بيرغن غربي النرويج، على مساعدة المنفعة الانتقالية (overgangsstønad) التي يمنحها مكتب إدارة العمل والرفاهية (NAV) للأمهات العازبات، وبعد ولادتها في مارس/آذار 2024، بدأت رحلة البحث عن منزل جديد، لكن كل الأبواب أوصدت في وجهها، خاصة أنها لا تملك وظيفة ثابتة، علما بأنها تحمل شهادة تخوّلها العمل مساعدة صيدلانية لكنها اضطرت لترك عملها لرعاية ابنها، وخلال رحلة بحثها عن مرادها كانت تراسل أصحاب العقارات عبر موقع Finn.no الذي يعد سوقا إلكترونيا ضخما ويشمل قسما لإعلانات الإيجارات، وتقدّم نفسها دون تحايل بأنها لاجئة سورية وأم لطفل حديث الولادة، وتضيف في رسائلها أنها تعتمد على مساعدة من مكتب العمل، على أمل أن يكون ذلك ضمانا مقبولا، إلا أن الردود جاءت مخيبة، فبعض الملاك تجاهل رسائلها تماما، وبعضهم رفض تأجيرها بسبب اعتمادها على دعم NAV وأبلغوها ذلك بشكل صريح لتجد نفسها عالقة بين جدران ذلك القبو المظلم.

وتقرّ ناتاشا تيلسون، المستشارة الأولى في مكتب أمين المظالم المعني بالمساواة والتمييز (جهة حكومية)، بانتشار التحديات في سوق الإيجار بالنرويج وفق رصد أجراه المكتب خلال السنوات الأخيرة، إذ جمع معطيات تكشف أن الإقصاء في قطاع السكن يتفاقم نتيجة التمييز الذي بات "مشكلة اجتماعية كبرى" على حد وصفها، غير أن إثباته وإحصاءه يظلّ معقدا، إذ يجري شفهيا ومن دون توثيق في أغلب الحالات، ما يجعل إجراءات الشكوى غير فاعلة أمام القضاء.

 

حين يتحول الدعم الحكومي إلى عائق

تعكس حالة الأحمد معاناة يكابدها المستفيدون من مساعدات NAV في الحصول على سكن لائق خاصة الأمهات المعيلات واللاجئين الجدد، ومن لا يمتلكون عملا ثابتا، ورغم أن القوانين النرويجية تجرّم التمييز على أساس الوضع الاجتماعي، إذ ينصّ قانون الإيجار (الفصل 8-1) على حظر رفض طالب السكن أو تغيير شروط العقد بسبب الجنس أو العِرق أو الأصل الوطني أو النسب أو لون البشرة أو اللغة أو الدين أو المعتقد أو الإعاقة أو التوجّه الجنسي، إلا أن الواقع يكشف غير ذلك، فممارسات موثقة عبر عشر حالات رصدها "العربي الجديد" تبين أن أفراد شريحة واسعة من الملاك يرفضون التعامل مع المستأجرين المعتمدين على ضمان مكتب العمل، رغم أنه مورد رسمي، بل يفضلون المستأجرين من ذوي الدخل الثابت ليكون راتبهم هو الضمان للالتزام بدفع الإيجار.

الصورة
رسائل من أجل استئجار سكن/النرويج(العربي الجديد)
رسائل رفض لسهى الأحمد عبر موقع Finn بسبب اعتمادها على مساعدات Nav (العربي الجديد)

وتؤكد الأرقام الرسمية أن الظاهرة واسعة الانتشار وتمس شريحة كبيرة من السكان، إذ تلقى 2.8 مليون شخص، أي ما يعادل نصف سكان النرويج، إعانات من NAV مرة واحدة على الأقل خلال عام 2024، شملت مساعدات ومعاشات الشيخوخة، وبلغت قيمتها نحو مليار كرونة نرويجية (100 مليون دولار أميركي)، بحسب البيانات المنشورة على موقع "ناف" الرسمي.

يرفض الملاك تأجير المستفيدين من مساعدات مكتب العمل

هذا ما لمسته العشرينية كايا أنديرسن وعانت منه على مدار 6 أشهر قضتها تبحث عن سكن في مدينة سارسبورغ في شرق النرويج، ورغم امتلاكها إقامة عمل واشتغالها في قطاع البناء منذ قدومها إلى النرويج قبل 5 أعوام، إلا أنها تعرضت لإصابة أقعدتها عن وظيفتها فباتت تتلقى مساعدة من مكتب العمل، خلال تلك الفترة، لم تكن تدرك أن الإعانة ستقف عائقا في طريق حصولها على بيت ملائم، غير أن 10 إجابات من أصحاب العقارات بالرفض أكدت لها حقيقة الوضع، فقد كان الرفض أحيانا عبر رسالة تصل إلى حسابها على Finn.no بأنهم يفضلون شخصا لديه دخل ثابت وعقد عمل، وتستذكر أنها خلال معاينتها لإحدى الشقق، ما أن اكتشف صاحب العقار أنها تتلقى مساعدات من مكتب العمل، تذرع أن هناك أشخاصا آخرين سبقوها للاتفاق معه، وتقول أنديرسن: "ربما لا يذكرون صراحة إن المساعدة هي السبب، لكن نظراتهم وكلماتهم الملتفة تكشف الحقيقة وفي اللحظة التي يعرفون الأمر، يشعرون بالرعب"، ما دفعها إلى الاستسلام والانتقال إلى سكن تؤجره البلدية ضمن شروط خاصة لمن لديهم أسباب اقتصادية أو اجتماعية، في منازل أغلبها قديم، وليست مجانية لكن إيجارها أقل من أسعار السوق، وعقود السكن فيها محدودة المدة.

