استمع إلى الملخص
- الاحتلال الإسرائيلي يعرقل ترميم المواقع الأثرية بفرض عوائق قانونية واعتبارها مناطق عسكرية، مما يمنع العمل الفلسطيني ويؤدي إلى تدهور المباني.
- تواجه الجهات الفلسطينية صعوبات في تمويل الترميم بسبب القيود الإسرائيلية، مما يضطرها لتعديل خططها، ويهدد بفقدان التراث الثقافي الفلسطيني.
يوماً وراء يوم تتحول مواقع أثرية فلسطينية في الضفة الغربية إلى أكوام من الحجارة، جراء استهداف إسرائيلي ممنهج يقوم على منع الصيانة والترميم وترك الباقي للعوامل الجوية حتى تكمل مهمة إبادة تاريخ السكان الأصليين.
- يراقب الثلاثيني الفلسطيني مهران البطش، مبنى فرّاح التراثي الذي يعود بناؤه إلى العهد العثماني، خشية أن تتهاوى حجارته وتصيبه أو من يوجد في بقالته، بالبلدة القديمة في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، وبالقرب منه يقع 12 بناء تراثياً، منها ما شُيّد في العهد الأيوبي أو العثماني أو المملوكي، وكلها تمتاز بروعة عمارتها المتكاملة مع الأسواق القديمة والأزقة المبلطة والمسقوفة، وما يزيدها جمالاً القناطر وهيكلها التسقيفي المعماري المُكور من الداخل.
تقع بقالة البطش، أسفل بناية فراح المؤلفة من 3 طوابق، والتي باتت آيلة إلى السقوط، خاصة أن إحدى غرفها انهارت بشكل تام قبل 7 أعوام، بعد منع سلطات الاحتلال للجنة الإعمار من إجراء التدخل اللازم والترميم، ويمضي الرجل أيامه في وجل من سقوط الحجارة، خاصة أنه يرى بين الحين والآخر شروخاً تزيد مع مرور الوقت ويسمع أصوات تساقط بعض قطع الحجارة الصغيرة، كلما هطل المطر أو كان هناك رعد أو برق، ما زاد خوفه من انهيار المبنى وقتل من يوجد إلى جانبه وخسارة كل ما يملك.
وعلى الرغم من أن مبنى فرّاح مصنف من الممتلكات المادية ذات القيمة التاريخية والجمالية والمعمارية، بحسب بيانات لجنة إعمار الخليل (حكومية تختص بالحفاظ على تراث المدينة)، لكن الاحتلال الإسرائيلي يمنع ترميمه وصيانته، كغيره من المواقع والمعالم الأثرية، إذ تضم فلسطين 5 آلاف من المعالم التاريخية مثل المقابر والمقامات والكهوف والمعابد والأبراج، ومعاصر العنب والزيتون، بالإضافة إلى 2098 موقعاً أثرياً رئيسياً، 2053 منها في الضفة الغربية، وتخضع 53% من بينها لسيطرة الاحتلال، بسبب وقوعها في المناطق المصنفة "ج" (تحت السيطرة العسكرية والإدارية الإسرائيلية الكاملة)، كما يقول مدير عام الترميم وإدارة المواقع في وزارة السياحة والآثار، إيهاب الحاج داود.
كيف يعرقل الاحتلال ترميم المواقع الأثرية؟
يلجأ الاحتلال إلى أساليب منها فرض العوائق القانونية لعرقلة عمليات الترميم، كالادعاء بأن العمل في المواقع الأثرية في حاجة إلى خبير، أو التذرع بأن تلك المواقع ليست ضمن صلاحيات عمل المؤسسات الفلسطينية، بل ما تسمى بدائرة الآثار الإسرائيلية التابعة لضابط الإدارة المدنية، ومن ثم لا يمكن للجهات الفلسطينية العمل فيها من دون تصريح، أو أنها محمية طبيعية أو منطقة عسكرية يمنع التدخل فيها، وفي كل تلك الحالات يجري اتخاذ القرارات من دون تعليمات مكتوبة، كما وثق المدير السابق لمركز المعمار الشعبي الفلسطيني - رواق (غير حكومي)، المهندس المعماري خلدون بشارة، و"ما كل ذلك إلا تدمير للمواقع الأثرية بأدوات بيروقراطية".
