المخرجة هيكاري: في اليابان فسادٌ كثير... لهذا السينما موجودة

المخرجة هيكاري لـ"العربي الجديد": في اليابان فسادٌ كثير... لهذا السينما موجودة

17 يوليو 2019
هيكاري: هناك شخصيات في اليابان يتم تحطيمها معنويًا (فيسبوك)
+ الخط -
تُقدِّم هيكاري (ميتسويو ميازاكي)، المخرجة اليابانية الشابة، فيلمها الروائي الطول الأول، بعنوان "37 ثانية". يطرح الفيلم، الفائز بجائزة الجمهور في الدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي" (عُرض في "بانوراما") قضية التمييز الذي يتعرّض له المُصابون بالشلل الدماغي، الذين يُلقِي بهم مرضهم على الكرسيّ المتحرك.

من خلال شخصية ماي (يوما تاكادا)، رسّامة الـ"مانغا" الموهوبة والطموحة، التي تعمل لدى صاحبة دار نشر تستغلّها لتحقيق الشهرة على حسابها، ندخل في مأساة يومية، تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى بحثٍ عن الذات والهوية، في مجتمع لا يخلو من القيود الأخلاقية والسمات الأبوية.

"العربي الجديد" التقت هيكاري في برلين، في حوارٍ عن فيلمها الرقيق، الذي سحق قلوب المُشاهدين أينما عُرض.

(*) تتكلّمين الإنكليزية بطلاقة. هل أمضيتِ بعض الوقت خارج اليابان؟
ـ هاجرتُ إلى الولايات المتحدة الأميركية عندما كنتُ في السابعة عشرة من عمري. درستُ هناك. عائلتي لا تزال تعيش في اليابان. كان عليَّ أن أتركها. أعيش الآن في لوس أنجليس.

الفيلم إنتاج ياباني مشترك مع الولايات المتحدة. التصوير بأكمله جرى في اليابان، وبعض المَشاهد مُصوّرة في تايلاند. أعتبره فيلمًا يابانيًا من حيث الروح. تقول لي إنك أحسستَ السرد أميركيًا بعض الشيء، بمعنى أنّي أغازل الجمهور العريض. هل تعتقد ذلك؟ ربما لأنّي درستُ في الولايات المتحدة، حيث يعلّمونك صناعة الفيلم بطريقة معيّنة.


(*) كيف نشأت فكرة الفيلم؟
ـ قبل 4 أعوام، حاورتُ طبيبة نفسية أميركية تُشرف على مرضى يعانون "تروما" نفسية حادّة خلال ممارسة الجنس. أخبرتني أنّ الرجل، خلافًا للمرأة، يصعب عليه بلوغ النشوة الجنسية بعد إصابته بالشلل. جعلتني أكتشف أن طبيعة التجاوب بين الرجل والمرأة المُقْعَدين مختلفة. هذا ما حثّني بدايةً على إنجاز الفيلم. وددتُ معرفة الفوارق بين جسد الرجل المُقْعَد وجسد المرأة المُقْعَدة، وكيف يعمل عقل كلّ واحدٍ منهما. باشرتُ محاورة عدد كبير من الرجال والنساء المُصابين بالشلل الدماغي. علمتُ مثلاً أنّ المرأة يُمكن أنْ تضع مولودًا حتى لو كانت مُقْعَدة، وأنه يُمكنها ممارسة الجنس.

انطلاقًا من بحوثي هذه، كتبتُ سيناريو كاملاً عن قصّة غرام، يختلف عن الفيلم الذي شاهدته. إلاّ أنّ شيئًا ما تغيّر عندما اخترتُ الممثّلة الرئيسية. تعرّفتُ إلى ماي بطلة الفيلم، التي ليست ممثّلة محترفة. هي مُقْعَدة فعلاً. اخترتها من بين 50 شخصًا. أخبرتني أنّها عند ولادتها لم تتنفّس لمدّة 37 ثانية، ما سبّب لها الشلل مدى الحياة. استلهمتُ من حكايتها عنوان الفيلم. أعجبتني جدًا. كانت رائعة، لكنّها أصغر سنًّا مما كانت عليه في السيناريو، لذلك غيّرتُ القصّة كلّها كي تتناسب مع وضعها الجسدي. هي مثلنا جميعًا. تشعر بما نشعر به، لكنها تعاني مشكلة نموّ.