نفس المواقف مرّت بها اللاجئة السورية ربا الحصري، التي تعيش في النرويج منذ عام 2016، وتتلقى مساعدة تتضمن إيجار المسكن ونفقات المعيشة من المأكل والمشرب ومصاريف المواصلات، لأنها عاطلة عن العمل، ووفق روايتها، اعتادت أن تبدأ جولات مشاهدة الشقق المعروضة للإيجار بأجواء ودية، إذ يستقبلها أصحاب العقارات بابتسامة ويبدون استعدادا للتعاون، لكن ما إن يصل الحديث إلى سؤالهم المعتاد: "أين تعملين؟"، حتّى يتغير الموقف تماما.

الصورة
رسالة (العربي الجديد)
رسالة من مالكة عقار تعتذر فيها عن تأجير اللاجئة ربا الحصري بسبب البطالة (العربي الجديد)

تروي ربا: "بمجرد أن أخبرهم أنّني أعيش من مساعدة مكتب العمل، تتبدل ملامح وجوههم، لا يرون سوى أمر واحد: أنني غير قادرة على الدفع، "لا أعرف لماذا لا يفكرون في صفاتي الأخرى، مثل قدرتي على الاعتناء بالشقة، ويركزون فقط على مصدر أموالي".
 

 

تجارب مريرة

يرفض مالك العقارات بيتر نورهايم، اتهامه بممارسة التمييز لدى رفضه تأجير المستفيدين من مساعدات مكتب العمل، ورغم أن "ناف" تدعمهم بضمان لمدة عام كامل لكن أصحاب العقارات لا يثقون به، ويبرر موقفه هذا بتجارب سابقة "مريرة" مع "ناف" تطلبت منه الكثير من الوقت والمطالبات، عندما تخلّف المستأجرون عن الدفع، ويضرب مثالا على حالة قبل فيها هذا الضمان، وعانى من عدم التزام المستأجر بالدفع المنتظم، وفي كثير من الأحيان يدفع مبلغا أقل من المتفق عليه، وفي بعض الأشهر لم يصل المبلغ إليه على الإطلاق، ولذلك حاول الاتصال بشكل متكرر بـ"ناف" أو عن طريق الذهاب شخصيا إلى مكتبهم لتحصيل الأموال كونه الضامن في هذه الحالة، لكن دون جدوى، وفي النهاية، اضطر إلى إنهاء عقد الإيجار ومطالبة المستأجر بالخروج.

التجربة المريرة ذاتها مرت بها ميلينا هادسن، مالكة منزل في مدينة كريستيانساند في جنوب النرويج، حين جرّبت تأجير بيتها بضمان "ناف"، لكنها قررت ألا تكرر الأمر بسبب الخسارة، فقد اختفى المستأجر فجأة من دون دفع الإيجار أو تقديم إشعار، فاضطرت هادسن إلى تنظيف المنزل بنفسها وتأجيره مجددا، لكنها اكتشفت أضرارا، ورغم محاولتها استرداد الضمان لتغطية الإصلاحات، فإنها لم تتمكن من ذلك بحجة عدم وجود إثبات قاطع على أن المستأجر هو المتسبب.

لذلك يحيل نورهايم المسؤولية في مثل هذه الحالات إلى مكتب العمل الذي يجعل من الصعب على مستخدمي ضمان "ناف" إيجاد إيجارات بسهولة، وهذا يتنافى مع الأهداف التي أنشئ من أجلها وهي مساعدة الناس وضمان الأمان الاجتماعي.

الصورة
إعلانات إيجارات (موقع)
                إعلانات لمنازل معروضة للإيجار عبر موقع Finn.no

لكن مكتب "ناف" في رده المكتوب الذي تلقاه "العربي الجديد" يوضح أن الضمانات جزء من الخدمات التي توفرها البلدية، ويمكن الوفاء بها بعد وقت معين والتعامل مع هذا الأمر يختلف من بلدية إلى أخرى. وتوضح إيفون ساندي، القائم بأعمال مدير مكتب "ناف" في مدينة أوليسوند في غرب البلاد أن فرعهم يقدم عادة تعاونا جيدا مع أصحاب العقارات، وتؤكد أنه في بعض الحالات، قد يستغرق الأمر بعض الوقت قبل استيفاء المستحقات، مثل الحالات التي يكون فيها خلاف بين الأطراف كما أنه يتوجب على المالك تقديم طلب مكتوب بعد إنهاء عقد الإيجار لتحصيل حقوقه، لكن في حال كان الإيجار مستمرا فإن الضمان لا يغطي شيئا.