53 % من المواقع الأثرية في الضفة الغربية تخضع لسيطرة الاحتلال
وثمة خصوصية للظاهرة جعلتها أكثر خطورة في الخليل التي تعد المدينة الأولى من حيث عدد المواقع الأثرية، إذ تضم 363 موقعاً، بحسب بيانات وزارة السياحة والآثار. وهذه المواقع تستهدفها سلطات الاحتلال عبر اعتبارها مناطق أمنية إسرائيلية، وهو المبرر المستخدم غالباً لإعاقة عمل الطواقم التي تقوم بعمليات مسح وتقييم لحالة تلك المواقع، لكنهم يتعرضون لطردهم منها ومنعهم من العودة إليها كما يقول المدير السابق لمديرية السياحة والآثار في محافظة الخليل سامي أبوعرقوب، ناهيك عن مضايقات المستوطنين المستمرة للطواقم الفنية.
ومن أمثلة ذلك الأوامر العسكرية التي تحظر ترميم المباني التراثية المحاذية للمستوطنات، حتى وصل الحال بسلطات الاحتلال إلى تشميع ولحام مداخل بعضها، أو حضور الدوريات الإسرائيلية إلى مواقع المباني التي ترمّمها فرق لجنة الإعمار، بحيث يتم إجبار المتعهدين والمشرفين والعمال على مغادرة المبنى من دون تسليم أي أوامر مكتوبة خشية استخدامها لاحقاً لدى المحاكم أو الجهات الرسمية، علماً أنه في حال استأنفت الفرق الفلسطينية عملها يمكن حجزهم أو احتجاز هوياتهم، أو يتم تسليمهم إنذارات واستدعاءات للتحقيق، وسبق أن تمت مصادرة معدات المتعهدين والمقاولين الذين يقومون بعمليات الترميم، واعتقال البعض، كما يؤكد وزير الثقافة حالياً، ومدير لجنة إعمار الخليل سابقاً عماد حمدان.
كل ذلك أسفر عن تدهور الحالة الإنشائية لخمسين مبنى لم تُجر لها أي صيانة أو ترميم منذ 25 عاماً، وتوشك بعضها على الانهيار مثل مباني الشعراوي وسياج وفراح، الواقعة في البلدة القديمة بالخليل، إذ سقطت جدران بعض غرفها بشكل كلي، بعد منع الاحتلال للترميم والصيانة، والأمر ذاته حدث لعدد من المباني الواقعة شرق الحرم الإبراهيمي، وفق حمدان.
إخطارات واحتجاز ومصادرة
أنذر الاحتلال المجلس البلدي لقراوة بني حسان في محافظة سلفيت شمال الضفة الغربية، في عام 2021، بالتوقف عن تنفيذ أعمال ترميم كانت تجري بالتعاون مع وزارة السياحة في الموقع الأثري دار الدرب الموجود بالبلدة، وهو عبارة عن مقبرة رومانية محفورة بالصخور، وتكرر الأمر ذاته في قصر المورّق الأثري الذي يعود للعصر الروماني والموجود في منطقة الكوم التابعة لمدينة دورا جنوب محافظة الخليل، بحسب داود.
