الأغنية الشعبية السورية: النواس القلق والمقياس

الأغنية الشعبية السورية: النواس القلق والمقياس

04 يناير 2020
سارية السواس تُغنّي بلهجة تمزج العراقي بالسوري (Getty)
+ الخط -
ليس زئيرُ محرك الميكروباص وحده، سواء المُنتفض والمنطلق بسرعة الموت، أم المُحتقِن احتباساً تحت هيكل "جسر الرئيس" احتقانَ سيارات "الفورمولا - ونّ" قبل احتدام السباق على اقتناص الركّاب، ليس ذاك وحده ما ميّز الأجواء السمعية للصباحات والأماسي الدمشقية عند تمام انقضاء الألفية الثانية منذ قرابة العشرين عاماً وحتى اليوم ربما. وإنما، إضافةً لهذا، كانت أصداء الأغاني الشعبية التي عبرت أرجاء التسعينيات، تركبُ الحافلات والناقلات وسيارات الأجرة، تُسمع من مخافر الحراسة وملاهي السهارى والسكارى في الضواحي المُحيطة والأرياف النائية البعيدة، تُغنّي بلهجة ساحلية تارة، وتارةً فراتية لمُجتمع بات أقرب من أي يومٍ مضى إلى شفير الهاوية.

لم تكن الأغنية هي الشرَّ المُغير والمُستطير، وإنما النذيرُ الذي سمعه الكل ولم يُنصت له أحد. الفن عموماً، الشعبي منه خصوصاً، هو بُخارٌ يتصاعد نتيجة التشكّلات والتفاعلات، التحلّلات والتآكلات داخل قِدر المُجتمع، الذي ظلّ يغلي بالتناقضات بفعل الانتقال الوعر من زمان عقيدة الصمود والتصدّي، إلى زمن غنيمة التربّح والتعدّي، في مشهد تحولات داخلية، إقليمية وعالمية، أطاحت بمشروع الطبقة الوسطى؛ فتحول الناس، تدريجيّاً، إما إلى مُهيمنين منتفعين، أو إلى مُعدمين منتظرين إما الموت أو الهجرة.

ليست أغاني "القاع"، ويعود هذا الوصف إلى الكاتب محمود منير في مقالة شيّقة له تحت عنوان "أغنيات الصندوق المُعتم"، مارقةً بالضرورة، ولا هي موصومة بالعار أو مبتذلة، لا هي ولا من يسمعها، سواء إيجاباً عن سبْق رغبةٍ وتذوّق، أم سلباً بمحض عبور الشارع وركوب الميكرو والتاكسي، بل إن كثيراً من العناصر الموسيقية الداخلة فيها والمُشكلة لها، بوعي مؤديها ومنتجها أو بحُكم بيئته، هي جماليات فريدة، جذّابة وأصيلة تعود إلى البادية والساحل والجبل، الناي والمجوز والطبل، حتى لو بُرمجَ بعضها في أورغ مُحَوسب ليُلعب بكبسة زر أو لمسة إصبع، الموال والعتابا والردح والزغاريد، كلها موروثات شعوب المنطقة أعوامَاً مؤلّفة. المُثير في هذا الصدد، إنما هو دلالاتها الاجتماعية والثقافية، والأنباء التي حملتها معها عن القادم من الأيام.

قبل أن تكون أغنية قاع، كانت الأغنية الشعبية بوقَ صدرٍ واسع من المجتمع السوري، غُيّب غداة البدء في مشروع الدولة، لم يُمثّل أيٌّ من الريف والساحل والبادية سياسياً في سورية بعد الاستقلال سوى من خلال نُخبٍ إقطاعية، بينما عاشت برجوازية المُدن في دمشق وحلب في شبه "سورية مُفيدة" معزولة عن الأرياف التي لم تكن لترد في خاطر أحد "البكوات" سوى في مواسم الانتخابات وخلال بضع زيارات مُقتضبة مُتعالية إلى مراكز البلديات والقائم - مقاميّات.

مع انقضاض حزب البعث على السلطة عام 1963، انفتح الريف على المدينة عن طريق قوانين التأميم والإصلاح الزراعي ومؤسسات الجيش والأمن، بقدر ما أتى العهد بالوعد إزاء النهوض بالريف، على قدر ما أدّى إلى هجر القُرى والهجرة إلى المُدن، تزامناً مع عجز السلطة عن تفكيك بُنى الإقطاع القبلية والعشائرية، إضافة إلى الفشل في تطبيق خُطط التنمية التي بقيت مخطوطات على اللافتات. انعكاسا لواقع مُجتمع مدني بائد مُستقبِلٍ لعنصر ريفي وافد، ظهرت الأغنية الشعبية، ولمعت أسماء كفهد بلان، وسميرة توفيق، وذياب المشهور.
لم يكن حينها ليتسنّى لأي من المواهب التواصل مع الجمهور من دون العبور ضمن القنوات الرسمية السيّدة على وسائل الإنتاج السمعي والبصري، أولها الإذاعة السورية وتاليها التلفزيون منذ تأسيسه عام 1960، حدّدت المؤسسات الحكومية معايير فنيةً ضبطت الأغنية الشعبية لجهة الكلمة واللحن، وُزّعت أدوارها على فرقة الإذاعة التي اتخذت لها شكل التخت المصري المُرفق بجوقة مُردّدين أو "سنّيدة"، هُذّب المعنى والمغنى ودُرّب المؤدون بإشراف روادٍ كخلدون المالح، عبد الفتاح سكر ومصطفى هلال، لتُنتج ظاهرة "المُطرب الشعبي" استجابةً لطبقة وُسطى هجينة بين أهل ريف ومدينة.



