الانتفاضة اللبنانية: أغنية ضدّ أغنية

الانتفاضة اللبنانية: أغنية ضدّ أغنية

29 أكتوبر 2019
جمعيات مرتبطة بحقوق المرأة تطالب بهتافات صائبة (أنور عمرو/Getty)
+ الخط -
لم يعرف اللبنانيون سابقاً احتجاجات "مستقلة" مثل التي تشهدها ساحات وشوارع المدن والبلدات اللبنانية منذ السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري. أغلب التحركات السابقة كانت إما حزبية، تشمل جهة واحدة أو أكثر كما حصل في 14 و8آذار 2005؛ إذ ارتبط الحراك بالانسحاب السوري من لبنان، أو مطلبية ذات ملامح سياسية تضم ناشطين أو منضوين تحت خانة اليسار اللبناني، وآخرها حراك العام 2015 الذي تزامن مع أزمة خانقة للنفايات. 
لا يتبع الحراك الذي يشهده الشارع اللبناني اليوم أياً من النماذج السابقة، وجزء كبير من المشاركين فيه، لم يسبق لهم المشاركة في تحركات راديكالية "ضد النظام" مثل التي تحصل اليوم. هذا بعكس قسم آخر من المشاركين (الناشطين والمنتمين إلى تيارات اليسار)، اعتاد على المشاركة في هذه التحركات، ويمتلك ثقافة وإرثاً احتجاجيين لطالما استعملهما في الشارع، ويعود جزء منهما إلى ما قبل الحرب الأهلية.

وجد هذا القسم من المحتجين نفسه في موقع متناقض مع الفئات الأخرى بسبب تفاوت التجربة واختلاف الثقافة والأيديولوجيا التي تنتمي إليها كل مجموعة. يمكننا القول إن "الشق الصوتي" من الحدث هو أحد مجالات هذا التناقض الأساسية. يوجد اليوم عدد كبير من المنصات الصوتية التي تبث أغاني بعضها وطني - فولكلوري (راجع يتعمر لبنان، تعلا وتتعمر، بحبك يا لبنان، دلعونا) وبعضها الآخر لنجوم البوب المعروفين، مثل عاصي الحلاني (إنك لبناني)، جوزيف عطية (لبنان راح يرجع)، أليسا (موطني – إعادة توزيع)، ملحم بركات (بيبقى الوطن)، محمد اسكندر (من أين لك هذا)، وائل كفوري (النشيد الوطني – إعادة توزيع)، وقد شارك بعض هؤلاء عبر الغناء أو الحضور المباشر في الاحتجاجات (جوزيف عطية، علاء زلزلي، سعد رمضان، رامي عياش)، أو التغريد على وسائل التواصل.

يُعرف عن هؤلاء ارتباطهم الوثيق برموز النظام، سواءً بعلاقات صداقة، أو من خلال مشاركتهم في المهرجانات الحزبية والفنية المدعومة من السياسيين (جعجع، جنبلاط، فرنجية). أما أغانيهم؛ فيمكن اعتبارها "وطنية أكثر من اللازم"، ترتكز على تمجيد الذات من خلال جعلها متفوقة على الآخر، وتقدم صورة وهمية وغير واقعية عن لبنان، غير موجودة سوى في الأحلام.

تعتبر هذه الأغاني سبباً رئيسياً للتناقض مع فئات اليسار والمجتمع المدني المشاركين في الاحتجاجات، الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على سماعها، بسبب مكبرات الصوت التي تمارس هيمنة صوتية على الآذان. كان الحل أن يتجمع الأخيرون في زوايا يضعون فيها مكبرات صوت خاصة بهم، أو ينتقلون إلى ساحات وشوارع أخرى يستطيعون فيها الغناء والهتاف وسماع ما يتناسب مع أذواقهم بحرية.

يمكن تقسيم الأغاني التي تسمعها هذه الفئة إلى قسمين: الأول يضم أغاني الجيل القديم من مغني اليسار الذين امتلكوا شعبية كبيرة خلال الحرب الأهلية، مثل الشيخ إمام، وزياد الرحباني، وأحمد قعبور، ومارسيل خليفة الذي حضر بنفسه لأداء بعض الأغاني مع كورال الفيحاء في طرابلس.