وفي بلدة سبسطية الأثرية شمال غرب مدينة نابلس، تلقت البلدية 10 إخطارات خلال الأعوام الأربعة الماضية، منها ما كان يرد للبلدية وأخرى تلصقها سلطات الاحتلال في المواقع الأثرية لمنع فرق البلدية وموظفي وزارة السياحة من القيام بأي أعمال من دون تصريح ما تسمى الإدارة المدنية، أو إزالة أي خدمات قدمتها البلدية كالأكشاك السياحية، كما تكرر احتجاز الطواقم الفنية 10 مرات، وصودرت الآليات المستخدمة 4 مرات، بالإضافة إلى استدعاء العاملين لمراجعة الشرطة الإسرائيلية، وفرض الغرامات، واستخدام طائرات الدرون الإسرائيلية للمراقبة والملاحقة بشكل دائم، كما يقول رئيس بلدية سبسطية محمد عازم. وضرب داود مثالاً بواقعة إيقاف الاحتلال عملهم في موقع سبسطية الأثري عام 2022، والذي يُعد من أكثر المواقع التي تتكرر فيها عمليات منع الترميم والصيانة، ووقتها جرى حجز هويات العاملين ومشرفيهم من وزارة السياحة والآثار، ووجه الاحتلال إخطاراً خطياً لهم بمنع العمل لأن المنطقة مصنفة ضمن "ج"، وسبق ذلك أن بادرت الوزارة عام 2017 بإيفاد فريق مختص للعمل على ترميم المنطقة الأثرية القريبة من ساحة البازيليكا المبلطة بالحجر وتعود للعصر الروماني، عقب أعمال حفر وتخريب في الأرضية الأثرية على يد المستوطنين الذين أقاموا احتفالات فيها، إلا أنه تم إيقاف العاملين واحتجازهم لفترة من قبل قوات الاحتلال ومنعهم من الترميم، ما أبقى الموقع على حاله من ذلك الحين.
وبحسب بيانات لجنة إعمار الخليل التي حصل عليها "العربي الجديد"، يخضع 49 معلما في المدينة لأوامر عسكرية من الاحتلال تقضي بمنع الترميم، منها بيوت ومساجد وأسواق قديمة، وغالبيتها أوامر شفهية، ولم يصدر الاحتلال إخطارات مكتوبة إلا في 12 موقعا.
تداعيات كارثية
في مطلع عام 2023، اكتشفت فرق بلدية سبسطية أثناء شق أحد الشوارع وجود مدفن أثري، وشرعت في التنقيب بمشاركة المسؤولين من وزارة السياحة لتوثيق الموقع المكتشف وحمايته، ولم تمض دقائق حتى وصلت قوات الاحتلال وحجزت العاملين أكثر من 12 ساعة، وسلمتهم استدعاءات لمراجعة الشرطة الإسرائيلية، وصادرت الآليات البالغة قيمتها 150 ألف شيكل (40 ألف دولار)، وألزمت البلدية دفع غرامة قدرها 10 آلاف شيكل (2670 دولاراً)، علماً أن المنطقة مصنفة "ب" أي إنها خاضعة لإدارة فلسطينية وسلطة أمنية إسرائيلية، كما يؤكد عازم.
ومنذ ألصقت دائرة الآثار الإسرائيلية إخطاراً على الباب الرئيسي لمقام النبي صالح في بلدة ترقوميا غرب الخليل عام 2022 لم تتمكن فرق الوزارة والمتطوعين من دخوله والعمل فيه، إذ نص على أنه: "بأمر من الحاكم العسكري وما يمتلك من صلاحيات في منطقة يهودا والسامرة، يتم إيقاف العمل بشكل فوري، وخلاف ذلك يتم أخذ الإجراء بحق المخالفين"، وهو ما حدث في كنيسة بيت عينون على مدخل بلدة سعير شمال شرق الخليل، والتي تعتبر من الكنائس الأثرية الفريدة من نوعها في منطقة الجنوب، كما يقول رئيس قسم المواقع في مديرية السياحة والآثار بمحافظة الخليل، جبر الرجوب.
