"ستموت في العشرين"... كابوس السوداني وأحلامه

"ستموت في العشرين"... كابوس السوداني وأحلامه

24 نوفمبر 2019
أبو العلا يتوسط مصطفى شحاتة وإسراء عادل (العربي الجديد)
+ الخط -
ليست جديدة الأعمال الأدبية والفنية التي يكون فيها "البطل" أو "البطلة" على موعد محدد تقريباً مع الموت. التقرير الطبي هو الذي يقول، بناء على معطيات، إن الشخص سيموت في غضون أشهر، فتسلط الكاميرا والكتابة جهدها على هذه الحياة القصيرة الثمينة.

تبدو الفكرة دائماً مغرية، ذلك أن الموت على هيبته وسره العميق، لا يمتلك الحساسية التي لدى من ينتظره.

رأينا ذلك في فيلم "التوت البري" للسويدي أنغريد بيرغمان 1957، و"قصة حب" للأميركي آرثر هيلر 1970 و"الأبدية ويوم" لليوناني ثيودوروس أنغيلوبولس 1998.

غير أن لفيلم "ستموت في العشرين" للسوداني أمجد أبو العلاء شأناً آخر. فالموت المحدد لم يستند إلى معطيات طبية، بل إلى "الفال السيئ" الذي وقع للرضيع "المزمّل" ابن القرية السودانية النائية حين أخذته أمه "سكينة" إلى الشيخ ليباركه.

في المشهد المفتاحي، وبينما الشيخ يؤدي طقس المباركة، وبين ذراعيه رضيع وسيم الطلعة، يرقص الدراويش وينشدون، وأحدهم يذكر الله ويعد تصاعدياً من واحد حتى يصل إلى رقم عشرين، فيسقط فجأة على التراب، لتبدأ قصة "المزمّل" الذي كان الرقم 20 صرخة الشؤم، وليبدأ مع أمه العد التنازلي، وما هي إلا سنوات قليلة سيتعايش الطفل مع لقبه "ود الموت"، أي ابن الموت.

سيكون ثوب الأم سكينة منذ الآن أسود، ولا لون إلا الأسود، لأن ابنها الوحيد بلا أي فرصة أرضية، بعد أن وقع "الفال السيئ" من وسيط بين السماء والأرض محل تقدير.

صديقة سكينة مثلها مؤمنة بما سيقع إذ قالت لها "يا حرقة قلبك يا سكينة". أما الأب "النور" فقد اختار أن يدير ظهره لكل هذا المشهد، وسيهاجر إلى دول أفريقية عديدة، بحثاً عن فرصة رزق. أي أنه ترك وسطاء السماء والأم التي ستحمي ولدها بأظفارها من شرور الأرض، دون أن ينقص تدينها العميق مقدار حبة رمل.

في الدوحة، ضمن فعاليات الدورة السابعة لمهرجان "أجيال" السينمائي، حضر المخرج أمجد أبو العلاء، والممثل مصطفى شحاتة، والممثلة إسراء خالد.

ومن المتوقع دائماً أن يكون المخرج بوصفه المتحدث الرسمي الأول للفيلم، أمام أسئلة عن واقعية الفيلم. هل هناك مكان معزول في العالم إلى هذا الحد؟

يتحدث أبو العلاء عن خالته التي كانت تعاني من مرض عقلي، ويتذكرها في طفولته، لم تزر طبيباً، وإنما كانت تجلب للشيخ فيجلدها بالسوط، حتى يخرج منها الشياطين.

قد يحدث هذا في مكان بعيد، لكنه أيضاً قد يقع في صلب المدينة. فمن الذي لديه وصفة واحدة للعزلة؟ إنها قد تكون في الأدغال وفي مترو الأنفاق.

هناك شخصية "سليمان" (محمود السراج) الذي يعيش في القرية عزلته مع الخمرة المغشوشة التي تهرب إليه، وعشيقة، وآلات التصوير القديمة التي كان يصور بها مجتمعاً مختلفاً قبل أن يأتي حكم الإسلاميين ويقضي على كل نشاط سينمائي، بل "كاد يقضي علينا"، بحسب مصطفى شحاتة، الذي أدى دور "المزمّل".

يقول أمجد أبو العلاء إن الفيلم خليط من الواقع الشديد والميتافيزيق، مستنداً إلى قصة قصيرة بنفس الاسم للكاتب السوداني حمور زيادة، لكنه لو شرع في فيلم لما بعد "الثورة السودانية، فسيكون 100% واقعياً".

ويضيف أن شخصية سليمان تمثله، لكنه حذف الكثير من مشاهدها حتى يكون موضوعياً، ولا يفرض رأيه.

إن سليمان هو النقيض للعبودية المقدسة، وعالمه أول مجابهة للمزمل، الذي لم يخرج من القرية إلا إليه، ليجلب له ما لا يعرف أنها الخمر الرديئة في قنينة، من بقالة "عيسى فقيري".

أشرطة سينمائية قديمة، وصورة للراقصة سامية جمال، وأغان تسمع لأسمهان وعبد الوهاب. إنه زمن روائي واقعي، يذكر بالصندوق المغبر الذي يفتحه المخرج ابراهيم شداد في الفيلم الوثائقي "الحديث عن الأشجار".