أما القسم الثاني؛ فيضم أغاني أحدث زمنياً، بعضها لـ "مشروع ليلى" وفرق من المشهد البديل، وأخرى تنتمي للموجة الجديدة من الراب التي ظهر بعضها بشكل متزامن مع حراك العام 2015 (مازن السيد، بوناصر، الطفار..)، بالإضافة لأغان مخصصة للاحتجاجات، مثل "يلي واقف عالبلكون" وغيرها، من دون أن ننسى أغنية "نشيد الثورة" التي قدمها مجموعة من الممثلين والفنانين بشكل خاص للثورة اللبنانية (بديع أبو شقرا، عبدو شاهين، آنجو ريحان...) وهي فكرة وتوزيع زياد الأحمدية وكلمات مهدي منصور.

انسحب "التناقض الصوتي" هذا على الهتافات أيضاً. بدأت بعض المجموعات المنتمية إلى جمعيات حقوقية أو مرتبطة بحقوق المرأة، بالمطالبة بهتافات صائبة سياسياً لا تستعمل العضو الأنثوي كشتيمة كما هو الحال مع الهتاف الأكثر شعبية "هيلا هيلا هيلا هو، جبران باسيل ... إمو". يذكر أن هذا الهتاف سابق على الثورة، ويقال إن منشأه ملاعب كرة القدم، وأتى نتيجة التناقض السياسي والطائفي بين الفرق المحسوبة على أحزاب السلطة (مع ذلك، شكل مشجعو بعض فرق كرة القدم وقوداً للاحتجاجات منذ البداية).

من التناقضات الأخرى المثيرة للاهتمام، رفض بعض المجموعات المنتمية لليسار والمجتمع المدني، الميل إلى الرقص والفرح الكرنفالي الذي ميّز الاحتجاجات اللبنانية منذ البداية، بحجة أنها تميّع الصراع وتشتت الناس عن مطالبها الأساسية. يمكن لفت الانتباه هنا إلى نقطة حول النمط الذي رست عليه الاحتجاجات في لبنان. لطالما عُرف اللبنانيون بحب السهر وميلهم الى الاحتفال الدائم، وكتب الكثير عن النادي الليلي بصفته مكانا يتعرف من خلاله اللبنانيون إلى بعضهم خارج الاصطفافات الحزبية والطائفية والمناطقية.

تعتبر هذه الأمكنة، كما ملاعب كرة القدم، مساحات للسياسة أيضاً، ولو كانت أقل حدّية منها. هناك تقليد لبناني معروف في الأندية الليلية، يرفع فيه كل شخص شارة الحزب الذي ينتمي إليه وهو يرقص، وذلك عندما تصدح أغنية وطنية معيّنة، وهو تقليد أقرب إلى اللعب، لكنه يثبت أن هذه الممارسات مسيّسة رغم أنها ترفيهية بالأساس. تبدو تظاهرات الثورة اليوم شبيهة بالحفلات الغنائية، وربما يشرف على منصاتها نفس الأشخاص الذين يديرون الأضواء والدخان في الأندية الليلية، كما أن وجود الـ دي جي أصبح معتاداً في ساحات كثيرة.

لا يمتلك اللبنانيون تراثاً احتجاجياً فعلياً يتكئون عليه في ثورتهم، ولا يمكنهم ببساطة استعمال تراث أيديولوجيات زائلة أو محصورة بفئات صغيرة، لذلك لجؤوا إلى إعادة تدوير نفس الممارسات التي مارسوها قبل الثورة، محولين الأغاني الوطنية المخصصة لأحزاب السلطة، إلى أهداف جديدة تخدم المسار المختلف الذي يريدون بناءه. 

ينطبق هذا أيضاً على أغان غير مسيّسة، كانت بالأصل محض ترفيهية، مثل أغنية فضل شاكر "فاكر لما تقولي" التي أصبحت وسيلة لتفريغ الغضب تجاه السياسيين بطريقة غير بعيدة كثيراً عن هتاف "هيلا هيلا هو"، و"نساي" لمحمد رمضان وسعد المجرد التي تعطي زخماً ثورياً وتلهب الساحات مع أنها أغنية ترفيهية، بالإضافة للأغاني الشعبية المخصصة للدبكة التي غيّر المتظاهرون كلماتها لتصبح متناسبة مع هموم الثورة (مثل مرت سنين لمجيد الرمح وأغاني وديع الشيخ المعروفة).

المساهمون