(*) ما الذي جعلك تقتنعين بها فورًا؟ علمًا أنها أجادت التمثيل بشكل استثنائي.
ـ كان رد فعلها سريعًا جدًا. تفاعلت معي. هذا شديد الأهمية في فيلمٍ، يُفترض بها أنْ تضطلع فيه بدور فتاة من ذوي الحاجات الخاصة. كلّ شيء حولها يُدهشها.

(*) الفيلم موثَّق جدًا بمعلومات عن الحياة في اليابان، إلى درجة أنّي تساءلتُ عمّا إذا خطر لك إنجاز وثائقيّ في الأساس.
ـ في الحقيقة قابلتُ أناسًا كثيرين، لأنّي أريد أن أكون مخلصة للواقع. لذلك، بعد لقائي الطبيبة الأميركية، التقيتُ نساءً عديدات. الشخصيات كلّها، التي تراها في الفيلم، لها وجود في الحقيقة، ولم أخترعها. لم أقم إلّا بوضعها في سياقٍ كي تصبح جزءًا من حكاية. توشيا مثلاً صديق لي. هو سائق كما في الفيلم. حتى إنّي لم أغيِّر اسمه. يعمل سائقًا لعاملات جنس يقدّمن خدماتهنّ لذوي الحاجات الخاصة. شخصية الأم هي، إلى حدّ كبير، خلاصة نموذجية للأم التي لديها طفل مُقْعَد: تكون عادةً مُتملّكة ومُتسلّطة. هذه حقيقة لمستها عند الأمهات جميعهنّ، اللواتي تعرّفت إليهنّ.

(*) التملّك وعدم تقبّل فكرة أنّ الطفل كبر وبات حرًا مُستقلاً، هذا فيه شيء من العقلية الشرقية. أهكذا أنتم في اليابان؟
ـ صحيح. أحيانًا كثيرة، عندما يولد الطفل مُشوّهًا أو مُصابًا بمرض ما، يشعر الأهل بالذنب. تعتقد الأم أن هذا حصل لأنها أخطأت في مكان ما من حياتها. إلى المشكلة التي يعانيها الطفل، تُضاف مشكلة الإحساس بالذنب، الذي يدهم الأهل، ما يجعلهم يبالغون في الاهتمام بالطفل، حتى لو كبر وأصبح راشدًا. تعتقد الأم دائمًا أنّها مُقصّرة تجاه طفلها. تريد الاطمئنان إليه باستمرار، ومعرفة ما إذا كان سعيدًا، وأنه لا يحتاج إلى شيء. عقلية الحماية تتحكّم بها. ربما هناك أشخاصٌ يعترضون على صورة الأم التي أقدّمها في الفيلم، قائلين إنّي بالغتُ بعض الشيء. لكن هذا ما شاهدته فعلاً بفضل لقاءات أجريتها مع الأمّهات.

(*) أحسستُ بالذنب لأني كرهتُ شخصية الأم بسبب ما تفعله بابنتها. الآن، بعدما أدركتُ الظروف، ازداد عندي هذا الشعور.
ـ آه. هذا جميل.



(*) طوكيو شخصية بحدّ ذاتها في الفيلم.
ـ يصعب جدًا التنقّل في طوكيو إذا كنتَ من ذوي الحاجات الخاصة. طوكيو مدينة صاخبة. فيها الكثير من الضوضاء والزحمة. لم أردْ التركيز كثيرًا على هذا الأمر، لكن ـ في الوقت نفسه ـ وددتُ لفت نظر سكّانها إلى هذا الموضوع المهمّ.

(*) تُلمّحين أيضًا إلى الذكورية في المجتمع الياباني.
ـ نعم. الثقافة اليابانية ذكورية جدًا جدًا. الشاب المُقْعَد بإمكانه أنْ يفعل ما يحلو له، وكيفما يشاء، وساعة يريد. لكن الأمر مختلف عندما يتعلّق الموضوع بالفتيات، علمًا أنه توجد خدمات معيّنة للفتيات أيضًا. هذه الازدواجية في المعايير تجعل مُقْعَدات كثيرات يجلسن بين الجدران الأربعة، ولا يغادرن المنزل. أردتُ القول إنّ على الحال هذه أنّ تتغيّر. لا أحد يجب أنْ يكون عائقًا أمام هؤلاء الفتيات.

