بيروت - برلين - دمشق

بيروت - برلين - دمشق

06 أكتوبر 2014
برلين من فوق (Getty)
+ الخط -
الصورة البصريَّة الأولى التي تتركها المدينة في ذاكرتك، وتبقي على أثرها فترة أطول من الفترة الزمنية التي شاهدتها فيها، وأنت تنظر إليها من نافذة الطائرة، قد تكوّنُ مدخلاً ملائماً وهامَّاً لتكوين نظرة عامَّة وأساسيّة عن هذه المدينة. فنظرة قصيرة وعابرة إلى مدينة كبيرة ورحبة مثل برلين، كما تبدو من فوق، تختلف أشدّ الاختلاف عن نظيرتها بيروت الصغيرة والضيقة.
برلين ذات البيوت الخفيضة المتباعدة، والشوارع الكبيرة الفسيحة، حيث الأبراج قليلة والمباني متباعدة، مدينة تسع رغبات التنقل السهل والمنتظم بين أحيائها. فيما بيروت، ذات الأبراج الهاربة الطارئة من جوف الأرض، والشوارع الضيقة المختنقة، والمباني المكتظة المتراصَّة، مدينة تصعّب الحركة، ويغدو التنقل داخلها مشكلة يومية، سواء لأهلها أم لزوّراها الكثر.
الراحة الفاصلة بين الأمكنة في برلين، والضيق المتوتّر بين الأمكنة في بيروت، المساحة المتساوية بين الأبنية المتباعدة تمثل الرغبة الألمانية في توزيع السلطة والثروة بعدل حاسم، كما أنَّ التباعد المكاني يعلي من شأن الفرد بزيادة المساحة الماديّة لصالح حيّزه الخاصّ. يمثّل البرج الشوق الشرس لكلّ من السلطة والثروة إلى التكثف والتركّز والتجمُّع، كما أنّ ضيق الحيّز المكاني يحفّز على الحميميَّة المُساعدة على التحشيد، والداعمة لتشكيل الجماعة. المكان الكثير في برلين هو لقليلين منثورين، فيما المكان القليل في بيروت هو لكثيرين مجتمعين.
الفارق الصارخ الأوّل، بالنسبة إلى مسافر من مكان مثل برلين، حيث تعدّ الدقَّة والقانون فيه شأناً عاماً مقدساً، إلى مكان مثل بيروت، حيث الالتزام والقانون تفصيل صغير ومهمّش، هو علاقة الأفراد بالقانون العام. ففي ألمانيا ثمَّة تطابق أكيد بين المنطق العقلي والقانون الوضعي، أي أنّ اختراق القانون هو أمر مرفوض، ليس لأنّه غير قانوني، بل لأنّه غير منطقي وغير عقلي وخارج نطاق المفكّر به لدى عموم الألمان.
أمّا في البلاد التي تكون فيها تقاليد احترام الدولة ضعيفة، فإنَّ ثمة تعارضاً بين المنطق العقلي والقانون الوضعي، علاقة الجماعات بالقانون العام ملتبسة وجدليّة، واختراق القانون هو أمر مستباح وعادي، فالقانون أصلاً وجد ليُخترَق!
في أيامي القليلة التي قضيتها في بيروت أخيراً، تغيّرت هذه المدينة كثيراً منذ آخر مرة زرتها فيها: المزاج العام والسلوكيات الفردية والحساسيّات الأهليّة ونوعيّة مواضيع النقاش في الفضاء العام. آثار ما يحصل في سورية تبدو واضحة. فالسوريون في كلّ مكان تقريباً من المدينة، يشكّلون أكثر من ربع الشعب اللبناني، والعلاقة بين الشعبين السوري واللبناني تزداد سوءاً وتدهوراً وحدّة، ولا يندر أن تسمع في سيارة عمومية شتيمة واضحة ومباشرة إلى شخصك السوري.
الوجود السوري هو مخدّر مؤقت وعلّاقة ممتازة تعلّق عليها النخب السياسية والاقتصادية اللبنانية مشاكلها الداخليَّة السابقة على وجود السوريين بكثير. وليس مستغرباً أن تكون العلاقة بين الشعبين السوري واللبناني على هذا الشكل الكارثي، فكلا الجماعتين عائدة من فشل ذريع في التحوّل إلى شعب، كلا الجماعتين أضحت طوائف وعشائر.
السوريون في لبنان مقسومون إلى قسمين، قسم يرتاد المقاهي والبارات والمطاعم، وقسم ثانٍ مخصَّص لخدمة القسم الأوّل. الانقسام الطبقي وشروط الحياة المرفَّهة لم تتغير كثيراً من سورية إلى لبنان، والطبقة البرجوازية اللبنانية ترى نفسها قريبة إلى الطبقة البرجوازية السورية، أكثر من قربها إلى الطبقة المسحوقة اللبنانية، والأمر ذاته بالنسبة إلى السوريين.
في زيارتي القصيرة إلى بيروت تأكّدت من عدم وجود شعبين سوري ولبناني، ثمَّة غنىً واحد في بلدين، وفقر واحد في البلدين نفسيهما.

المساهمون