لا مكان للفن في لبنان: المشهدُ قاتمٌ

لا مكان للفن في لبنان: المشهدُ قاتمٌ

24 يونيو 2020
"انتفاضة 17 أكتوبر": الفساد السياسي أقوى (حسين بيضون)
+ الخط -
أخطاء السلطة الحاكمة في لبنان عديدة. مواجهة "كورونا"، اجتماعياً واقتصادياً على الأقلّ، أحدها. هناك أيضاً أسلوب التعاطي مع أزمات البلد، قبل الوباء وأثناء تفشّيه؛ والتنصّل من المسؤوليات إزاء غالبية ساحقة من المواطنين المُقيمين، حالياً، إمّا في الفقر أو على أبوابه، والإقامة تلك سابقة على الحالة الاستثنائية التي يعيشها العالم، ومُرافقة لها. مسائل كهذه معروفة. خطّة "التعبئة العامة" مُثيرة للسخرية، كالعودة إلى الأنماط السابقة على الفيروس في ممارسة حياة يومية. السماح لمؤسّسات وأمكنة بفتح أبوابها أمام الراغبين غير معنية بإجراءات صارمة تستند، أساساً، على أولوية "التباعد الاجتماعي". لكنّ الاستمرار في إغلاق صالات المسرح والسينما غير مرتبط فعلياً بتلك "التعبئة العامة"، فالسلطة الحاكمة في لبنان غير مُكترثة البتّة بشأنٍ ثقافي ـ فني. هذا دأبها منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، على الأقلّ.

منذ يومين، يتردّد فرنسيون كثيرون على صالات السينما في بلدهم. قرار إعادة الحياة، بأي شكلٍ ممكن، إلى هذا القطاع الثقافي ـ الفني الحيوي، صائبٌ ومدروس، فتنفيذه منبثقٌ من نقاشٍ ولقاءات واقتراحات مختلفة، تبحث في الشأن الثقافي ـ الفني العام، وتضع الحكومة الفرنسية أمام واجبها الوطني. الثقافة والفنون في فرنسا جزءٌ أساسيّ من السياسات العامة للبلد، بمجتمعه واقتصاده وناسه. الالتزام بـ"التباعد الاجتماعي" ركيزة في قرار عودة الحياة إلى تلك الصالات.

"سينما السيارات" أو "سينما درايف إنْ" خطوة بديلة، ربما تكون مؤقّتة أو ربما تستمرّ وتتطوّر. مؤسّسات وشركات أجنبية تعتمدها، منذ أسابيع، لتخفيف حدّة العزلة المنزلية، المستمرّة منذ 3 أشهر. إحداها في طهران. إعادة التجربة، بعد انقطاعٍ عنها ممتدّ أعواماً طويلة، تعكس رغبة فردية وجماعية في الخروج والتواصل والمُشاهدة والتنفّس خارج جدران المنازل. التزام المعايير الصحّية المطلوبة مُعتَمَد، والناس يتدفّقون إلى تلك الأمكنة بسياراتهم لتمضية وقتٍ طيّب في عوالم أخرى. في مدريد، يقول رجل ستينيّ إنّ الصالة السينمائية تبقى المكان الوحيد للمُشاهدة، وتوافقه امرأة يلتقيان معاً أمام مدخل إحدى الصالات في مدريد، قبل وقتٍ قليل، مع فتح أبوابها مُجدّداً، ولا بأس بالنسبة إليهما في ارتداء الكمامات والقفّازات، واحترام المسافة المطلوبة بين شخصين داخل الصالة.

