سينما عربية في السويد: نقاشٌ لا يهدأ

سينما عربية في السويد: نقاشٌ لا يهدأ

15 أكتوبر 2018
روبي وأحمد الفيشاوي في "عيار ناري" لكريم الشناوي (فيسبوك)
+ الخط -
يُثابر "مهرجان مالمو للسينما العربية" في السويد على تثبيت مكانته الثقافية والفنية في شمال أوروبا. يختار أفلامًا حديثة الإنتاج لتتنافس على جوائز مختلفة. يهتمّ بسوقٍ سينمائية ولقاءات عملية ونقاشات حيوية، تتناول كلّها شؤونًا سينمائية عديدة. هذه سمات مهرجان سينمائي يُراد له نجاح واستمرارية. هذا ما يفعله "مهرجان مالمو للسينما العربية" منذ 8 دورات، إذْ يوازن بين نتاجاتٍ جديدة وقضايا آنيّة، كما يصنع حيّزًا للقاء سنوي بعنوان "نقّاد بلا حدود"، يلتقي فيه نقّاد وصحافيون سينمائيون عرب وأجانب.

السمات تلك مفتوحة على اجتهادات سنوية. لكن السمات وحدها غير كافية لتحصين مهرجانٍ يصبو إلى تقديم صورة سينمائية عربية إلى سويديين يهتمّون بجوانب ثقافية مختلفة، ولمهرجان أصبح ـ منذ أعوامٍ قليلة ـ المهرجان السينمائي العربي الأهمّ في القارة العجوز. صورة مزدوجة المهمّة: فهي تنقل بعض ما يُنتجه العرب من أفلامٍ، وفي الوقت نفسه تعكس شيئًا من وقائع العيش في بلادٍ مرتبكة ومجتمعات مضطربة. الخيارات صعبة. فرغم تمكّنه من تثبيت حضور له في جنوب السويد، إلّا أن "مهرجان مالمو للسينما العربية" يواجه تحدّيًا سنويًا في الحصول على الأفضل والأهمّ، لأن سينمائيين عربًا يُفضّلون مهرجانات أخرى، أو لديهم ارتباطات أخرى في الفترة المعتادة لتنظيم الدورات السنوية لمهرجان مالمو في الثلث الأول من أكتوبر/ تشرين الأول.

هذا غير سلبيّ كلّيًا. محمد قبلاوي، مؤسّس المهرجان ورئيسه، يجتهد في تأمين أفضل الخيارات الممكنة. يتعاون مع معنيين بالنتاج السينمائي العربي. يسأل ويبحث ويتشاور. لكن النتيجة لن تكون "كاملة الأوصاف" دائمًا، إذْ تُعرض أفلامٌ أقلّ أهمية من أخرى، إلى جانب أفلام تُثير جدلاً سياسيًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا. يُمكن اعتبار هذا بحدّ ذاته جزءًا من اشتغال المهرجان. فالعروض جانبٌ، والنشاطات المرافقة تؤمّن لمخرجين مختلفي الأساليب والاهتمامات والهواجس بعض عونٍ إنتاجي أو دعم ماليّ لإكمال مشاريع تمتلك إمكانية التحوّل إلى أفلام سينمائية مُثيرة للانتباه.

في الدورة الـ8 (5 ـ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) يظهر الاختلاف واضحًا بين المستويات كلّها للأفلام المُشاركة في مسابقتي الروائي والوثائقي الطويلين مثلاً (هناك مسابقتان أخريان للروائي والوثائقي القصيرين). افتتاحها معقود على "طلق صناعي" لخالد دياب، الذي يُعاني ارتباكات جمّة تُسيء إلى السينما وصُوَرها وجمالياتها، وتُسيء إلى راهن مصريّ لاحق على "ثورة 25 يناير" (2011)، بالاعتماد على أسلوب كاريكاتوري تهريجي مُسطّح وساذج، ومُسيء إلى فنّ الأداء. التهريج فنٌّ، لكنه في "طلق صناعي" يحتاج إلى تأهيل جذري؛ والكوميديا نوعٌ، لكنها مع خالد دياب وممثليه تفقد مفرداتها، رغم أن أبرز ممثليه، خالد الكدواني، يمتلك حِرفية أدائية تظهر في أدوارٍ سابقة له، وتنكشف في صنيع كهذا تنهار أركانه كلّها.