(*) أتدرين أن العالم العربي يعتبر اليابان بلدًا نموذجيًا؟
ـ (ضحك). لا. هناك مشاكل عديدة في اليابان، لكن الناس لا يحبّون التحدّث عنها، وعرضها أمام الآخرين. عندما تخطئ الحكومة، يحاولون التعتيم على الخطأ، وتوجيه أنظار المواطنين إلى أماكن أخرى. لذلك، يبدو كلّ شيء من الخارج مثاليًا، والصورة برّاقة جدًا. لكن إذا قُمتَ بالتنقيب فستجد فسادًا كثيرًا تحاول الدولة طمره. لهذا السبب، الفنّ السينمائي موجود.

هناك مقولة يابانية: "إذا شمَمْتَ رائحة كريهة تنبعث من شيء معين، فضَعْ غطاءً عليه". هذا من صميم ثقافتنا. هناك دائمًا هوس الأكثرية. أي قضية لا تصل إلى الرأي العام، إذا لم تكن هناك أكثرية تُطالِب بها. فيلمي هدفه التوعية. ذلك أنّنا نعيش في مجتمع محافظ، رغم الانفتاح الجنسي الحاصل. يوجد "كونتراست" كثير في حياتنا. اليابان بلد روحاني أيضًا، ولا يمكن تجاهل هذا الجانب.

(*) في "37 ثانية"، تتطرّقين إلى هوس الشباب بوسائط التواصل الاجتماعي، من خلال شخصية كاتبة القصص المتسلسلة ساياكا، التي تلجأ إلى مواهب ماي في الكتابة. هل هذه فعلاً ظاهرة حقيقية في اليابان؟
ـ نعم. هذه الكاتبة تطمح إلى أن تكون شخصًا ليست هي إياه في الحقيقة. ربما يحاول أحدنا أنْ يكون شخصًا آخر، لكنها هي تجسّد حالة متطرّفة. هي ليست فنّانة، بل تسرق جهود الآخرين لتتباهى بشيء لا فضل لها عليه.

(*) هل كان من السهل الوقوع في فخّ استدرار العطف تجاه شخصيتك؟
ـ لم أُرد نصًا سينمائيًا يجعلك تأسف على حالة ماي. هذا أكثر ما حاولتُ تفاديه. في المقابل، وكما سبق أنْ ذكرتَ، بعض المواقف ربما تجعلك تشعر بالذنب، ولا سيما علاقتها مع أمها. بدلاً من استدرار العطف، اخترتُ مبدأً سينمائيًا، يدفع ماي إلى القيام بما تطمح إليه، من دون تدخّل أحد. أردتُ لها استقلالية لم تستطع الحصول عليها قبل الفيلم. لم أسعَ إلى الشفقة. في النهاية، ماي فتاة قوية تفرض نفسها. كلّي أمل أنّها ستُلهم الناس، وأن كثيرين سيحذون حذوها، بدلاً من البكاء على مصيرها.

(*) أيمكن اعتباره فيلمًا سياسيًا؟
ـ هناك جانب سياسي، بطبيعة الحال. تستطيع قول هذا من النحو الذي أسعى فيه إلى الدفع بالشخصيات الهامشية إلى المقدّمة. هناك شخصيات غير مرحَّب بها في المجتمع الياباني، أو يتمّ تحطيمها معنويًا، إذْ بمجرد الحديث عنها، وإدراجها في سياق الأحداث، يُمكن أنْ يتحوّل (هذا) إلى فعلٍ سياسي، حتى لو لم تكن نيّتي أساسًا اللعب بالسياسة.

(*) ما رأيكِ بالاتجاه الذي سلكته السينما اليابانية في الأعوام الأخيرة؟
ـ أهوى أفلام كوريه إيدا. أجده مخرجًا ألمعيًا. أحبّ طريقة عمله: بناء الحكاية بالتعاون مع الممثّلين، ثم النظر في إيجابيات هذا النمط وسلبياته. في المقابل، هناك أفلام يابانية كثيرة تُصنع في إطار الاستوديوهات، ولا تُعرَض خارج البلد، وترتكز على قوالب سينمائية جاهزة ومكرّرة.

دلالات

المساهمون