 

المهاجرون والأقل دخلا الأكثر تضررا

تواجه بعض الفئات تحديات مركبة في الحصول على سكن مستقر، خاصة في المناطق منخفضة الدخل، وفقا لتقرير صادر عن مجلس المستهلكين النرويجي (حكومي) بعنوان "مجتمعات حضرية ذات اختلافات طفيفة" عن الفترة الممتدة من 2022 وحتى 2023، وبحسب المسح الوطني الذي أُجري عام 2021 فإن مليون نرويجي يستأجرون منازلهم، والعدد في ازدياد، وواحد من كل أربعة مستأجرين يواجه رفضا متكررا عند محاولته العثور على منزل، بينما أكد 18% منهم تعرضهم للتمييز خلال البحث عن سكن. وتوصلت نتائج المسح الذي تناولها مجلس المستهلكين في تقريره إلى أن الفئة الأكثر تضررا هي الأشخاص ذوو الخلفيات المهاجرة، أي من خارج أوروبا، وهؤلاء غالبا يواجهون عراقيل إضافية سواء من حيث قبول الطلب أو مستوى الإيجار، إذ يضطرون في كثير من الحالات لدفع إيجارات أعلى مقارنة بالمواطنين النرويجيين أو الأشخاص من خلفيات أوروبية.

يلعب الدخل المالي دوراً حاسماً في فرص الحصول على سكن

ويلعب الدخل المالي دورا حاسما في فرص الحصول على سكن، إذ تعرّض 20% من الباحثين عن منزل للرفض بسبب انخفاض رواتبهم، وتشمل هذه الفئة مهاجرين ونرويجيين على حد سواء من أصحاب الدخول المحدودة، ما يفاقم التفاوت الاجتماعي داخل سوق الإسكان، بحسب مجلس المستهلكين.

وتعكس التجارب التي وثقها التحقيق، هذه الإحصائيات بوضوح، إذ تواصل "العربي الجديد" مع 3 وكالات عقارية من بينها وكالة كروغسفيين، الواقعة في مدينة موس شرقي النرويج، فأكدوا أنهم  يشهدون تمييزا واضحا من قبل بعض المُلاك، خصوصا ضد الأشخاص الذين يحملون أسماء غير نرويجية.

وهذه الظاهرة تتجلى بوضوح في قصة أسرة فلورين أونت، المكونة من خمسة أطفال ووالدين بدآ رحلة البحث عن منزل آمن لأطفالهما، لكنهما واجها صعوبات غير متوقعة استمرت عاما كاملا قبل أن يتمكنا من العثور على مكان للعيش فيه، كما تروي الوالدة روكسانا أونت: "لم نفهم سبب سؤالنا عن خلفيتنا العرقية وانتمائنا الديني لدى معاينة المنازل، بمجرد أن قلنا إننا من رومانيا، ساد الصمت التام بين أصحاب المنزل، وكان واضحا كيف تغيرت وجوههم، رغم أننا كلينا نعمل بوظائف ثابتة ودوام كامل".

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ يوضح الأب أن السؤال عن عدد أطفالهم كان دائما مصحوبا بنظرة استغراب وبما معناه: "أي نوع من الناس أنتم حتى تنجبوا هذا العدد الكبير من الأطفال؟" وتكرر السؤال عن أصلهم، حتى أدرك الوالدان أن السبب الحقيقي وراء ذلك هو كونهم مهاجرين، وهذا التمييز منعهم من الحصول على سكن مناسب لفترة طويلة، كما أنهم لم يتمكنوا من طلب المساعدة القانونية أو أي دعم آخر، تقول الوالدة: "وقعنا ضحية للتمييز فقط لأننا مختلفون".

وحتّى المرضى لم يسلموا من التمييز في سوق السكن النرويجيّة، كما يظهر في حالة السوري غيث منصور، وهو أب لثلاثة أطفال، تحولت رحلة البحث عن مسكن جديد لعائلته إلى سلسلة من الخيبات، فبعد سنوات شغل قضاها طباخا في أحد المطاعم، أجبرته إصابة عمل على ترك وظيفته، ليعتمد منذ ذلك الحين على دعم مكتب العمل من خلال "ضمان العجز"، ومع اقتراب انتهاء عقد إيجاره القديم ورفض المالك تجديده بدعوى رغبته في بيع المنزل، بدأ غيث رحلة البحث عن بديل، غير أن الردود التي تلقاها أكدن له أن كل الأبواب مغلقة في وجوههم، فبعض المالكين تحججوا بعدد أطفاله الثلاثة وما قد يسببونه من "إزعاج"، فيما برّر آخرون الرفض صراحة بكونه يعيش على المساعدات، متجاهلين حقيقة أنه مريض وغير قادر على العودة إلى العمل.