ختام الدورة الـ8 مرتكز على ما هو أخطر من تهريج معطّل وكوميديا معطوبة وتمثيل ساذج. فـ"عيار ناري" لكريم الشناوي يزوِّر حقائق ووقائع متعلّقة بالحراك المدني العفوي، ويُفرّغ "ثورة 25 يناير" من مضمونها الشعبي الجميل والمناضل، وينزع إلى تحطيم الثورة وبعض أبرز نماذجها من أفرادٍ يكافحون ويواجهون آلة أمنية عسكرية بأسلوب مدنيّ غير عنفيّ، فيُقتلون برصاص الأمن، ويُهانون على أيدي "بلطجية" النظام، فإذا بفيلمٍ سينمائيّ يُكمِل الانقلاب على الثورة وناسها.



خطورة "عيار ناري" تكمن في امتلاكه شكلاً سينمائيًا مشغولاً بحِرفية واضحة، فيُزوِّر ويُشوِّه لحساب سلطة تستمرّ في انقلاباتها على "ثورة 25 يناير" وخطابها السلميّ. لكن جمالياته السينمائية لن تحجب مضمونًا استفزازيًّا كذاك الذي يريده كريم الشناوي والكاتب هيثم دبور. في المقابل، فإنّ كلّ نقاش نقدي للثورة وخطابها وأسلوب عملها، ولما هو حاصلٌ بعد 18 يومًا على اندلاعها، ولما هو لاحق لهذا كلّه، ضروريّ ومطلوب. المراجعة مُلحِّة. التزوير والتشويه مرفوضان، وإنْ يتّخذان شكلاً سينمائيًا متين الصنعة، ومتماسكًا دراميًا وأسلوبيًا وأدائيًا ومناخًا عامًا.

تدور أحداث "طلق صناعي" داخل مبنى السفارة الأميركية في القاهرة، لأن الزوجين حسين (الكدواني) وهبة (حورية فرغلي) يُريدان تأشيرة سفر إلى الولايات المتحدّة الأميركية بأي ثمن، كي تتمّ ولادة توأمهما في أرضٍ أميركية، قبل أن تنقلب الأمور عليهما، فيُصبح حسين خاطفًا لموظّفين ومواطنين، ما يستدعي تدخّل الأمن المصري والـ"مارينز"(!) الأميركي لإنقاذ الرهائن. بينما تنتقل أحداث "عيار ناري" بين قسم الطب الشرعي وعالم الصحافة والإعلام وأزقّة الفقر والمهانة، كي يكتمل مشروع اغتيال شهداء "ثورة 25 يناير" على أيدي شابين (الشناوي ودبور) يبدآن مسارًا سينمائيًّا بفيلم مؤذٍ. فإصرار الطبيب الشرعي ياسر المانسترلي (أحمد الفيشاوي) على أن الشاب علاء أبو زيد (أحمد مالك) مقتولٌ برصاصة مسدس من مسافة قريبة، "أثناء" إحدى التظاهرات المواكبة لـ"ثورة 25 يناير"، يفتح أبواب الجحيم عليه وعلى الصحافية مها عوني (روبي)، التي تسعى معه إلى كشف حقيقة مقتل علاء، وهي (الحقيقة) متمثّلة بصراعٍ عائليّ داخلي بحت بين علاء وشقيقه خالد (محمد ممدوح) ووالدتهما أم خالد (عارفة عبد الرسول).

منذ عرضه في ختام الدورة الثانية (20 ـ 28 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" أيضًا، يُثير "عيار ناري" سجالاً حادًا في القاهرة، يندر فيه النصّ النقدي السوي. فالتشنّج قاسٍ، ومناصرو الثورة غير قادرين جميعهم على الخروج من الهزيمة المُصابين بها جرّاء انقلابات مُضادة عليهم وعلى ثورتهم، والراهن المصري ناتجٌ من سطوة حُكمٍ يُعيدهم إلى زمن المنقلبين عليه سابقًا، بشكلٍ أفدح وأقسى وأعنف. النص النقدي الهادئ والسوي موجود، وإن بخفر وتواضع؛ ومع هذا، يُفترض به أن يكون ركيزة نقاشٍ يتناول "عيار ناري" وما يُشبهه من أفلام ومشاريع أفلام وكتابات ونتاجات ثقافية وفنية أخرى، كي يغوص أكثر فأكثر في أحوال الثورة نفسها وإفرازاتها ومساراتها، رغم حجم الانهيار المرير لمصر حاليًا.

هذا جانب من عروضٍ عديدة في مهرجان يصبو إلى امتلاك خصوصية الاهتمام بالسينما العربية في بلدٍ مفتوح على مهاجرين ولاجئين عرب، وفي قارة تطرح تساؤلات جمّة عن العالم العربي.

المساهمون