كان شداد وصحبه يمضون بحماسة نحو سينما سودانية قبل أن تتلقى ضربة قاصمة. إنهم الآن يتذكرون ذلك الزمن، ويأتي سليمان في الفيلم محرضاً "المزمّل" على مواجهة ذاته.

المزمل ختم القرآن، حتى يأتي عامه العشرون، فيمضي إلى الموت طاهراً طالباً من الله المغفرة. لذلك كان عليه بعد أن اكتشف أنه بريد الخمر إلى سليمان، أن يقطع علاقته به ويلتزم المسجد خادماً له.

في أحد أعمق مشاهد الفيلم، يأتي سليمان إلى المزمل الذي يطلب منه مغادرة المسجد وحياته كلياً. لكن سليمان يخرج ورقة بيضاء ويسأله ما هذه؟ فيقول المزمل: ورقة بيضاء. ثم يرش عليها نقاط حبر ويقول: هي الآن أكثر بياضاً مع هذه النقاط السوداء. خاتماً بأن على المزمل ألا يطلب المغفرة، وهو لم يرتكب في حياته خطيئة واحدة.

كان من الأفضل إذاً ألا يعلو صوت سليمان، حتى يترك المجال للمزمل أن يتنفس بملء رئتيه، وأن يمضي على قدميه.

يموت سليمان على كرسيه، فاتحاً الطريق القلق للمزمّل الذي يركض في خاتمة الفيلم خلف شاحنة، وطريق ترابي تعلّم عليه خطواته، ولكنه قبل كل شيء كان عليه أن يخطئ.

في القصة القصيرة لحمور زيادة يذهب المزمل أخيراً إلى قبره لينام فيه. أما في الفيلم فإن ثمة شخصيتين تدخلان إلى الفيلم: سليمان ونعيمة، وهذان سيغيران مصير المزمل.

فإذا كان سليمان امتحاناً أول لوعي المزمل، فإن نعيمة خذلت وتركت لشخص آخر يخطبها، دفعته ليصرخ الصرخة الكبرى في تاريخه العاجز، الذي ارتسم في الرمل، حين سقط الدرويش مع الرقم عشرين.

لا يريد المخرج توجيه رسائل. يقول في اللقاء "إنني إذا أردت إرسال رسالة فإنني سأبعثها في إيميل. لكن السينما هي مرايانا ولتقل ما تقول".

وعن شخصية الأم سكينة (إسلام مبارك) يلفت المخرج النظر إلى قوتها الراسخة، وإن كانت قوة سلبية دفنت نفسها في ثوب أسود، وبدأت تخط على الجدار لعشرين عاماً إشارات العد التنازلي.

نجح الفيلم في تقديم صورة أيقونية لسكينة وفي حضنها ابنها الوحيد، متأثراً -كما يقول- بلوحة مايكل أنجلو لمريم العذراء وعيسى المسيح في حضنها عقب إنزاله عن الصليب، أو ايزيس وابنها حورس في الميثولوجيا المصرية.

وكما أن لكل فيلم سينمائي فيلماً آخر يروى عنه، فإن اللقاء كشف كواليس، يرغب طاقم الفيلم في حكايتها ويرغب المتلقون في مشاركتهم إياها، خصوصاً بعد التغيير الكبير الذي يعرفه السودان.

مصطفى وإسراء شابان لم يسبق لهما أن مثّلا من قبل. يقول المخرج رداً على سؤال لـ"العربي الجديد" إن جميع العاملين في الفيلم آمنوا بأنه المزمل، لشدة ما تلبّس الدور، مبيناً أنه كان يمثل بطاقته الطبيعية دون أن تعاد مشاهده.

أما إسراء التي التقاها مصادفة، فكانت منفعلة، وتعبر بطريقة لافتة دون إدارة من مخرج وسيناريو. تمردها وجنونها -وفق أبو العلاء- دفع فوراً إلى اختيارها، قائلاً لها إنه لا يريد منها أن تتعلم التمثيل، أكثر من أن تكون ذاتها.

ألا تستحق إسراء أن تتمرد داخل الفيلم؟ لقد حاولت. غير أن حكايتها الحقيقية مثيرة تتبادل هي والمخرج سردها.

بلغت إسراء الثامنة عشرة، وقررت تغيير اسمها إلى "بنّة"، نسبة إلى لون بشرتها التي تشبه لون البن.

لكنّ لا وجود لهذا الاسم في السودان، وعليه رفض القاضي تغيير اسم إسراء، فرفعت قضية على القاضي، ودخلت لأول مرة تجربة سينمائية.

أما الممثلة إسلام مبارك، وهي معروفة في المشهد الفني السوداني، فهي في الواقع تؤدي دور سكينة، إذ تربي وحدها ثلاثة أطفال، وتعرفت أثناء التصوير على شريك حياة.

فيلم "ستموت في العشرين" أكثر من متعة بصرية ونصية. إنه صوت مغيبين بعض منه مؤلم وبعضه متهكم.

يقول أمجد أبو العلاء "قدمنا السكريبت لحكومة البشير ووافقوا عليه" لماذا توافق الرقابة المغرقة في البيروقراطية؟ يقول ضاحكاً "إنهم لا يقرؤون".

دلالات

المساهمون