استمرّ الحال حتى نهاية الثمانينيات، بعدها أخذت مُتغيّراتٌ كُبرى، منها المحلّي والعالمي، تُبدّل المناخ الاقتصادي والاجتماعي، ناهيك عن السياسي، لتحرف المشهد الفنّي عن الساكن السائد، كل من الانفتاح التدريجي نحو اقتصاد السوق، والانسلال من تحت عباءة الاشتراكية ولوجاً في تراتبيّة الفساد وزبائنيّة السلطة، أنتج ليس فقط مُجتمعاً جديداً، وإنما بيئةً فنّيةً تحرّرت إنتاجياً، بموجب السماح بقطاع مرئي سمعي محلّي خاص، فتحلّلت نوعيّاً مع تحلّل مشروع الطبقة الوسطى انحداراً نحو ثنائية القمّة والقاع، الترف والعدم، الداهس والمدهوس.

لم يعد مبنى الإذاعة في "ساحة الأمويين" مطبخ النجوم، وإنما ملهى الليل في "الربوة" وفي "معربا". لم يعد الإنتاج الفنّي حكراً على وزارة الثقافة ووزارة الإعلام، وإنما صار بمقدور أيّ مصوّرٍ هاوٍ أن يسجّل حفل زفافٍ أو حفلة رقص يُحييها مُغنّ شعبي في أحد المقاصف الجبلية والساحلية، لتُباع شرائط وأقراصاً مُدمجة في الأزقة وعلى أرصفة الطرقات، وقريباً ستُرفع على منصّات الإنترنت وتُحمّل على الهواتف، مُوجّهةً المزاج الفني العام، راسمةً ملامح البيئة الصوتية الصاعدة.

الهويّة المناطقية بدورها أخذت تطفو على سطح الأغنية الشعبية منذ مطلع الألفية الثالثة، مقابل سمة وطنيّة في ما مضى، أو ما سُمّي بـ "القطرية" في أدبيات حزب البعث، وإن نُكّهت ريفيّاً بدعوى تمثيل الضباط وطبقة (العمال والفلاحين)، فُسمع كل من فهد بلان وسميرة توفيق يُغنّيان بلهجة بدوية مُخفّفة ذات تأصيل عروبي متفق والبعث إيديولوجياً، فيما اكتفى مُطرب جبلي كفؤاد غازي بلهجة أقرب للدارج الشامي، في الحفلات الرسمية والعامة على الأقل.



جيل الألفية الثالثة، بات أكثر جرأة في اعتماد اللهجات المحليّة، وأقل حرجاً لناحية تعرية أوجه تمثيل اقتصاديّات السلطة ثقافياً داخل المجتمع السوري، على الأخص في العاصمة دمشق، فُسمع علي الديك مثلاً يُغنّي بلهجة أهل الجبل، فيما سارية السواس تُغنّي بلهجة تمزج العراقي بالسوري البدوي والفراتي، أحد الأسباب قد يكمن، كما أشار مُنير في مقالته، في لجوء العراقيين إلى سورية عام 2003، بيد أن فتح سوق السياحة الليلية أمام السُياح من الدول الخليجية، يُرجّح لأن يكون العامل الأبرز في اعتماد السواس وسواها ذلك اللون وتلك اللهجة.


الملهى الليلي، مطبخ الغناء الشعبي، مُلتقى السّيد الغني والعبد الفقير، في ظل غياب المُثقّف المُستنير والموظّف النزيه والمُدرّس القدير، هو إذن بفنّه وأجوائه، لسانُ حال استقطاب اجتماعي سحَلَ الطبقة الوسطى الحاضنة للذوق والحامية للتنمية، في الملهى تجاوَر كل من الفسق والفاقة، الفساد والكساد، في ظل قمع الطبقة الوسطى المُعتدلة مهابة تطوّر وعيها السياسي، لم يعد يشغل الكفّة المُقابلة من ميزان البلد سوى درس الدين والمسجد، فيما ظلّت سارية السواس بهزّة الخصر الرشيق ذاك النوّاسَ القلق والأنيق، ومقياس الخطر المُحيق الذي لم ينتبه إليه أحد.

دلالات

المساهمون