لا مكان للسينما والمسرح في لبنان. المؤسّسات المعنيّة بهما خاصّة، والقطاع الخاصّ مضروبٌ طالما أنّه معنيّ بثقافة وفنون. وزارة الثقافة، المعطوفة حالياً على وزارة الزراعة في حكومة لبنانية تُدار من خارجها، غير مُكترثة وغير مهتمّة وغير مبالية وغير معنيّة. لا وقت لأعمالٍ لن تدرّ أرباحاً، لكنّ الملاهي الليلية، التي يُفترض بها أنْ تُغلق أبوابها منتصف كلّ ليل (بحسب "التعبئة العامة")، مسموح لها بالعمل، وإنْ يستحيل التزام التباعد الاجتماعي فيها. مثلها المسابح. المخاطر فيها كبيرة، لكنْ، بالنسبة إلى حكومة لبنانية كهذه، لا بأس، فالوضع الاقتصادي يحتاج إلى مداخيل، والسياحة في لبنان منهارة، ولا ضرورة للتنبّه إلى مخاطر الوباء، طالما أن وزير الصحّة حمد حسن غير ملتزم بها، إذْ يُرفع على الأكتاف في احتفال حاشدٍ له، لا "تباعد اجتماعياً" فيه ولا كمّامات ولا قفّازات، بمناسبة "نجاحه" في "مكافحة الوباء".

الصورة بائسة. المشهد قاتم. "كورونا" غير مسؤول عن الخراب المعتمل في البلد. الاهتراء حاصلٌ منذ سنين، وفضحه ناتجٌ من تحرّك شعبيّ يحمل اسم "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية، قبل أنْ يقضي عليها جشع حكّام وفسادهم، وعنف تعنّتهم وتشبّثهم بمواقع وسلطات ومصالح خاصّة. العاملون اللبنانيون في السينما والمسرح يُدركون انفضاض السلطات اللبنانية عن هذين القطاعين منذ زمن بعيد. هم لا ينتظرون منها شيئاً. الاستمرار في إغلاق صالات السينما والمسرح في لبنان، مقابل السماح لمؤسّسات سياحية مختلفة بالعمل (بعضها يُتيح تدخين النرجيلة، وهذا خطر كبير)، امتدادٌ لانفضاض تلك السلطات عمّا يتعلّق بالثقافة والفنون. يُدركون أيضاً حجم الخسارة في الثقافة والفن، فالانهيار المالي ـ الاقتصادي كبيرٌ وقاسٍ.

الرغبة في إعادة فتح أبواب الصالات السينمائية والمسارح متأتية من أهمية الثقافة والفنون في يوميات الناس. صحيحٌ أنّ عدد متابعي الأفلام والمسرحيات في صالات عرضها وتقديمها قليلٌ، نسبة إلى عدد السكّان والمقيمين في البلد. للسينما حضورٌ أكبر. رغم هذا، إغلاق تلك الصالات، مقابل السماح لمؤسّسات سياحية باستعادة نشاطها "كيفما كان"، يؤكّد مجدّداً الموقع الحقيقي للسينما والمسرح في "التفكير" السلطوي اللبناني، المنهمك في أمورٍ كثيرة، بينما المطلوب واحد: إنقاذ اللبنانيين والبلد من موتٍ طاغٍ، بتسهيل حصولهم على حقوقهم الطبيعية أولاً، كبشرٍ وكمواطنين. إعادة فتح أبواب الصالات لن تُساهم في درء المخاطر الوجودية عن البلد وناسه، لكنّها مطلوبة، لأنّها مُتنفّس، رغم أنّ غالبيّة الأفلام والأعمال، التي يُمكن أن تكون متنفّساً، تتعرّض لرقابة صارمة من أجهزة السلطة ومَن يحرّكها.

المقارنة بين واقعٍ لبناني وحيوية غربيّة غير نافعةٍ. للأول مآزقه الناتجة من تشكيل الحكم اللبناني لحظة الاستقلال المنقوص (1943). للثانية ارتباطٌ وثيقٌ بالاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية، الأصيل في البناء العام لدول ومجتمعات. النتاج الثقافي ـ الفني اللبناني عمل فردي بحت. النتاج نفسه في الغرب، كعمل فردي ـ جماعي، يلقى دعماً متنوّع الأشكال والآليات، من دون رقابةٍ تتفنّن، لبنانياً، في ممارسة تسلّطِ مُتحكّمين بالبلد وناسه.

لكنْ، على من تقرأ مزاميرك يا داود؟ فلا السلطة راغبة، ولا المجتمع منتبه، والناس يريدون مأكلاً ومشرباً، أساساً. أمّا المهتمّون، الذين يُواجهون الموت يومياً كالغالبية الساحقة من الناس، فانتظارهم فتح الصالات طويلٌ.

المساهمون