إلا أن ما وقع في موسم الشتاء الماضي، كان أكثر كارثية، إذ سقط أحد الأعمدة الرومانية الذي يزيد عمره على 3 آلاف عام وتحطم وسبّب تدمير قاعدة عمود مجاور في ساحة البازيليكا الأثرية في بلدة سبسطية، بسبب حالة الضعف التي وصلت إليها الأعمدة فلم تعد تقاوم العوامل الجوية، وكثير منها باتت متآكلة ومهيأة للسقوط، بعد أعوام من منع ترميمها، وتختصر الانهيارات في البرج الهيلينستي المشيّد من الحجارة، والذي يتوسط مواقع سبسطية الأثرية، الحديث عن تبعات منع الاحتلال لصيانة هذه المواقع واتخاذ الإجراءات لحمايتها، كذلك انهار وتضرر ما لا يقل عن 500 متر من السور المحيط بالمدينة الرومانية والذي يزيد طوله على 4 كيلومترات، لدرجة أن معالمه لم تعد موجودة، وفُقدت حجارته المنهارة والمتناثرة، كما انهار 50% من الجدار الذي يسند كنيسة الرأس التي تعود للعهد البيزنطي وتهالكت العديد من آثار ساحة البيدر ومنطقة الدكاكين بشارع الأعمدة، بحسب عازم، وهو ما يفسره بشارة بـ"الإبادة الحضرية والتاريخية"، بما يحول تلك المواقع إلى كومة من الحجارة، كما هو الحال في قرية خربة المالح الأثرية في محافظة طوباس شمالاً، والتي تحتاج منذ سنوات إلى عملية الترميم وستنهار ونحن ننظر إليها".
يدمر الاحتلال المواقع الأثرية عبر منع ترميمها وعرقلة محاولات صيانتها
ولا يفرط بشارة في تشاؤمه. إذ سبق أن انهار مبنى سنقرط التراثي الواقع شرقي الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل عام 2014، نتيجة تدهور وضعه الإنشائي بسبب منع الاحتلال ترميمه، وتهدمت بعض الغرف وأجزاء غالبية المباني في حوش قفيشة (بناية تراثية) على مراحل خلال عامي 2013 و2014 إلى أن هدم المستوطنون المبنى بالكامل عام 2022 وفق توضيح حمدان.
المنع المتكرر يعيق الحصول على تمويل للترميم
تواجه الجهات المختصة بالحفاظ على الإرث التاريخي في فلسطين صعوبات في الحصول على التمويل حاليا، بسبب تكرار منع الاحتلال تنفيذ المشاريع للمواقع المستهدفة في المناطق المصنفة "ج"، وهو ما يعبر عنه المهندس داود بقوله: "لم نعد نقدم للممولين مشاريع ترميم في المناطق المصنفة ج، لأنهم أدركوا أن ترميم المواقع الأثرية في تلك المناطق صعب، وصار أحد الشروط المتعارف عليها ضمنيا أن يكون الترميم في المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية".
ويضرب داود مثالا على ذلك بمشروع ترميم في موقع سبسطية الأثري بالشراكة بين وزارة الحكم المحلي ووزارة السياحة والآثار بتمويل من الوكالة الكورية للتعاون الدولي، إذ جرت زيارة الموقع عدة مرات العام الماضي، وخلال تلك الجولات، لم تهدأ طائرات الدرون الإسرائيلية في السماء، ليشترط المانحون أن يقتصر العمل في المنطقة المصنفة "ب" من بلدة سبسطية الأثرية فقط، مع ذلك وبعد فترة زمنية، تراجعوا عن الاستمرار بالمشروع بالشكل المخطط له، "نتيجة لذلك، أخذنا نبسط عناصر المشروع حتى تحول لمخطط صيانة أجزاء صغيرة معينة داخل البلد، وذلك ما حدث في مواقع اخرى عديدة".
ما سبق تؤكده لجنة إعمار الخليل على لسان حمدان، إذ تحاول قدر الإمكان إتمام ترميم الموقع وفق السقف الزمني المحدد في الاتفاقية مع الجهة الممولة، لكن ما يحدث على أرض الواقع أن الاحتلال يكرر منعهم من العمل فيها، فتلجأ اللجنة إلى مراسلة الجهة المانحة بوساطات من الصليب الأحمر والارتباط الفلسطيني لإعطائهم مهلة، لكنها تصل إلى نقطة فقدان الأمل لدى استمرار الاحتلال بتعنته واعتراض عملهم، فتضطر لتحويل مسار المشروع إلى موقع آخر، أو استغلال الدعم في أعمال البنى التحتية بدلا من الترميم.